شبكة قدس الإخبارية

"عربي" و"أحمد" .. أيادٍ صغيرة تجلب لقمة العيش

٢١٣

 

هدى عامر

غزة-خاص قُدس الإخبارية: بخطواتٍ سريعة يمر حاملًا "صينية التقديم"، يسأل الجالسين على المقاعد إذا ما أردوا أن يشربوا شيئًا، "شاي، قهوة، نسكافيه؟"، تسير أقدامه الصغيرة جائلة من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب، مرات متتالية دون كلل، وبـ " تعبٍ" شقي للقمة عيش.

على أرض ميناء غزة، وجه طفولي تغبّر بالأسى، قدمان سمراوان ضعيفان، ملابس صيفية قديمة، قصر القامة مع ضعف البنية، في بشرته خمرة السمرة وكأن الشمس قد طبعت على جبينه علامة العمل تحتها على أرض الميناء حيث المتنفس والمتنزه للعامة، و"مكان العمل" له ولأقرانه.

"اسمي عربي"، قالها كمن يفتخر بإنجازٍ هام، وهو ابن الصف السادس الابتدائي الذي يترك حقيبته المدرسية أسفل "البسطة" مبدلًا ملابسه أحيانًا ليشرع في العمل، وربما لم يسعفه الوقت لتبديلها غالبًا.

يقول "عربي"، " بدأتُ العمل في البيع بالمينا من 3 سنين" حيث لم يتجاوز حينها التاسعة من عمره، مضيفًا " لم يجبرني أحد، نزلت ع الشغل لحالي، أبويا رجل كبير ما بيقدر يشتغل".

وأضاف لـ "قدس الإخبارية"، كان أبي صيادًا يعمل مع الريّس أبو هويدي، حتى أخذ الاحتلال مركبة الصيد الخاصة به، ويتمنى أن يعود للصيد رغم تجاوزه الـ 55 من عمره، ويسعى لشراء ماتور وتركيبه على " لنش بحري".

[caption id="attachment_66784" align="alignleft" width="300"]11198745_957549384255969_1017174769_n الطفل عربي يجول أرض الميناء باحثا عن لقمة العيش.[/caption]

"على جثتي"

يُبدل اتجاه الصينية من يده اليمنى إلى اليسرى، يعدل هيئته ويكمل القصة،" عندما توقف عمل أبي وتعبت صحته، فكرتُ أن أنزل برفقة أخي مُبارك الذي يكبرني بعامين"، مضيفًا "من يومها واحنا بنسرح ع المينا هو الصبح وأنا العصر بعد ما أروح من المدرسة".

بتنهيدة غير مفسرة " أخي مبارك خرج من المدرسة للأسف، لكني لن أخرج من المدرسة لو "على جثتي"، بدا متمسكًا كثيرًا بدراسته مجيبًا عن سؤال مستواه الدراسي " الحمد لله أقرأ وأكتب عربي وانجليزي وكله تمام"

يعينه الطموح، حينما قبض يده مؤكدًا أنه لن يترك المدرسة حتى ينتقل للدراسة الجامعية أسوة بأكبر أخوته السبعة الذي يدرس المحاسبة حاليًا وعمره 22"، مع العلم أنه أخوه الكبير هذا لا يعمل نظرًا لدراسته الجامعية، وأن عربي ومبارك، مسئولون عن إطعام عائلة ضمنها طالب جامعي.

أكثر ما يثير الدهشة حقًا، ليس أن تجد طفلًا صغيرًا يعمل، خاصة في ظل الاحصائيات المخيفة عن عمالة الأطفال مؤخرًا، حيث

الغريب بالفعل، هو كيف يدرك طفلٌ في الابتدائية ما غفل عنها شبان كبار، فـ إجابته عن السؤال الاستفزازي "لماذا تعمل ما دمت لست مضطرًا، ومن حقك أن يصرف عليك إخوتك لا أن تصرف أنت عليهم؟"، بدا الجواب صاعقًا حين قال،" السبع اللي بيطعمي عيلته" آخذة النشوة محلها فيه أنه كذلك.

[caption id="attachment_66785" align="alignleft" width="300"]11169143_957549330922641_2737033_n الطفل أحمد أبو ناجي يبيع الترمس بميناء غزة[/caption]

"طفل الترمس"

على الجانب الآخر من الجهة الغربية طل طفل آخر يحمل صينية مليئة بالأكياس، مناديًا من بعيد " يلّا ترمس يلّا ترمس"، يقترب من الجالسين على المقاعد يعرض بضاعته بذوقٍ رفيع يبدو وكأنه درس الاتكيت مسبقًا.

الطفل " أحمد أبو ناجي"، مشغولًا بتوزيع بضاعته حتى نسي تبديل زيه المدرسي، يدرس في الصف الرابع الابتدائي ولم يتمم بعد عقده الأول

لا يتعدى طوله المتر الواحد، يداه التي تحمل الترمس صغيرة جدًا إلى الحد الذي يخيل للناظر أنه تعب من حملها أكثر من عامل باطون في عمله اليومي، ليتحصل بالنهاية على مصروفٍ يومي قدره " 2 شيكل" عوضًا عن جولاته ذهابًا إيابًا على أرض الميناء.

يقول أحمد في بوحه لـ "قدس الإخبارية"، "أنا ومحمد أخويا بصف سادس نعمل مع أبوي في البيع بالمينا لنساعده، لأنه بيقدرش يشتغل لحاله"، مضيفًا "أبي كان يعمل في السلطة القديمة وأصيب خلال الانقسام الفلسطيني وانقطع راتبه".

يتابع الطفل العامل " احنا في البيت 12 شخصًا، 7 بنات و3 أولاد وأبي وأمي"، مضيفًا "لو احنا ما اشتغلنا مع أبويا مين بدو يشتغل؟"، موضحًا أن أبيه لم يجبره على العمل، لكنه يحب مساعدته لأجل أمه وأخواته، كما قال

منذ عامين وأنا أتى إلى هنا يوميًا بعد دوام المدرسة، مضيفًا " بجيب في المدرسة 20 من 20 و لما أكبر بدي أصير اشي كبير".

تبقى الطفولة ضائعة بين غليان القهوة وقشر الترمس، لتصنع من أطفال رجال اضطرتهم الحياة أن يفهموا معنى التكافل الأسري وأن يعوا جيدًا كيف تُحمل مسئولية العائلة.