يجلس ذلك "اليساري" الصهيوني في إحدى المقاهي في "تل أبيب" متحدثًا مع فلسطيني من نوع "إنساني" أليف، ومحتسيًا معه بيرة "جولد ستار" ومناقشًا إياه. يسأله إلى أين سيذهب لو حرّر الفلسطينيون بلادهم؟ ما الذنب الذي اقترفه في كونه قد خُلق في هذه البلاد؟
ينتهي اللقاء.
يعود "اليساري" مع صديقته الروسية إلى بيته الذي يعود لعائلة فلسطينية لاجئة في مخيم شاتيلا في لبنان، وأما "الإنساني" فيعود وهو مثقلا بهموم الاسئلة المطروحة عليه والتي كانت من شدة سذاجتها قد أقنعته.
يكفيك إذًا أن تقوم بقتل شعب وبتهجيره وقتل هويته وانتمائه وتاريخه وارثه وسرقة أرضه ليأتي أبنائك من بعدك ليستمروا على نهجك دون أن يكون أي ذنب لهم.
يبدأ "الإنساني" بالمبادرة بطرح هذه الأسئلة على الجميع، يجد نفسه حاملًا عبء احتلاله، ومحاولاً أن يجد حلًا "إنسانيًا" لعدوه ومغتصب أرضه وشعبه، وينسى أبناء جلدته في الشتات ومعاناتهم المستمرة.
أما عيسى ابن يافا اللاجيء الفلسطيني في مخيم شاتيلا يلعن الدنيا في اليوم ألف مرة ويلعن المخيم وحالة اللجوء والمعاناة، يضطر حين يعود إلى بيته في المخيم أن يعبر بعض الأزقة بالطول لا بالعرض ليتسع جسمه، ويتجنب النظر إلى الأعلى حيث الأسلاك الكهربائية العشوائية الكثيفة، ويكون قد حالفه الحظ لو كان نهر المجاري في هذا اليوم قد جف.
"إنساني" آخر من نوع "وطني" محلي يقرر أن يدافع عن "أقليته" في دولة الكيان الصهيوني بالمشاركة في انتخابات الكنيست لإلغاء قانون "عنصري" ما أو للحصول على بعض الامتيازات الوهمية هنا أو هناك. يصّر على تطبيق نظرية "ما بعد القوقعة" فوق قوقعته الحالية، يغضب ويصرخ على منبر قاتل أخيه في قطاع غزة، يخرج راضيًا عن نفسه في الوحل الذي قد جر إليه طوعا. ولو أنه تناسى كل شيء فعليه أن لا ينسى أن الشارع وحده هو الذي يؤدي إلى التغيير الفعلي دون التطبيع مع الكيان أو أداء قسم الولاء له.
أحد أركان المشكلة الرئيسية المهمة تكمن في حصر نضالنا بشكل مناطقي منفصل عن الهم الوطني العام الجامع، عليك أن تخرج ليس من صندوق الانتخابات فقط بل من صندوق الواقع المفروض عليك.
إن تحرير فلسطين والنضال من أجل ذلك هي مسؤولية كل فلسطيني أينما وجد، في الأراضي المحتلة عام 48 والقدس والضفة الغربية وقطاع غزة والشتات، وهي مسؤولية جماعية وفردية لا تسقط على الفرد إلا بالشهادة ولا على الجماعة إلا بالتحرير.
ولمنظّري الواقعية المغمسة بالذل، قالها الحكيم سابقًا: "الثورة قامت لتحقيق المستحيل لا الممكن"، بقيت المقولة شعارًا حتى طبقتها المقاومة في غزة، والتي بدأت بالحجر والمولوتوف لتنتقل إلى المسدس والرشاش، ولم تنته بالصواريخ وطائرات الاستطلاع.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من نضال لا ينفع.