شبكة قدس الإخبارية

فيلم "Interstellar" .. الفيزياء الحديثة ودين العالم الجديد

سعيد أبو زينه

 كان برتراند راسل الفيلسوف والرياضي الشهير واحدا ممن اختار حلا للمعضلة الناجمة عن القول بالتعارض بين العلم والدين، فالدين بحسب التصور السائد ما بعد عصر النهضة منظومة متكاملة تفسر الكون والحياة وتجيب عن أسئلة الوجود لكنها كمنظومة ليست تجريبية وإذا فلا توافق منهجية العلم الطبيعي في البحث والاختبار، فالمعضلة إذا من منظور العلم هي في كون هذه المنظومة لا يمكن إثباتها، فيلجأ العلم إذا إلى العودة إلى الصفر واختبار أدلة الوجود واحدا واحدا تحت عدسة التليسكوب أ, فوق عدسة الميكروسكوب فما ثبت منها فهو الحقيقة، غير أن راسل يرى أن ما توصل له العلم التجريبي من حقائق قليل جدا بحيث لا يمكن من خلاله الإجابة على أسئلة الوجود إجابة شاملة كما يفعل الدين، فما الحل لهذه المعضلة، وهل سيبقى العلم تجريبي على نمطه البطيء في الاكتشاف تائها عن حقائق الوجود إلى أجل لا نعلمه، أم هل سيستسلم خاضعا لإجابات الدين خوفا من أن يستوحش في كون لا يزال كل يوم يزداد اتساعا وعمقا وبعدا عن الفهم.

الحل عند راسل هو في الفلسفة، فهي كما يرى الطريق الثالث الذي لا يستسلم "للخرافة" ولا يكتفي بالتجريب، بل سلاحه العقل والأنساق االتفسيرية التي تستمد من الحس ولا تقف عنده وتتجاوزه دون أن ترتطم بالخرافة.

هذا الاعتراف بكون الوضعية العلمية غير كافية ولا هي مصدر يمكن أن يعتمد عليه الإنسان كلية للإجابة عن أسئلة الوجود هو ما يمكن أن يفسر ذلك النزوع الواضح للفيزياء النظرية والمشتغلين بها نحو خلق أنساق ونماذج تصورية بناء على ما توصلت له من نظريات، فمن الأوتار الفائقة إلى الأبعاد المتعددة إلى البرانات ومن ثم نظرية "إم"، وما يتبع هذه التصورات من احتمالات لا ينكرها العلماء من إمكانية وجود مخلوقات فائقة الذكاء في بعد خامس أو سادس أو سابع، ترانا ولا نراها. كل هذا نراه نحن نزوعا من العلم التجريبي نحو الفلسفة، بل هو في بعض مناحيه مزاحمة للأديان في تصوراتها وجود موجود مباين فوقي، وهو إذا وقوع في محذور راسل وارتطام بسور "الخرافة".

كانت دعوانا في مقالنا السابق من خلال استقرائنا لأهم أفلام هذه السنة أننا نتلمس نمطا شفيفا يمكن أن نعتبره معالم دين جديد أساسه نظريات وتصورات العلم الحديث، ومكوناته وتعاليمه متماهية مع أخلاق الحداثة -أو ما بعد الحداثة- نمط نستشرف من خلاله ميلاد فلسفات دينية جديدة، ونشأة علم لاهوت يستطيع العقل الغربي المسكون بهاجس الكنيسة أن يتعايش معه ما دام أن العقل العلمي هو مؤسسه وما دام أن إله الأديان ليس له مكان فيه، بل هناك إله من نوع مختلف لم ندر طبيعته وكنهه حتى شاهدنا فيلم نولان الأخير Interstellar يقدمه لنا في عرس فضائي مصحوب بموسيقى "هانس زيمر " الكنسية المؤثرة.

وفيما يلي تأملات بسيطة في فيلم كريستوفر نولان الذي يبشر بأن يكون أهم فيلم في هذ العقد، وأكثر أفلام الخيال العلمي دقة وحبكا، نكشف من خلالها عن نزعة في جوهرها متحدية للأديان تمثل كما نراها "سفرا مضادا" في سلسلة الأسفار التي تروج لها هوليوود، فيمكننا أن نقول حين رأينا نوحا يسرد قصة النشأة لعائلته داخل سفينته من منظور تطوري واضح في فيلم Noah، أن هذا الفيلم هو السفر المضاد لسفر التكوين الذي يبحث في قضية خلق العالم وبدء النشأة. وبالمثل يمكننا أن نقول عن فيلم interstellar حيث يبحث في موضوع نهاية العالم أنه السفر المضاد لسفر الرؤيا وسنرى ما هو سيناريو نهاية العالم من وجهة نظر الدين الجديد.

الساعة الأولى

خلاصة ما نراه في الساعة الأولى من الفيلم جدل منطقي درامي بين نزعة العلم للاكتشاف والريادة ونزعة الاجتماع البشري في مكوناته الحضارية والثقافية المتوقعة في المستقبل القريب والتي لم تتخلص بعد من أسر "الخرافة" و من اليأس من إمكان النجاة، كيف لا والأديان قد قررت نهاية العالم كحتمية لا فرار منها، وإذا فجهود المجتمع في ذلك الوقت هي في النجاة ما أمكنهم إلى حين تأتي ساعة النهاية وشعارها "إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها"، وإذا فالحاجة للغرس والزراعة أولى من إشباع غرور العلم، كيف لا والحقيقة ستلوح للجميع عند النهاية.

وسيخوض بطلنا غمار هذه الصراع بعقلية علمية رصينة مؤمنة بإمكان أن نتخلص من النهاية هذه التي تحدثنا عنها الأديان فقانون مورفي هو شعاره" ما لا يمكن أن يحدث سيحدث" وهكذا يخبر ابنته "مورف" أن اسمها في ظروف الأرض الآيلة إلى الفناء لا يعود تشاؤما بل تفاؤلا.

وعلى الرغم من أن الفيلم لا يأتي على ذكر الدين ولا نرى فيه ملمحا لصليب ولا لكنيسة على العكس مما رأينا في فيلم Gravity صورا لتماثيل بوذا والمسيح واضحة تماما، إلا أننا نزعم أن التيمة الجوهرية في الفيلم والعناصر التي تتآزر على تأكيدها هي ما نقلناه وسننقله من هذا التحدي الخطير للأديان بأسلوب ملحمي شيق.

فكما كانت الساعة الأولى من الفيلم طرحا لإمكان التخلص من نهاية العالم Apocalyps فالساعتان الباقيتان هما طرح الدين الجديد لسيناريو خلود العالم، سيناريو ينطلق فيه الإنسان إلى السماء يكشف أسرارها بدل أن تنزل هي عليه بتعاليمها، سيناريو يقتحم فيه الإنسان مخاوفه متمثلة بالثقب الأسود-أو "الغول" كما يسميه الفيلم-بدل أن يستعيذ بحماية الآلهة منها، رحلة يتحدى فيها العلم الدين بصراحة فالعالم لن ينتهي والنهاية لا تقررها الآلهة بل يقررها الإنسان، نلمح هذا التحدي في حوار بطلنا مع د. براند وسط الأمواج العالية : "حين تصبحين والدة، شيء واحد ستحرصين عليه بشدة، هو أن يشعر أولادك بالأمان"، فأبونا الذي في السماء الذي يقول لأبنائه أن العالم سينتهي وأنهم سيفنون لم يعد أبانا، فأبونا الحقيقي هو من لا يقول لنا أن العالم سينتهي بل يشعرنا بالأمان..

كوكب الدكتور مان والكشف عن الإله الجديد:

يرى كثير من النقاد وممن تابع الفيلم أن المشاهد التي يظهر فيها الممثل "مات دايمون" على كوكب د.مان والصراع بينه وبين البطل مشاهد مقحمة في الفيلم لا داعي لها ولا ارتباط لها بالفيلم، لكننا بالمقابل نرى أن هذا المشهد جزء من النسق الذي ذكرناه له فيه معنى جوهري، فالدكتور مان مثال جيد ومرحلة مهمة على البشرية أن تتجاوزها وهي التخلص من الأنانية والتفكير الفردي "يجب أن نكف عن النظر لأنفسنا كأفراد، يجب أن ننظر لأنفسنا كأجناس"، فليس هناك فرد أهم من فرد، وتلك الأنا التي جعلت قابيل يقتل أخاه هابيل على الأرض وجعلت دكتور "مان" يحاول قتل بطلنا على كوكب في مجرة أخرى يجب أن تنتهي، لا مزيد من الكلام عن وجود أولياء وأنبياء، الإنسان جنس لا تمييز بين أفراده، يجب أن ننظر لأنفسنا من منظور كوزمولوجي لا ذاتي. في رأينا أن هذه الفكرة ستمهد الطريق للكشف عن الإله القادم الذي سيكتشفه بطلنا داخل الغول أو الثقب الأسود.

الكشف عن الإله يحتاج من بطلنا لقرار شجاع يخوض فيه أكبر مخاوفه بشجاعة، الشجاعة التي يقرر فيها بطلنا أن يسقط في الثقب الأسود حيث أن العلم يعترف أنه هو المجهول الذي لا نعلمه وهو الأفق الذي إن تجاوزه الإنسان فسيكون حتفه بأكثر السيناريوهات رعبا، فالثقب الأسود هو نجم ميت انكمش على نفسه ليصبح ذرة أحادية صغيرة جدا لها كثافة عالية تحني المكان- الزمان بطريقة دراماتيكية، هناك في مكان قريب من تلك الذرة سيتلاشى الإنسان من هول القوة التي تجذبه وسرعتها، سيتمدد جسمه ويتمزق إربا إربا، هذا هو الغول ، ومع ذلك فإن الإجابة عن سر الكون والحل النهائي بحسب "كيب ثورن" المشرف على هذ الفيلم يكمن في تلك الذرة الأحادية Singularity فهي من ستحل لنا لغز الجاذبية في الطريق إلى النظرية الموحدة التي تغنينا عن الأديان والآلهة كما قرر ذلك "ستيفن هوكنغ" في كتابه "التصميم العظيم".

سيكتشف بطلنا أن المخلوقات التي نسمع حسيسها من بداية الفيلم بالضمير الغائب "هم" سيكتشف أنها نحن لكن في المستقبل البعيد حيث ترتقي البشرية مرقى آخر في سلم التطور لتتجاوز الذكاء الإنساني الحالي إلى ذكاء متجاوز يستطيع أن يرى أكثر من أربعة أبعاد ويستطيع لذلك أن يسعى في الزمان من الماضي إلى المستقبل وبالعكس بحرية تامة ليربط المبادئ بالمآلات في لحظة واحدة وكأنه ينزل واديا أو يعبر سهلا، وسنكتشف أن الوحش في جوف الغول هو رسول العالم الجديد الذي سيقول لأهل الأرض المخدوعين بأساطير الأديان التقليدية .. "افيقوا" .. ما الآلهة إلا نحن في المستقبل، نحن من سننقذ أنفسنا، ستكتمل الحلقة على طريقة نولان هنا وبأسلوبه البديع المشوق، فالشبح ليس قوى غيبية ماورائية، بل هو بطلنا في الثقب الأسود يتواصل عبر الزمان والمكان من البعد الخامس أو السادس من خلال الجاذبية وهو جوهر نظرية البرانات في الفيزياء النظرية.

يبقى أن هناك ثغرة يجب سدها، كيف يمكن أن تصل الرسالة ويفهمها البشر في الماضي ثم يصدقونها، فلا حل هنا إلا بالحب كما تقول د. براند، وكما يكتشف بطلنا داخل الغول.

هنا تنمحي الفردية في لاتفكير ويظهر التفكير المتجاوز لذاتية الإنسان ليطوي الزمان والمكان. وليصبح الجنس البشري بما هو جنس لا أفراد هو آلهة العالم جديد، فلا حاجة لإله يخلق العالم فيموت على رأي نيتشة أو يخلقه فينزوي بعيدا.

وبما أن الأرض كانت مسرح الأديان التقليدية فوجبت مغادرتها بتيدأ قصة النشأة في كون آخر تكون فيه د.براند حواء تنتظر بطلنا "آدم"، هكذا سيبدأ عالم يكون فيه أبوا البشر فيزيائيين قد فهما الكون ومضيا فيه على أسس العلم ومبادئه. فنهاية علام الأديان هي إذا بداية عالم العلم الحديث.

هذا ما نراه رسالة الفيلم الأساسية حاولنا جهدنا أن نربط عناصره المختلفة كأدلة تتداعى على كشفه، وإن كان هناك مزيد من العناصر تركناها للاختصار، وهو لا يلغي في رأينا كون الفيلم دقيقا من الناحية الفيزيائية لم يخرج عنها إلا قليلا لتتم له غايته ونسقه الذي ذكرناه. وخروجه هذا هو كما يرى راسل الارتطام في جدار الخرافة، كل هذا ليكتمل النسق ولتسد الثغرات في الطريق إلى "أسفار العصر الحديث".