تردد مصطلح حرب الاستنزاف في الحرب التي تدور رحاها في قطاع غزة لليوم التاسع والأربعون، وبرز هذا المصطلح بعد تعثر مفاوضات التهدئة غير المباشرة في القاهرة بين الاحتلال الإسرائيلي وفصائل المقاومة ، وقد حذر قادة الاحتلال مرارا وتكرارا من الانجرار وراء هذه الحرب.
أما مصطلح "حرب الاستنزاف" فهو يدل على نوع محدد من أنواع الحروب حيث يتخذ فيها الصراع شكل ومنهج اشتباكات جزئية بين القوات او القيام بعمليات عسكرية ما وراء خطوط الأعداء تستهدف الحاق خسائر محدودة.
ويعني أيضا إضعاف العدو عن طريق إحداث الخسائر البشرية أو العسكرية، وتكون عادة الجهة المنتصرة التي تمتلك عدد أكبر من المصادر والاحتياطات. ويمكن اعتبار حرب فيتنام مثالا على حروب الاستنزاف، إذا أن الاستراتيجية الأمريكية كانت تهدف لإضعاف الخصم إلى أن يفقد قدرته على المواصلة في الحرب.
ويرى خبراء عسكريون أن حرب الاستنزاف تمثل محاولة لطحن العدو من خلال الأعداد المتفوقة، وهذا الأمر يخالف المبادئ العادية للحروب، حيث تتحقق الانتصارات الحاسمة من خلال المناورات، وتركيز القوة، والمفاجأة.
المقاومة تفرض كلمتها
وزير جيش الاحتلال وقائد أركانه الأسبق "شاؤول موفاز" قال " إن حركة حماس نجحت في مسعاها لجر "إسرائيل" لحرب استنزاف شارفت على ال 50 يومًا، مشدداً على أنه لا يمكن "لإسرائيل" أن تسمح لنفسها أن تبقى في حرب استنزاف مع منظمة مسلحة، على حد تعبيره" .
وأكد على ضرورة انهاء المعركة ومساعدة "سكان الجنوب" في ظل استمرار قصف المقاومة "يجب أن تكون هنالك سياسة أكثر وضوحاً فيما يتعلق بمساعدة "سكان الجنوب"، وأن على الحكومة حسم المعركة سواءً عبر تسوية سياسية تقضي بنزع السلاح مقابل الإعمار أو عبر معركة عسكرية".
وأشار موفاز إلى أن ضرر قذائف الهاون النفسي على الإسرائيليين أكبر من ضرر الصواريخ وأن بإمكان الجيش وقفها حتى لو اقتضى الأمر القيام بعملية برية، وأن على الحكومة حل هذه المعضلة في أسرع وقت، على حد قوله.
لماذا يخشى الاحتلال حرب الاستنزاف؟
إسرائيل متخوفة من حرب استنزاف جديدة، هي دائماً لا ترغب بحروب استنزاف بعد أن اعتادت كسب الحروب الخاطفة والسريعة وغير المكلفة، بيد أن حكومة الاحتلال، وكجزء من الحرب النفسية على المقاومة والشعب الفلسطينيين، تؤكد استعدادها للمضي بهذا الخيار حتى استنفار سلاح المقاومة وفراغ مستودعاتها، والسؤال الأهم الذي لم تجب عليه الاستخبارات الإسرائيلية هو: هل يمكن لهذه المستودعات أن تنضب، متى وبأية كلفة، لا سيما في ضوء تواتر كثير من المعلومات، التي تؤكد أن جزءا من سلاح المقاومة، يصنّع في غزة، ولا يستورد من خارجها.
قيادة المقاومة من جانبها تعتقد أن لا سبيل إلى إكراه القيادة الإسرائيلية على التراجع إلاّ بممارسة حرب استنزاف مكلفة لاإحتلال بشرياً واقتصادياً، وأن ذلك سيحمل دولاً عربية وإسلامية متعددة على تعديل موقفها، سياسياً ومادياً، لمصلحة الشعب الفلسطيني الأمر الذي يساعد على ترفيع قضية فلسطين إلى مركز الصدارة في الحياة العربية .
كلا الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي قادر على استنزاف الآخر، لكن من السهل جدا تحديد الطرف الذي سيصرخ من الألم أولا، ويتقبّل تالياً تسوية متوازنة، إسرائيل.. على الرغم من أن لديها قدرات عسكرية ضخمة وقوة نارية هائلة، لكن قائمة (بنك) اهدافها المرئية استُنفدت أو كادت وما عاد بإمكانها ان تستمر في تقتيل المدنيين وتدمير العمران عشوائياً ، كما كانت تفعل خلال أيام العدوان الثلاثين الماضية.
فجرائم الحرب التي ارتكبتها تكشّفت للرأي العام العالمي، إلى جانب أن الحالة النفسية التي يعيشها الإسرائيليون لا يحسدو عليها، وبالتالي فإن ما أحدثته المقاومة بالجبهة الداخلية طوال الـ47 يوما يحتاج لمعجزة من قبل حكومة وجيش الاحتلال لإعادة ترميمه.
أما المقاومة، فلديها ميزات وقدرات تساعدها في حربها الاستنزافية ضد الاحتلال، فشعبها أبدى صبرا وجَلَدا وصمودا اسطوريا، وبنيتها العسكرية تحت الأرض استعصت على الاحتلال الإسرائيلي رغم آلاف اطنان الصواريخ والمتفجرات التي أطلقها في حربه، ومخزونها من الصواريخ القصيرة ومتوسطة المدى ينطوي على قدْر من التنوع والوفرة يمكّنها من شن حرب استنزافٍ طويلة الأمد نسبياً، ما يحمل إسرائيل، قيادةً وجمهوراً، على إعادة النظر بموقفها المتصلب.
حركات التحرر تنتصر دائما
وأخيرا فإنه معروف لدى الجميع أن جيش الاحتلال يمتلك قوة تدميرية لا يمتلكها أحد في الشرق الأوسط، وبأنها قادرة على هدم غزة فوق رؤوس ساكنيها وبأنها تفعل ذلك منذ عشرة أيام.
لكن أيضاً دعونا نتذكر بأن كل حركات التحرر الوطني في التاريخ المعاصر لم تتمكن من إلحاق خمسة بالمائة من حجم الخسائر التي تعرضت لها هي في صفوف أعدائها، ولكنها بالضبط هذه النسبة الصغيرة وعلى ضآلتها هي التي أجبرت أعداءها على الكف عن عدوانهم.
في فيتنام فقدت أميركا ما يقرب من خمسين ألف جندي مقابل مليونين من الفيتناميين وغادرت بعقدة لم تتحرر منها إلى اليوم.
وفي العراق لم تصل خسائر "تحالف الدول" التي احتلت العراق خمسة آلاف جندي مقابل أكثر من ثلاثمائة ألف قتيل عراقي وغادروا.
في الجزائر قدم الشعب أكثر من مليون ونصف المليون شهيد مقابل ثلاثين ألف جندي فرنسي وغادروا.
ما نريد أن نقوله إن كل حروب حركات التحرر تتعرض فيها المقاومة لخسائر لا يمكن مقارنتها بخسائر الدولة المحتلة، لكنها تنتهي عادة بانتصار الشعوب التي تريد حريتها لأن معاركها عادلة ولأنها مدعومة من شعبها.
التجارب السابقة مع إسرائيل أيضاً تذهب إلى ما نشير إليه، على الرغم من أن إسرائيل فعلياً لم تتعرض لحرب استنزاف حقيقية طويلة منذ قيامها إلا أن تجربة المقاومة الفلسطينية في غزة بين العام 2000 و 2005 تؤكد أن جيش الاحتلال لا يتحتمل حروب استنزاف طويلة، فخلال هذه الفترة لم تتجاوز خسائر جيش الاحتلال بضع عشرات من الجنود عندما قرر شارون الانسحاب من جانب واحد.