شبكة قدس الإخبارية

"صوت إسرائيل من أورشليم القدس"!

٢١٣

 

صابرين طه

حسب ما تحفظه مخيلتي، فإنني منذ سنوات طفولتي الأولى كنت أسحب نفسي من بين الوسادات العديدة المكدسة بجانب بعضها على الأرض، لأختار الجسد المطلوب وأنهض للمدرسة على وقع ترانيم "راديو صوت إسرائيل". جسدي النحيل كان يرتشف مع العائلة كأس الحليب الصباحي وفيروز عبر الأثير الاسرائيلي ترتل تعويذة الفجر التي كانت ولا زالت تسبق الرنات المتقطعة التي تشبه إلى حد ما نغمة شبكة "بي بي سي" في إعلانها عن نشرة الأخبار.

عموماً، نسمع دقات بعدد الساعة ليقرأ على مسامعنا جميعاً بعدها موجز نشرة الأخبار الأولى في ذلك الصباح في السادسة والنصف تماماً وهو الموعد الذي لن يغيره صوت اسرائيل لنشرته الأولى، في الوقت الذي تبث فيه معظم الاذاعات الفلسطينية "فيروز" لتلحقه بعدها بما لا يقل عن ساعة، نشرة أخبارها الأولى.

"صوت إسرائيل" باللغة العربية لم يكن فقط الأثير الوحيد الذي يصل جدران المنزل المهترئة فحسب، بل إنه الأثير الذي يصل أولاً، ويصل واضحاً بصوت مذيعين لم يتغيروا منذ سنوات طفولتي الأولى. عادة ما يكون أحد أعضاء فريق البث اسرائيلي، هذا إن لم تتضمن النشرة تغطية لحركة السير لمذيع اسرائيلي متخصص بذلك والذي غالباً ما يشرح الإغلاقات في الشوارع وحركة السير والبدائل للشوارع المغلقة. وغيره من المحللين العسكريين والسياسيين الخاصين بالإذاعة كإيال عليما، والذي يلكن العربية بلهجة ممتازة مقارنة باسرائيلي. ولعل تكرار هذه الأصوات والأسماء جعل والديّ يحفظان أسماءهم ويعرفون أصواتهم وإن لم يعرفوا بأنفسهم، بحكم أن هذا الأثير كان يفرض نفسه بيننا كل صباح ويقعد لنا على رأس كل ساعة، ويأكل معنا المهلبية والرز بحليب في ساعات المساء، ويشرب معنا الشاي بين العصر والمغرب كل يوم، وقد يشارك أمي تنظيف المنزل والغسيل وغيره.

مضحك كيف تتوقف الأغنية السلو في الخلفية وأنا أكتب هذا النصّ، وصوت المذيعة التي تقدم معظم البرامج على الأثير وقد تسمع صوتها إن حاولت الاتصال بإحدى شبكات الهواتف الاسرائيلية لتحصل على خدمة، لتخبرك بنفس النبرة التي أتخيلها دائماً، بنصف ابتسامة ووجه مدور وشعر قصير، بتفاصيل الخدمة التي تريد. المهم أن كل ذلك يتوقف عندما يظهر صوت مذيع آخر في الخلفية، ليقول حرفياً "سيداتي سادتي تسمع الآن صفارات الإنذار وهي تدوي في اشدود والمناطق المحيطة بها، صوت اسرائيل من اورشليم القدس". وتعود المذيعة بنصف ابتسامتها المعتاد لتكمل قراءة أشعار الحب التي تتلوها، دون أن تكلّف خاطرها طوال بث حلقة أشعار الحب و"الهشّك بشّك" بأن تذكر وفاة الشاعر سميح القاسم منذ ساعات قليلة.

بعد نشرة الأخبار الصباحية والتي تنتهي في قرابة السابعة والثلث أو السابعة وخمسة وعشرين دقيقة، يأتي البرنامج الصّباحي، والذي يحتوي على المتابعات عادة، ويبث خلاله أغنيات قديمة لعبد الحليم حافظ وعبد الوهاب وغيرهما ممن لم تكن أمي تحديداً لتطفأ الراديو دون أن تستمع لها.

ولأني كنت أخاف التأخر عن المدرسة، فقد كنت عادة ما أغادر مع بداية هذا البرنامج، لكني استمر بالاستماع إليه في طريقي نحو المدرسة، أثناء مروري أمام دكانة "بياع الجرايد" على درجات باب العامود، حيث كنت غالباً ما اشتري جريدة القدس "بشيكلين" أو اشتري مقص أظافر إن كنت قد نسيت قص اظافري بالمدرسة كي لا أعاقب أثناء طابور التفتيش الصباحي ، مروراً ببسطات بائعي الكعك باب العامود، وباب الساهرة، وانتهاءً بالقهوة في مدخل باب حطة. وحينما صرت بالجامعة، صار يرافقني هذا البرنامج حتى طريق الجسر نحو رام الله لتبدأ بعدها نشرات الأخبار في الإذاعات الفلسطينية ويصلنا بثها بوضوح لاحقاً حينما يسمح الاحتلال لأثير آخر غير أثيره بالوصول.

أصل الجامعة وأنا أدندن بترويج برنامج بون كافية بون كافية، مع يزيد حبيب، أو "تعوا نحكي بصراحة" والذي اختار الأثير من أغنية زياد الرحباني ترويج له "بصراحة، تعي نحكي بصراحة". لأنغمس في صفوفي وأنساها مؤقتاً، حتى صباح اليوم التالي.

مذيعو الأثير ينقسمون عادة بين أصحاب الصوت الرقيق وعلى رأسهم الزعيمة التي لا ينفك الأثير يختارها لتقديم برامج الصباح والحب والأشعار والطبيخ وأي كلام لا فائدة منه لأنها أكثرهم رقة ودلعاً. والجزء الآخر هو المسؤول عن الأخبار، وعادة ما يكونوا من أصحاب الأصوات الخشنة، ومن بينهم امرأة خامة صوتها لا تسمح لها بأن تضم لقائمة رقيقي الصوت، فتحشرج بكلمة إرهابي فلسطيني في آذاننا حتى يفيض الكيل بأمي وتغلق الراديو وإن لم تنته النشرة بعد، لتتجادل مع أبي على أنها "ضيعت أهم خبر" مرّ جراء طيشها ووطنيتها التي لن تقدم ولا تأخر في هذه اللحظة.

وأخيراً فإن الأثير يخصص صوتاً واحداً مغايراً للصوت على الهواء ليبث الأخبار العاجلة. هذا المذيع المنكوب صاحب الأخبار العاجلة الكارثية، باغتنا آخر مرة حينما عثرت قوات الاحتلال على جثث الجنود الثلاثة في الخليل "على ذمتها"، فانقطع البث ليخترق صوته آذاننا أنا وأمي وأبي وأخي ونحن مطأطئي الرؤوس أمام كؤوس الشاي الفارغة ليعلن لنا عثورهم على جثث الجنود. وراحت بعدها أغنيات الأثير المنتقاة بعناية تبعاً للحدث تصدح في البيت. كان مهندس الصوت يومها قد اختار اغنية لإيهاب توفيق تقول: " الله يسامح حبيبي اللي عشقته زمان واديته الامان"، وفي رواية أخرى أغنية لا أدري من يغنيها يقول أحد مقاطعها :"وانا وانتوا، بكرا حتشوفوا الويل بعيونكوا".

على الرغم من انعدام الخيارات أمام معظم عائلات القدس في التقاط أثير آخر يصل غرف البيوت القديمة تحت الأرض، يستمر هذا الأثير ببث سمومه في آذان الأجساد الصغيرة تحت الملاءات الكثيرة ليكبر جيل آخر، ينادي الوطن بالبلاد، والحاجز بالمعبر، والعملية الاستشهادية بالإرهابية أو التخريبية وفلسطين باسرائيل في أسوأ تقدير.

وأنا أفكر بما لم أقله عن هذا الأثير البليد، يقرر أبي عنوة أن يأخذ جرعته اليومية، فيفتح الراديو، لتصدح أم كلثوم بحكم العادة عبر هذا الأثير بأغنيتها، بعد أن دوّت صفارات الإنذار في فضاء القدس ب "ما تصبرنيش بوعود وكلام معسول وعهود، أنا ياما صبرت زمان زمان، على نار، وعذاب وهوان..." وتكمل" ودي غلطة، ومش حتعود ولو ان الشوق موجود وحنيني إليك موجود. انما للصبر حدود يا حبيبي. (تصفيق حار).

قليلة هي بيوت البلدة القديمة في القدس المحتلة التي تنازلت عن سماع بث راديو "صوت إسرائيل" كمصدر أساسي وثابت للمعلومة كل يوم، ينطقه جهاز الراديو المغبرّ الموضوع على أحد الرفوف منذ سنوات وإشارة توجيهه التي لا تتغير في الغالب عن وجهة واحدة وهي الإذاعة الاسرائيلية. هذه الإذاعة التي كانت فكرة انشائها مرافقة لاحتلال فلسطين كي تكون البوق الإعلامي للاحتلال الذي يستعمل هذا المنبر لتوجيه رسائله لأجهزة الراديو المغبرّة في البيوت القديمة وبالتالي للآذان المنصتة كبيرة كانت أم صغيرة.

"صوت إسرائيل" ليس بالمنبر الاسرائيلي الوحيد الذي يستعمله الاحتلال لبث رسائله المسمومة للجمهور مستخدماً صوت أم كلثوم أو عبد الوهاب لتغطية القبعات الصغيرة (الكيباه) التي يرتديها عدد كبير من متديني اليهود الذين يعملون في هذه الإذاعة ويستلمون مناصب حساسة فيه، كإعداد النشرات والأخبار العاجلة وتحوير مفاهيم عديدة في الحدث لتصبح ملائمة وسياسة هذه الإذاعة الحربية بشكل واضح. وبما أنها تقريباً الإذاعة الوحيدة التي يصل بثها واضحاً لبيوت المقدسيين مقارنة بالبث المشوش أو الرديء للإذاعات الفلسطينية البديلة، ونظراً لسن مستمعيها والذين استقطبتهم الإذاعة حتى قبل أن يكون هناك بدائل واضحة بعد عودة الحياة لطبيعتها تقريباً في مدن الضفة بعيد الانتفاضة الثانية، هؤلاء المستمعين الذين لا حول لهم ولا قوة في فتح حسابات على شبكات اجتماعية والبحث عن المعلومات من مصادر شعبية قبل التوجه لإذاعة أو تلفزيون، فإن "صوت إسرائيل" تمكن من الوصول لبيوت معظم المقدسيين راكباً صوت عبد الوهاب وأم كلثوم التي ما زالت تصدح بـ " ولقيتني وانا بهواك، خلصت الصبر معاك " وصفارات الإنذار في نفس اللحظة تدوي في مكان آخر من هذا الوطن.