بعد تدريسه للرياضيات لمدة 20 سنة اكتشف غباء و وهم النظام التعليمي، واكتشف غباء شهادة الدكتوراة؛ لذلك يفضّل أن يناديه الناس بالمعلّم وليس بالدكتور إذ أن المعلم، برأيه، صاحب تجربة وخبرة في الحياة بحث فيها وعرفها وتأمل وكوّن معنى وفكر. أما مصطلح "دكتور" فلا يدري ما معناه، وهو بالأساس لقب أكسبته إياه الشهادة دون أن يقترب من ميدان الحياة ولو قليلاً في بعض الأحيان.
الأستاذ منير فاشة محاضر سابق في جامعة بيرزيت و مؤسس مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي في رام الله. درّس الرياضيات سنوات عديدة وحصل على الدكتوراة في التربية من جامعة هارفارد عام 1997. أنشأ "الملتقى التربوي العربي" وفق نفس المبادئ في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة هارفارد، وأداره مدة عشر سنوات. من الأفكار التي يعمل عليها الآن هي محاولة إنشاء كلية "بيت الحكمة" في جامعة فلسطينية أو أكثر والاسم مستوحى من أول جامعة حملت نفس الاسم في بغداد قبل 1100 سنة.
كتب الأستاذ منير فاشة عن الرؤية في العمل التربوي وأهمية تغيير الأنماط السائدة في العيش والفكر والتعامل والتي تشكل خطراً على التعليم وتؤثر فيه، ولديه العديد من المقالات البارزة والهامة بهذا الشأن.
وُلِد فاشة في القدس المحتلة، وعاصر نكبة التهجير عام 1948 حيث هُجر من بيته وكان وقتها يبلغ من العمر سبع سنوات.
حول نظام التعليم والاحتلال المعرفي حدثنا منير في اللقاء التالي:
1. في العديد من مقالاتك والندوات التي تعقدها يبرز تحاملك على المؤسسات، برأيك لماذا أضرت المؤسسات بالإنسان ولم تنفعه؟ وكيف ساهمت في غبائه ووهمه؟
دعيني أبدأ الإجابة بحوار جرى بين غاندي ونهرو، حيث سأل نهرو غاندي: ما هدفك من إخراج الإنجليز من الهند؟ أجابه غاندي: الخوف الأكبر أن يخرج الإنجليز و تبقى مؤسساتهم فيها. إذن المؤسسات ليست أجسام محايدة بل لها غرض وهي وسيط هدفه "تخريب الحياة"، على سبيل المثال: كان الإنسان في السابق يزرع ويطبخ والعملية واضحة أمامه، لكن الآن هناك شركات تختار له الأكل وتطبخه وتعطيه إياه. معرفته بماذا يأكل معدومة بعدم معرفته بمكونات الطعام وصلاحيته وطرق صنعه، فهي تحاول أخذ مكان الإنسان، وهذا أعتبره خطير جداً. فكم فرد منا يعرف ما الذي يأكله؟
من زاوية أخرى يقوم العلم في جزء كبير منه على "المنطق الثنائي" القائم على عبارة خاطئة أو صائبة، وهذا أعتبره منطق خالٍ من التنوع؛ فالأمور لا تقاس باتجاهين فقط لا ثالث لهما خطأ أو صح.
ولوسألنا شخص يملك أعلى الشهادات في التعليم وسألناه ما المنطق الذي يحكم التعليم؟ لن يعرف؛ لأن لديه فرضيات تقول أن المهم للعالم، وخاصة للعالم الأوروبي، هو بالضرورة مهم لفلسطين ويطبقه هنا وهذا يعكس الغباء والجهل والتخدير دون أن يعرف ماذا يعلم؟ ولماذا يعلمه؟ ولمن يعلمه؟ ومن وضعه؟ وما فائدتها؟ ولماذا تم وضع هذه المعرفة دون غيرها؟ فأين المعارف الأخرى؟ فهو يعتقد أن قيمته آتية من خلال كلمات على ورق والمعرفة ليست كلمات، فالكلمات صورة، مثلاً قيمة الصدق لاتعني شيئاً إلا من خلال التصرف فالتصرف هو الحقيقة.
2. كيف يمكن للإنسان أخذ موقف واعٍ اتجاه المؤسسات المحيطة به والتعامل معها؟
لو أخذنا المؤسسات التعليمية كمثال من الصعب مثلاً أن تقول لأحدهم لا تذهب إلى المدرسة أو إلى الجامعة. لكني أستطيع القول له بأن لا تعتبر الجامعة مصدر معرفتك، فتفاصيل حياتك ومجتمعك والخبرات والتجارب والإطلاع والثقافة واحة أوسع للمعرفة وتغدو قيمتك فيما تحسنه مما تكتشف نفسك فيه. فخلاصة الأمر أنه يجب على الفرد أن يحمي نفسه من المؤسسات بأنواعها، ولا يعتبرها المصدر الوحيد ويجب طرح أطر تحترم الإنسان.
مثلاً، المجاورة كطريقة للتعلم، وأقصد بها "حلقة يجتمع فيها مجموعة من الأشخاص يتبادلون التعليم". فالمجاورة خالية من الكذب والغش وفيها احترام للجميع، ومن فيها من متعلمين هو بسبب اجتهادهم وتوصلهم لقناعات من خلال خبراتهم وتجاربهم وتأملاتهم واطلاعهم، وقد تكون هذه القناعات ليست عالمية. وهكذا كل فرد من المتجاورين يعرض ما لديه ويتعلمون ولا يجيبون نفس الجواب. فجميل لو عقد الفرد مع أصدقائه كل فترة حلقة مجاورة بدل أن يقتصر الأمر على الفيس بوك ومقاعد الجامعة والمدرسة ودردشة البريد الإلكتروني.
3. في ظل هذه المنظومة كيف يمكن للطالب والمعلم النظر خارج حدود الخط الذي رُسم له في المؤسسات التعليمية؟
من الصعب أن يقوموا بذلك وقلة منهم أصلاً من يملك الجرأة على ذلك، ولكن حبذا لو يقومون باقتطاع جزء من وقتهم ليجربوا في الحياة، يفكروا خارج الكتب المقررة لهم من خلال أسئلة يعيشونها في حياتهم. مثلاً، أين ذهبت السعادة؟ لم كانت في الماضي أكثر من اليوم؟ تقوية علاقاتهم مع الناس والمكان والزمان والتاريخ والحضارة والمستقبل. يتعلمون لأجل التعليم والمعرفة ليس لأجل علامة أو جائزة أو ما شابه؛ لأن هذا النظام كرس مبدأ أن العلم يأتي وسط حوافز كالعلامة والجائزة وبدونها لن يأتي ولن يذهب الفرد إليه. والتحفيز برأيي يجب أن يتجاوز هذا المبدأ حيث يمكن تحفيز الإنسان عن طريق شيء جميل اسمه "الشغف" الذي يملكه الإنسان، فكل إنسان لديه شغف اتجاه أمر معين في الحياة، وشغفه له ليس لغرض بل لأنه مدفوع من داخله بدافع الحب والرغبة.
4. ما دور التعليم في خلق القيم وتعايش الإنسان معها؟
لو سألنا مثلاً ما هي القيم التي تحكم التعليم؟ لوجدنا أن الأمر خطير قائم على تخدير الناس بمعنى أنه يجب أن نتعلم بهذا النظام القائم وأنه هو الصالح حتى نكون أشخاص مثقفين ومتعلمين ونواكب العصر. وبرأيي قيم التعليم المؤسسي قائمة على قيم السيطرة و الفوز؛ مما يجعل هذه القيم متغلغلة في حياتنا وتتربى في داخلنا في مناحي الحياة وتحكم تصرفاتنا وعلاقاتنا وإدراكنا.
5. ضمور الجامعات في إنتاج المعرفة واقتصار دورها على إعادة تلقين ما حصل عليه الطالب في 12 عاماً التي قضاها في المدرسة، هنا، كيف يمكن للطالب الخروج من تحت هذه الوطأة ويحصل على معرفة جديدة مرتبطة بواقعه؟
برأيي لا توجد معرفة جديدة بل هناك معرفة نافعة ومعرفة غير نافعة، فالمعرفة الجديدة تشبه عالم الإستهلاك كالهاتف الجديد بآخر صيحات تطور التكنولوجيا، والحاسوب الجديد، كذلك الأحذية والملابس. مثلاً عندما يحصل على شهادات المعرفة الجديدة التي تأهله لمنحة للبلدان الأخرى ليعطيها وليفيدها. فهذه البلدان أصلاً هي منبع المعرفة الجديدة، ومعرفته صالحة لهناك. لكن عندما يعود لقريته ومجتمعه هذه المعرفة الجديدة قد لا تصلح للمكان والزمان والمجتمع، فتكون معرفة وهمية غير نافعة لا تناسب عوامل الواقع الذي نعيشه وتتماشى معه لتقدم لنا ما نريده نحن حقاً من احتياجات وتغيرات.
6. متى يستطيع الإنسان أن يمسك بزمام العمق في الحياة أو الأشياء ولو حتى على صعيد المعرفة؟
العمق يبدأ بعمق المعنى فكل إنسان هو مصدر معنى وفهم ومعرفة. فمثلاً، ماذا تعني كلمة "الهوية الفلسطينية" لكل إنسان شخصياً؟ ليس التعريف الآتي من الكتب وحفظه فحسب، بل بالإضافة للخبرة والحياة. هذا المعنى، إن وُجد، فهو غير نهائي ولكن يمكن صقل المعنى من خلال الثقافة وتطويره، فقد تختلف المعاني وتتشابه بين الناس.
[caption id="attachment_4645" align="aligncenter" width="320"]
فاشة يتحدث عن الاحتلال المعرفي في مؤتمر تيدكس في بيت لحم عام 2011[/caption]
7. الإحتلال المعرفي بالعادة غامض لا يتعرف عليه الإنسان بسهولة ما هي أبرز أدواته وطريقة مقاومته؟
يصعب التعرف على الاحتلال المعرفي، وأكثر الناس من "المتعلمين" لا يعرفونه لأنهم أخذوا شهادته ومروا فيه وعايشوا عناصره واقتنعوا فيه وأسموه تطورا. قبل 110 سنة انتبه خليل السكاكيني وعمره 18 عاماً للتعليم القادم من الغرب ومنطوماته المترجمة بنظام المدارس والجامعات ومؤسسات المجتمع وغيرها، كتب بعد ذلك كتاباً بعنوان "الإحتذاء بحذاء الغير"، بمعنى أن الإنسان هنا يريد أن يرتدي معرفة غيره وغير راضٍ عن معرفته ويقلل من شأنها وغير مهتم بها، حيث يستهلك كلمات الغير ويطبق قوالب جاهزة بأي أمر متعلق بالحياة دون أن يفكر بها ويعرفها.
وهكذا نرى أنه من خلال التعليم يقومون بتخريب قطاعات أخرى من مناحي الحياة. أما فيما يخص المقاومة؛ لا توجد طريقة بشكل أكيد ولكن أرى أن العمق والفهم والتغيير وإعادة النظر للنسيج الذي نعيش فيه قادر على إنقاذنا من حفرته، وأن لا نستهين بأنفسنا ومرجعيتنا الخاصة بنا ولا نفقد الثقة بها.
8. بعد كل ما أسلفت هل ترى أن هناك إمكانية لإصلاح نظام التعليم أو أنه يجب نسفه بالكامل؟
لا نقدر أن نحسنه أو ننسفه بل نستطيع العيش بحياة متوازنة قدر الإمكان بعيداً عن خرافات التعليم بأن الإنسان لا يستطيع التعلم إلا من خلال كتاب مقرر، ومعلم، وامتحان، وعلامات فقط. العيش بطريقة بعيدة عن المؤسسات، والإلتحام بالطبيعة، والأرض والناس، والمعارف والخبرات أكثر يمكن من أن يكون هناك قدرة على الفهم والتغيير فيما بعد.
