شبكة قدس الإخبارية

المجتمع الإسرائيلي: التنوع بنكهة التجانس

علي حبيب الله

نعيش  في فلسطين حالة استعمارية مستدامة، وتشكّل لحظات المواجهة فيها فرصة ذهبية لإعادة تعريف المفاهيم والأدوار؛ ففي الأحداث الأخيرة التي امتدت على كافّة التّراب الفلسطينيّ، شبّ أبناء شعبنا عن طوق واقعهم المفروض عليهم إلى المساهمة في تعريف هذا الواقع. فكما أنّ للحدث قيمته الإشعاعية على مستوى التحدي واكتشاف الذات الجماعيّة؛ أيضاً هو مناسبة لمن يجيد لعب دور الوسيط بين أبناء شعبه ومجتمع أجهزة القمع والاحتلال، معلّلاً ذلك بأنّ هناك مجتمعاً إسرائيلياً غير متجانس (بمعنى أنّ ليس كل الإسرائيليين واحد) يمكن مخاطبته والتأثير فيه، لاستمالته إلى جانب قضايانا وهمومنا نحن الفلسطينيين.

يقول أحدهم: "إن الإسرائيليين غير متجانسين، والنّظرُ إليهم باعتبارهم (المجتمع الصهيوني) كأنّهم قطعة خشبيّة واحدة هو جهل وقصر نظر". لسنا هنا في موقع الردّ أو المناكفة، ولأنّ الحديث يدور عن الجهل وقصر النّظر، فلا بدّ لنا من إعادة النّظر في فكرة المجتمع والمجتمع المتجانس على المستوى المعرفيّ العلميّ. لطالما تمسك صاحبنا بالنظرية العلميّة مشدّداً على التأنّي فيها.

إنّ فكرة المجتمع الحديث، هي فكرة قادمة من رحم الدولة الحديثة التي تتطابق فيها الدولة مع المجتمع تطابقاً تامّاً -على خلاف الدول التقليدية- فالمجتمع الحديث هو مجتمع سياسيّ أولاً وقبل أيّ شيء، وليس دينياً أو ثقافياً قطعاً؛ فالامتثال وليس الإيمان هو الذي يقيم مجتمعاً، وفي هذا يكمن الفارق بين طائفة ومجتمع. فالتعدّدية أيّاً كان شكلها داخل أيّ مجتمع لا تلغي تجانسه، لطالما أنّ المجتمع يمتثل إلى جُملة من المسلّمات التي يختلف ويتنوع تحتها وليس عليها. والمجتمعات غير المتجانسة هي تلك المجتمعات التي تعاني شروخاً تهدّد فكرة الأمّة والدّولة، وهذا ما ليس في المجتمع "الإسرائيلي".

إنّ وجود غربيّين وشرقييّن أو علمانييّن ومتدينيّن أو متطرفين ومتسامحين داخل المجتمع الإسرائيلي، لا يُلغي تجانسهم كمجتمع قطعاً، لطالما يعمل هدا التنوع تحت أسس ثابتة، مثل: "دولة اليهود" و"الحركة الصّهيونية" و"المجتمع الاستيطاني"، المُجمع عليها من كافّة أطياف وقوى المجتمع "الإسرائيلي"؛ لذا لا يمكن أن يُنظَر للمجتمع "الإسرائيلي" كمجتمع استيطانيّ استعماريّ محايث لبنية الدّولة وأسسها إلا كقطعة خشبية واحدة، وأيّ معرفة تدّعي غير ذلك فهي معرفة بلاستيكيّة بالتأكيد.

يفترص بعض "المثقفين" ممن أُتيح لهم حمل المواطنة "الإسرائيلية" من "عرب الداخل" بأنّ المواطنة "الإسرائيلية" تجعلهم في موقع تعريف خاصّ بالنسبة لصراعنا كفلسطينيين مع دولة الاحتلال، يبدو كما لو أنّ المواطنة خيارٌ سياسيٌّ أو مكسبٌ تاريخيّ، بينما هي ليست كذلك، لكونها فُرِضتْ على فلسطينيي الداخل كما فُرِض الحكم العسكريّ إبان إعلان تأسيس دولة "إسرائيل".

ويعتقد هؤلاء أنّ العمل من داخل إيقاع نظام الدولة "العبرية" يُمكّنُهم من النّفاد إلى المجتمع الإسرائيلي، وبالتالي تصنيفه إلى عنصريين وغير عنصريين، ليعيد هذا التصنيف تعريف الوجود "الإسرائيلي" من موقع مقولة الفصل العنصري، وليس من موقع الفعل الاستعماري. في حين أن سياسة مصادرة الأراضي داخل الخط الأخضر نابعة من فكرة الاستيطان "اليشوف" كسلوك استعماريّ استيطانيّ، ليس للعنصرية أو التطرّف أيّ علاقة فيه. ومن هنا، فالتعويل على وجود عنصريين وغير عنصريين أو "يمين" و"يسار" كما يظن البعض داخل المجتمع "الإسرائيلي"، لا يلغي تجانسه كمجتمع متطابق مع الدولة وسياسة "اليشوف" كأساس لها.

وحين نشأت شبكة من العلاقات بين العرب والإسرائيليين داخل "الخط الأخضر"، بحكم العمل في الورشات وقطاع الخدمات، تبيّن للعرب أنّ هناك "إسرائيليون متسامحون" بالإمكان العيش والعمل معهم، دون أن يغيّر ذلك من فهم العرب لواقع علاقتهم بأجهزة الدولة "العبرية" كأجهزة هيمنة، ودون أن يغيّر من تعريف كيانيّة المجتمع "الإسرائيلي" كمجتمع غريب عن ثقافة وتقاليد الناس في الداخل. وعلى الرغم من محاولات بعض "المثقفين والسياسيين" على مدار عقود، من إقناع النّاس بعدم تجانس المجتمع "الإسرائيلي" بتصنيفات "اليمين واليسار" التي عهدناها، إلا أنّ العرب في الداخل لم يستيطعوا استيعاب هده التصنيفات عند مصادرة أرضهم وفصلهم عن أبناء شعبهم وأمتهم.

فسماع بعض الإسرائيليين لأغاني "أم كلثوم" وشهيتهم لأكل "الحمص" لا يقلل من كونهم مجتمع استعماري متجانس، والحديث عن "إسرائيلييين طيبين وأسخياء" هو حديث سياحيّ يصحّ في عالم "المصاهرة والنسب"، وأيّ قراءة لتلك الفوارق الاجتماعيّة داخل المجتمع "الإسرائيلي" تقول بعدم تجانسهم، هي قراءة عبثية وغير مجدية.

ختاماً، أظنّ أنّ المثابرة على الكتابة لمخاطبة المجتمع الإسرائيلي هي مثابرة تقول عنا نحن الفلسطينيين أكثر مما تقول عن الإسرائيليين، وحين يكتب أحدهم ليؤثر فيهم (ومن حقه أن يكتب) عليه أن يعي أنّه قد يؤثر فيهم عنه هو، أو يؤثر فيهم في كون العرب ليسوا قطعة واحدة وليسوا هم، وقد يكتب ويستنتج الإسرائيليون أنّ هناك من يتفهمهم، فقط لكونهم مجتمعاً استيطانياً متجانساً.