في خضم المشهد الفلسطيني المأزوم والتحوّلات السريعة التي يشهدها العالم برمّته، لم يعد خافياً على أحد أن التضامن الشعبويّ العفويّ عاجز عن حسم معركة الأسرى لصالحه، حتى وإن نجح في كسر الحاجز بينه وبين الأسرى وخلق حالة من التفاعل المرحلي مع هذا المركّب الجوهري الذي أفرزه الصراع العربي الإسرائيلي.
وحدها السلطة الفلسطينية التي تترنّح بين الاعتصامات والخيام التضامنيّة بإمكانها إبطال مفعول سطوة القامع الإسرائيلي وفرض قوة جديدة على الساحة الدوليّة فيما يتعلّق بحقّ الأسرى الفلسطينيين في الحريّة. لا ذرائع ومسوغات مقنعة تبرّر بطء خطوات السلطة في التحرّك على المسار الدولي لاسترداد حقوق الأسرى، ولا وجود لأيّ معطيات تثبط عملية التحرك في هذا الاتجاه بغية تفكيك منظومة الاحتلال القمعية البنيوية، لكن يبدو أن السلطة حسمت أمرها وقرّرت عدم فتحّ ولو كوّة واحدة في جدار صمتها تجاه قضية الأسرى.
ورقة سياسية مهمة
ثمّة ورقة سياسية مهمة يعمد الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى إسقاطها وعدم استثمارها في توسيع رقعة التضامن العالمي مع الأسرى، رغم أن حوالي 150 معتقلا إداريا يمكثون على حافة الموت، حيث بدأت أجسادهم بنهش عضلاتهم بعد دخولهم اليوم الخامس والثلاثين في معركة الإضراب عن الطعام، موقف السلطة هذا بعدم تدويل قضية الأسرى يعني إجادتها صناعة العقبات التي من شأنها أن تحبط معركة الأمعاء الخاوية المقادة وفقاً لمسارين داخل أسوار السجن وخارجه.
وفي سياق تشريح سلوك ومسار السلطة السياسي، أثبتت الأخيرة إخفاقها في إنتاج بيئة دولية خصبة لاحتضان الأسرى وتحسين وضعهم القانوني بالارتكاز على الاتفاقيات والمعاهدات الإنسانيّة العالمية، الأمر الذي من المفترض أن يخلق واقعا جديدا يجبر المنظومة الدوليّة على عدم التنصّل من مهامها ومسؤوليتها الإنسانية تجاه الطرف الضحيّة، ويقطع الطريق عليها للتواطؤ مع الطرف القوي، إلا أن السلطة أصرت على عدم توظيف وضعها الجديد في الأمم المتحدة كدولة مراقب غير عضو في المسار الصحيح، لتتحول بذلك إلى فاعل أساسي في استمرار معاناة الأسرى ولو بشكل غير مباشر، وذلك بعد أن فشلت في الاستفادة من النقلة النوعية لصفة منظمة التحرير من حركة تحرر إلى دولة تحت الاحتلال.
هذا الوضع القانوني الجديد للمنظمة ساهم على نحو جلي في إزاحة كل العقبات التي تواجه طريقها نحو الانضمام لاتفاقية جنيف والملحق البروتوكولي الأول والثاني، فضلا عن الالتحاق بالمحكمة الجنائية الدولية التي تم تأسيسها عام 2002 بموجب ميثاق روما الذي وافقت عليه حوالي 120 دولة في اجتماع للجمعية العمومية للأمم المتحدة في إيطاليا عام 1998، ما يعني أن الأسئلة التي كانت تعترض المنظمة للانضمام لاتفاقية جنيف أو المحكمة الجنائية الدولية حول إدراج فلسطين ضمن نطاق الدولة أو اللادولة تم إبطالها نهائياً بحكم الواقع الجديد.
وكان قد سبق للمنظمة أن تقدّمت بطلب من الحكومة السويسرية عام 1989 للانضمام لاتفاقية جنيف، كما أنها تقدّمت بطلب الالتحاق بميثاق روما الناظم لمحكمة الجنايات الدوليّة عام 2009 فور عدوان "حجارة السجيل" على غزّة، غير أن المدعي العام للمحكمة رفض ذلك، متذرعا بقانون المحكمة واختصاصها اللذين لا يجيزان النظر في دعاوى وقضايا مقدمة من قبل الأطراف التي لا ينطبق عليها مواصفات الدولة ضمن هيئات الأمم المتحدة.
ميثاق روما المستثنى
ورغم أن الطريق ما يزال مفتوحا أمام السلطة نحو الانضمام لميثاق روما، إلا أنها لم تضمنه بين الـ15 وثيقة التي وقعتها في أوائل شهر نيسان من العالم العالي، كأسلوب للمناورة مع "إسرائيل" والرد التصعيدي الخجول على عرقلة ملف التسوية معها، وبذلك، تكون السلطة قد رمت الكرة في الملعب الإسرائيلي، مانحة إياه كل الذرائع المجانية لرفع منسوب القمع في سجونه، بفعل تجاهلها اغتنام فرصة تدويل قضية الأسرى عبر المحكمة الجنائية الدولية، بغية نزع الغطاء القانوني عن الاحتلال من خلال محاكمة قادته باعتبارهم مجرمي حرب ومخالفين لأبسط قواعد اتفاقية جنيف الثالثة والرابعة المرتبطتين بأسرى الحرب والمعتقلين المدنيين على الترتيب.
وهل هناك مخاوف جديّة تعتري السلطة تحول دون انضمامها لميثاق روما؟ يجيب على ذلك الخبير في القانون الدولي د.رامي عبده في حديثه لـ"شبكة قدس" بالقول: "ليس هناك من سبب مقنع يعيق خطوة الانضمام ومقاضاة قادة الاحتلال، غير أن ضعف إرادة السلطة السياسية في تدويل قضية الأسرى يلعب دوراً في ذلك. كما أن التذرّع بالتخوّف من ملاحقة قادة المقاومة ليس مستساغاً، كون باب ملاحقتها مفتوح فعليّا وفقاً للظروف الراهنة".
إن عدم امتلاك السلطة لأدوات نضاليّة متحرّرة وغياب استراتيجيتها في التعامل مع قضية الأسرى ساهما في تجزئة الحق الفلسطيني، وتصدير بعض القضايا المصيرية إلى المستقبل دون وضع جدول زمني معين لحلّ قضية الأسرى، عدا عن ربطها في كثير من الأحيان باتفاق السلام النهائي مع الاحتلال الإسرائيلي.
كما أن اتفاقية أوسلو ساعدت على ترسيخ مفهوم التمييز بين الأسرى على أساس جغرافي سياسي، باعتبارها مقتصرة فقط على حدود الأراضي المحتلة عام 1967، وبذلك تعامل الاحتلال مع هذا الملف بالغ الحساسية والتعقيد بطابع استغلالي مراوغ، إضافة إلى أن عدم تمتع المنظمة بنفس طويل في الترويج للقضايا الوطنية على الساحة الدولية ساعد الاحتلال على التمادي في الاستفراد بالفلسطينيين، حيث حصلت سابقا على العديد من القرارات الدولية، كقرار المحكمة الدولية بهدم جدار الفصل العنصري دون أن تستثمره وتقطع أشواطا في استحالة القرار واقعا على الأرض.
تقاعس السلطة
وبمعزل عن مسألة الانضمام لمحكمة الجنايات الدولية، يبرز تقاعس السلطة في إيجاد حل جذري للمعتقلين الإداريين المضربين عن الطعام خاصة والأسرى عامة، من خلال عدم شقها درب الضغط على الدول الأطراف الموقعة على اتفاقيات جنيف الأربع وملحقيها لعقد اجتماع تباحثي حول انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي بحق الأسرى.
فرغم أن وزير الأسرى في حكومة رام الله عيسى قراقع صرح بنية السلطة دعوة الأطراف السامية للاجتماع، غير أن هذا التصريح لم يخرج من حيز الإعلام إلى حيز التنفيذ، وبمقتضى هذه الاتفاقيات يتوجب على الأطراف السامية اتخاذ موقف صارم تجاه أي دولة عضو لا تلتزم ببنود الاتفاقيات، كما أن السلطة لم تفسح المجال لرفع دعاوى قانونية أمام محاكم الدول الداخلية التي تقبل بفتح ولايتها القضائية لقضايا الانتهاكات الجسيمة لاتفاقيات جنيف بناء على المادة 146 منها، والمتعلقة بالقتل والاعتقال والتعذيب وتدمير الممتلكات.
صحيح أن الاحتلال ليس عضوا في الملحق البروتوكولي الإضافي الأول لاتفاقية جنيف الذي عد مقاومة حركات التحرر نزاعا مسلحا دوليا وأسرى هذه الحركات أسرى حرب، غير أنه أحد أطراف اتفاقية جنيف الثالثة التي منحت أفراد المقاومة أو الأجهزة الأمنية الحق في الدفاع عن الأراضي الفلسطينية المحتلّة وحمايتها ضد أي اعتداء إسرائيلي باعتباره اعتداء من دولة على أخرى، واعتبرتهم أسرى حرب ومقاتلين شرعيين لا يجوز محاكمتهم على ما قاموا به حتى لو شمل ذلك حالة القتل والجرح، مشيرةً إلى ضرورة إطلاق سراحهم فورا.
كما دعت اتفاقية جنيف الرابعة إلى حماية المعتقلين المدنيين ومعاملتهم وفقا للمبادئ الإنسانية العليا، الأمر الذي يقود إلى بطلان الأوامر العسكرية للاحتلال كتجريم العمل السياسي والانتماء للفصائل الفلسطينية، غير أن كل ما سبق لم تستغله السلطة حتى اللحظة، وخصوصا بعد أن قبل المجلس الفدرالي السويسري بتاريخ 10/4/2014 دولة فلسطين طرفا ساميا في اتفاقيات جنيف وملحقها البروتوكولي الإضافي الأول.
ويرى عبدو أن السلطة لم تنتج حتى اللحظة من قضية الأسرى قضية رأي عام، حيث لم تخاطب خارجية سويسرا بصفة رسمية باعتبارها الطرف الذي أودعت عنده اتفاقيات جنيف الأربع لعقد اجتماع تباحثي للدول الأطراف لدراسة آليات معاقبة الاحتلال المنتهك لحقوق الإنسان بشكل سافر فيما يتعلق تحديدا بالمعتقلين الإداريين المضربين عن الطعام، مشيراً إلى أن الطرق الالتفافية المواربة التي تتبعها السلطة فيما يتعلق بهذه القضية ليست سوى محاولة منها لتبييض صورتها، مستدلا بذلك بدعوة وزير الأسرى في حكومة رام الله عيسي قراقع مجلس الأمن عبر الإعلام للانعقاد لوضع حلول للمعتقلين الإداريين، رغم أنه من المعروف أن مجلس الأمن أو أي هيئة أخرى تابعة للأمم المتحدة لن تنعقد إلا بعد توجيه السلطة رسالة مكتوبة واضحة إلى الجهات ذات العلاقة. وبذلك، يبقى التعويل الأكبر على صمود الأسرى في هذه المعركة في ظل عدم تجانس الرسائل ما بين المستويين الشعبي والرسمي!.