إذا كانت العبارة تضيق مع إتساع الرؤية، حسب الفهم الصوفي، فليس لنا أن نتخيل مدى إتساع الرؤية في حالة تغيب فيها العبارة وتحضر الموسيقى. تأتي مقطوعة "حدث في العامرية" كأرشيف تاريخي لما حدث لملجأ العامرية في شهر شباط من عام الـ1991 في العراق، حيث تعرض لقصف القوات الأميركية. هنا، يعيد نصير شمة، عازف العود العراقي، تصوير وإخراج مشهد العامرية كفلم صوتي بامتياز تقوم الرؤية فيه على السماع لا البصر.
تتكأ المقطوعة على أداة موسيقية واحدة؛ العود. يتجسد فيها كقنطرة عبور للحدث نحو عوالم الإنسان المستهدف مشكلاً بذلك رؤية تُصّور المجرم عاريا امام عين الرائي بسمعه؛ لتحيلنا موسيقى المشهد إلى بشاعة وفظاعة الحدث في استحضارٍ للمخيلة ليصبح الرائي بسمعه منتجاً لصور مسرح الجريمة دونما سبق حضوره هناك. ولا تترك الموسيقى متسعاً للتخمين في هوية الضحايا، إذ ليسوا ضباط جيش أو محاربين، بل هم بكونهم لائذين بالملجأ، أطفال ونساء وشيوخ من المدنيين العزّل.
يُفتتح المشهد بخلفية موسيقية تحيل مخيلة الرائي/ السامع إلى صور الربيع الحافل بالطفولة والسكينة والراحة وعوالم المرح والفرح. هنا، يتعقب نصير شمّة بعوده ككاميرا خفية ترصد تحركات الأطفال في لحظات سعادتها ونشوتها واحتفائها بعالمها المحيط. في المفتتح، والذي يستمر لمدة ثلاث دقائق ونصف، تحضر حالة اللاحرب، وتوحد الموسيقى السامع مع الأطفال وذويهم بما تستثيره ضربات العود ونغماته المستثمِرة والمستثمَرة في آن للتصورات الذهنية عن موسيقى فرح الأطفال ونشوتهم وسعادتهم.
في حالة من اللاتوقع، تختفي الضحية من المشهد عن عين الكاميرا/ العود لترصد الأخيرة صفارات الإنذار، كما وحالة الهلع العام والتوتر في مفردات المشهد والرعب المخيم عليه. يظل الرصد قائما حتى تدخل الضحية الملجأ، إذ لحظتها يتعذر على الكاميرا أن تدخله مع الداخلين الأمر الذي يفسر غياب صوت الضحية وصورتها هناك. حينها تنشغل الكاميرا/ العود برصد طائرات الهليوكبتر ورحلات الغارات وتصوير الفزع بين غارة وأختها. تتسع، هنا، الرؤية الموسيقية حدَّ إنتاج أصوات متنوعة ومتعددة في لحظة واحدة من آلة واحدة بكفين اثنتين لعازف واحد؛ تعمل كلها على رسم وتشكيل المشهد كما لو أنّ السامع للمقطوعة رائياً للحدث بامتياز.
تالياً لمشهد عزف القصف، يعزف نصير شمّة الصمت لتكتمل بذلك بلاغة الصورة؛ إذ يتوفر الناس بعد صولات القصف والعاصفة على تساؤلات الدمار واستيعاب الفاجعة. يخيم الحزن بعدها على المشهد كاملا في حالة هدوء تتناسل من خلاله الأرواح وتنسحب تاركةً نسمات هواءٍ وأنقاض خلفتها الطائرات خالية إلا من الموت.
في حمأة الإنفعال الشديد بالحزن والمأساة، يعزف نصير العزاء وفق مقام الحجاز بما يليق بجنازات الشهداء، إذ يحيلنا هذا المقام في هذه المقطوعة بالذات إلى الآذان. يستقي المشهد شهادته من مقام الحجاز ليشهد، به ومعه عبر التنافذ مع العقل الجمعي للعرب المسلمين بؤرة عين القنص، على شهادة الضحايا.
تتراصف الأحزان في هذا المشهد العزائي ما قبل الختام حدّ التساؤل: "لم يدفن الأموات موتاهم، عمىً؟ قد يرجعونْ قد يرجعون، إلى رحى أذهانكم، مثليْ، فتطحنُ، خلسةً، كلُّ احتمالات الفناء بقاءَكُمْ، وتعيدكمُ للأبجدية، والقراءة والكتابة، من جديد." والموت يرقد حيث يرقدون. وفي المشهد الأخير، يصير الموتُ بين حياتين صفرا.