كتب الأديبُ والتربوي الفلسطيني خليل السكاكيني (1878-1953) لابنه سريّ المغترب للدراسة في أميركا في 3 أيار/ مايو 1934 يُبشّره: "اعتمدنا بعد الاتكال عليه تعالى أن نشتري قطعة أرض نبني فيها بيتاً متواضعاً نأوي إليه بعد أن أُحال إلى التقاعد". خرج السكاكيني بعد هذا الاتكال مع زوجته وابنتيه وبعض الأصدقاء في موكب إلى القطمون، غرب القدس المسوّرة، حاملين خرائط أراضيها إلى أن وقع اختيارهم على واحدة "إلى الشمال من القطمون هي ملك أحد الرهبان".
لا يفوت السكاكيني أن يصف لابنه حماسة أمّه سلطانة بقرب انتهاء معاناة الانتقال من بيت مستأجر إلى آخر، والاستقرار أخيراً في بيت مملوك، فيقول: "لقد كادت أمك تنقل الأثاث إلى قطعة الأرض التي أمامنا فتُعلق حبلاً على شجرة الصنوبر الكبيرة وتترجح وتزغرد". تأخر بعد ذلك بناء البيت في ظلّ الإضراب الكبير الذي ساد فلسطين الانتدابية وأحداث ثورة 1936، إلا أن الموت حرم سلطانة من التنعم طويلاً بهذا البيت بعد انتهاء بنائه، إذ توفت عام 1939، ولحق هذا الحرمان بزوجها وأولادها بعد أن سقط البيت "الجزيرة" بيد العصابات الصهيونية.
نشعر ونحن نقرأ تلك الرسائل في يومياته المنشورة "كذا أنا يا دنيا"، بالرمزية الدافئة والعميقة التي يُمثِّلُها بناء البيت في وجدان السكاكيني، باعتباره حيزاً عائلياً حيّاً نابضاً تتجسد فيه بعض أحلام الطبقة المتوسطة المثقفة المتشكلة في القدس آنذاك. فهو يريده على "أحسن حال" وهيأ له "أعظم الحدادين والنجارين". يشاركنا هذا العمق قائلاً: "لم أكن أفكر قبل اليوم أن تكون لي دار، وأما في هذه الأيام فإني أحسب أن بناء دار متواضعة هو السعادة كلّها. إذا كانت لنا دار فمهما كان دخلنا قليلاً استطعنا أن نعيش راضين مطمئنين، وإذا رحلتُ عن هذا العالم بعد أو أوفيكم حقّكم من العلم والثقافة وأهيئكم للحياة، وكانت لكم فوق هذا دار تسكنونها، ذهبت راضياً مطمئناً مجبور الخاطر بعد عمر طويل إن شاء الله".
هذه الدار التي سمّاها السكاكيني "الجزيرة"، لأن الطرق كانت تحيط بها من كل الجهات إلا جهة واحدة، وسمّى غرفها: صنعاء، ودمشق، وقرطبة، وبغداد، والقاهرة، أراد لها ـ كما يظهر في يومياته ـ أن تكون ذات بناء منيع مقاومٍ للزلازل والحرائق. هذه الدار التي رآها جامعة للعائلة وللأدباء والمهتمين بالثقافة، سقطت أمام حرائق وزلازل الحرب. فما حالها اليوم، ومن "تجمع" بين جدرانها المنيعة؟
في حيّ القطمون الذي تطور في نهاية القرن التاسع عشر ونشأت فيه برجوازية فلسطينية، لا تجد تلك الجبال والسهول التي قطعها "موكب" السكاكيني للبحث عن قطعة أرض، فكل الأراضي اليوم "محتلة": هنا مستشفى، وهناك مدرسة، وهنا كنيس، وهنا بيت حديث البناء يأوي مستوطنين جدد من استراليا، وغيرهم. وبينما كان المارّة في الشوارع يدققون النظر ويتفحصون الوجه العربي "الغريب" المقتحم لـحارتهم، كنت منشغلة في "العثور على البيوت العربية المنهوبة".
الدخول إلى حي القطمون كان ـ وبتعابير التكنولوجيا الحديثة ـ أشبه بلعبة "game" على الحاسوب، على اللاعب فيها أن يلتقط الكنوز والنقود الظاهرة فجأة في طريقه قبل أن تسبقه خطوته وتفوته. الكنوز هنا هي التحف المعمارية التي خلفتها وراءها الطبقة الوسطى المقدسية بعد تهجيرها عام 1948. تصادفك بنايات حديثة النشأة لا ذوق فيها ولا معنى، مبانٍ سكنية مصفوفة برتابة أقصى آمالها أن تؤدي مهمة الإيواء بعملية شديدة. هل لسكان هذه العمارات أبناء في الغربة يوصيهم آباؤهم بالجدّ في طلب العلم؟ فجأة وسط هذه تلك العلب العمرانية تلوح لك الكنوز، بيوت عربية بنيت بعناية فائقة وبجمالية عمرانية مبهرة: هذا واسع وذو طوابق، وهذا مع حديقة واسعة، هذا من طابق واحد أضيف فوقه بناء حديث لا يشبهه. تسمح لنفسك باغفال معايير الأمان على الطريق وأنت تخفض رأسك لتجمع ما استطعت من نظرات إليها من واجهة السيارة الزجاجية.