شبكة قدس الإخبارية

قراءة في رواية عائد إلى حيفا

هادي الصّدر
كعادته حينما يقرأ الروايات يصنع لها طقساً خاصاً، أما هذه الرواية فهي التي صنعت ذلك الطقس الخاص، اجتاحته بألمها وقوتها. هكذا هي روايات غسان كنفاني تربطك بواقعك دوماً مع أنها كُتبت منذ زمن ولم يتغير الحال بعد، لا تربطك بواقعك فحسب، بل تطرق وعيك على أمور كثيرة ، هكذا كان يردد دوماً. حينما شرَع في قراءتها ذهب إلى حيفا مع سعيد وزوجته صفية وعرف أنهما قد هُجِّرا قسراً عام 1948، ولكن لم يقتصر الأمر على هذا فقط بل بقي ابنهما خلدون هناك ولم يتمكنوا من العودة لرؤية حيفا وخلدون إلا بعد عشرين سنة، وكما قال سعيد يعرفها هو أما هي فتنكره! سائحٌ هو في الرواية تائه في الوطن سابح في حيفا، والبيت الذي خرجا منه متألم لِما يحصل معهما، يستذكر ويحاول أن يتخيل شعور الفلسطينيين في تلك اللحظة. قاطعه صاحبه وهو يقرأ الرواية قائلاً: "هل الرواية جميلة؟" ما تعريفك للجمال يا صديقي؟! أتقصد بأن الرواية جميلة أدبياً؟ لا أعرف. أتقصد بأن فيها من التشبيهات والبلاغة الشيء الكثير؟ لا أعرف. أتقصد بأنها تملك الكثير من الخيال؟ لا أعرف. ولكني أعرف أنها تحاكي واقعنا، تتكلم عن أجدادنا، تتكلم عنك وعني وعنه وعنها. أيا صديقي، أريد أن أسألك ما هو الوطن؟ هل تعرف؟ جميعنا نقول نريد أن نكون وطنيين، ماذا يعني أن تكون وطنياً؟ هل ذلك يعني أن تقدس غصن الزيتون ؟ أو البندقية؟ أو هو تراب بلدك ؟ أو حبيبتك؟ أو جميعهم؟ وتابع وهو يبتسم ابتسامة خفيفة حزينة، ربما يكون الوطن يا صديقي ما تشمه في رائحة طعامك وتتربى معه في حارتك، تتعلمه تشربه تستنشقه تأكله تتكلم عنه، هو كلك وكله، هو أنا وأنت أيضاً، فكيف يعرف الوطن من ولد بخارج فلسطين؟ وكيف يتربى على حبها؟ قال له صديقه: ألا تخاف من المواجهة يا رفيق؟ سكت لحظة، ثم أجاب بلا أدنى تردد: كأي طفل ولدت وربيت على الخوف، خوف والديّ على نفسي أكثر من خوفهما على نفسهما، زرع الخوف في قلبي، ترعرع ونما، وما ذنبي أنا إن ربيت على الخوف؟ يتحدث كل أصدقائي أنه لو حدث كذا سيفعلون كذا، أما أنا فأبقى صامتاً، فأنا لا أريد الكلام بأنني شجاع ولا أفعل شيئاً. خوفي هو من يدمرني، يوقفني، يجعلني أفكر آلاف المرات قبل أن أفعل أي شيء. ليس ذنبي إن ربيت على الخوف، ولكن ذنبي إن بقيت عليه طوال حياتي ولذلك قبل أن أنام كل ليلة أقول لنفسي: يا نفس إنكِ زائلة زائلة، فكما سبقتكِ أرواحٌ غيركِ فستذهب روحكِ الآن أو غداً أو بعد غد، ستذهب روحك ِوتفنى؛ فلا تخشي شيئاً. يبقى خائفاً وصامتاً ولكنه وقف في وجه خوفه وقرر أن عليه في مرحلة المواجهة أن لا يجبُن.  وهذا ما قاله سعيد بعدما قابل ابنه خلدون الذي صار اسمه "دوف" بعدما استلمته العائلة المغتصبة الصهيونية، وقد أصبح جندياً في الجيش الإسرائيلي، قال له: "قد تكون معركتك الأولى مع فدائي اسمه خالد، وخالد هو ابني، أرجو أن تلاحظ أنني لم أقل أخوك، فالإنسان كما قلت قضية، وفي الأسبوع الماضي التحق خالد بالفدائيين." لكن سعيد يعرف بأنه منع ابنه خالد من الذهاب مع الفدائيين لخوفه عليه، ولكن بعد هذه الزيارة قال لزوجته صفية وهو في طريق العودة من حيفا إلى منزله في رام الله: "أرجو أن يكون خالد قد ذهب أثناء غيابنا"  بعدما أنهى الرواية كتب على حائطه القول الذي سيصبح مأثوراً: "الرصاصة التي ستقتلك لن تشعر بها!"