في غزّة ثمّةَ من يفكّر خارج الصندوق ويغرّد خارج السرب، رافضاً التساوق مع حالة الانغلاق التي تصيب الثقافة في مقتل. نهر الثقافة الممنوع من الجريان هنا تقف الضوابط المجتمعيّة والسلطة ذات الرؤية اليمينية على منبعه لإيقاف انسياب مياهه. في غزة مهما تعدّدت عوامل جفاف منابع الثقافة، تبقى النتيجة واحدة، وهي أن "الثقافة" مفهوماً وحياةً لا تتجلّى إلا بين دفات الكتب.
لا تُلقى مسؤولية ضمور الحالة الثقافية الغزيّة بشكلٍ كامل على السلطة التي تحتجز الأدب والفن في قالبٍ لا يخرج عن الضوابط والمحدّدات الشرعية بحسبها، بل يلعب المتثاقفون دوراً كبيراً في ذلك. هؤلاء الذين يدّعون رفعهم لراية الثقافة بلا قيود يعانون من شيزوفرينيا واضحة المعالم. فعلى سبيل المثال لا الحصر، يضخّون نهاراً محاضراتٍ حول مواضيع شائكة تمسّ الثالوث المحرّم، فيما يغتصبون زوجاتهم ليلاً.
وتصدّياً لظاهرة التثاقفيّة وحصر المشهد الثقافي الغزيّ في أشكالٍ لا ترضي إلا أذواق اليمنيين والمحافظين، خطّت أندية شبابية ثقافية طريقها بيدها دون أن يملي عليها أحدٌ شروطها واتجاهها. "ديوان غزة" أحد الأندية الذي لاقى قبولاً واستحساناً كبيرين في صفوف الشباب الغزيّ المتعطّش لإلقاء أيّ حجرٍ في المياه الراكدة لتحريكها.
عصفت فكرة النادي بأذهان الشباب القائمين عليها حينما جمعتهم الصدفة بحصولهم على تدريب مشترك للمدوّنين في شبكة "أمين الإعلامية". وضع هؤلاء الشباب حجر الأساس لفكرتهم في قلب الشبكة، وتقاربت آراؤهم وتطلعاتهم أكثر لحظة تنظيمهم لايف ستريم لفعالية "تيدكس رام الله"، لتكرّ المسبحة بعدها، فعقدوا لقاءً بشهر يوليو من العام 2011 يستقطب جميع مغرّدي غزة. شعروا حينها بحاجةٍ ماسة لجسم متكامل الأعضاء يلمّ شتاتهم ويستوعب الطاقات الكامنة داخلهم، فقرّروا تدشين نادٍ يحمل اسم "ديوان غزة" من أجل تعويض الشباب عن كلّ ما يفتقرون له من رعايةٍ أدبية وفنية.
[caption id="attachment_37032" align="aligncenter" width="403"] صورة من لقاء مغردي غزة عقب العدوان على القطاع عام 2012[/caption]ورغم قصر عمر الديوان الزمني، غير أنه تمكّن من إحداث قفزةٍ نوعيّة على صعيد مدّ يد العون للشباب للنهل من بحر الثقافة الذي لا ينضب، حيث لم يقتصر عمله على نادٍ بعينه، بل توزّعت وتفرّعت اهتماماته على ثلاثة أندية وهي نادٍ للكتاب ونادٍ للأفلام السينمائية وآخر للفلك.
تخطّى النادي حتى هذه اللحظة أكثر من 30 لقاءً لتبادل الكتب ومناقشة سطورها والبحث في أعماقها، حيث تضمّن كلّ لقاء قسماً لنقد الكتب التي أتمّ الأعضاء قراءتها، وآخر يتكفّل به أحد الأعضاء لتحديد عنوانٍ ما ليصبح عرضةَ للنقاش، وبعد طيّ صفحة النقاش هذه، يحتكم النادي إلى الأسلوب الديمقراطي عبر التصويت لتحديد العنوان القادم.
[caption id="attachment_37029" align="aligncenter" width="403"] صورة من إحدى لقاءات تبادل الكتب[/caption]خاض الشباب رحلات تنقّل بين الروايات والكتب التاريخية والفكرية والفنية، مانحين جلّ اهتمامهم للروايات كروايات عبد الرحمن منيف ورضوى عاشور وإبراهيم نصر الله. ولا يعني ذلك أن هناك شأناً يمثّل خطاً أحمر لا يجوز الاقتراب منه لمناقشته، فمثلاً المواضيع السياسية رغم محاولة النادي للابتعاد عنها قليلاً نظراً لتصدّرها المشهد الغزي وعدم غيابها عن حياة أبسط المواطنين، إلا أنها نالت حضوراً في هذه الجلسات الثقافية؛ لكن بإطار يكفر بالتجاذبات والتشرذمات السياسية.
وحول التغذية الراجعة التي حققها النادي خلال فترةٍ وجيزة، تقول علا عنان إحدى الشابات المؤسسات للنادي في حديثها لـ"شبكة قدس": "في كلّ لقاء نلمح وجوهاً جديدة ونقاشاً أكثر تفاعلاً، وهذا دليل على اتساع رقعة الفكرة وعدم انحصارها في فئةٍ بعينها. الجميل كذلك أنكِ تنسجين علاقات تعارف مع شخصيات مختلفة الرؤى والتوجهات وبعيدة عن دائرتك الصغيرة في الحياة، ما يساهم في فتح مدارك الشباب بشكل كبير".
كما شاء الديوان ألا يكون حبيس الكتب، فحرّر ذاته منها عبر العمل على مساري الأفلام السينمائية والفلك، فخصّص نادياً مستقلاً يُعنى بانتقاء الأفلام غير التقليدية التي أثارت جدالاً واسعاً وأحدثت صخباً لامحدوداً في عالم السينما، وكذلك التي لا تحظى بمساحةٍ لها على الفضاء الإلكتروني من قبيل خمس كاميرات مكسورة، وعمر، والفيلم الفرنسي "المنبوذون" وآخر عن سفينة مرمرة.
افتتح الديوان نادي السينما بعرض فيلم "One day on earth"، والذي يدور حول أحداث يوم واحدٍ بأصقاع الأرض كافةً. وتقول عنان: "نسعى دوماً لعرض أفلام من خارج صندوق السينما الفلسطينيّة المعتاد، فمثلاً على مدار يومين كان الديوان حاضراً في مهرجان الأفلام السويدية مع حضور ممثلّين عن القنصليّة السويدية، كما نلحظ استحساناً من قبل الشباب للأفلام الأجنبية أكثر من الفلسطينية". وتضيف: "لا يتم مناقشة الفيلم ونقده إلا بحضور صانع الفيلم أو مخرجه، فحينما عرضنا فيلم خمس كاميرات مكسورة، اتصلنا بعماد برناط ليغذّى اللقاء بحوارٍ ساخن بينه وبين الجمهور الذي تفاعل معه".
لم يسر الديوان على أقدامه على الأرض فحسب، بل اجتاز ذلك وسبح في الفضاء، مؤسّساً نادي الفلك المعتمد على عالم الفلك الفلسطيني سليمان بركة. شهد النادي أول فعاليّة له في العام الماضي بعقد ندوةٍ عن الفلك بحضور علماء من الجزائر والأردن، وتبعها عرض لثلاثة أفلام تخوض في دهاليز الفضاء والفلك.
ويواجه الديوان تحدياتٍ جمّة أهمها الابتعاد عن الرتابة والملل في الفعاليات التي تطال مناحي الثقافة كافةً. وتوضح عنان أن طموح النادي لا سقف له، متمنيّةً أن يفعّل الديوان العمل المجتمعي وينزل إلى وسط الشارع بأنديته الثلاثة التي لا تركل أصحاب التوجهات الإسلامية لو طرقوا أبوابها، وذلك رغم إحساس القائمين على الديوان بأن السلطة زرعت الإسلاميين فيه كعيون مراقبين على أنشطته. وفي ظل التيه الذي تعاني منه وزارة الثقافة في غزّة، فلا تنشط إلا موسميّاً وتحديداً بمعارض الكتب، يبقى صوت "ديوان غزة" صوتاً متمرّداً على من صبّ الثقافة في قالبٍ معين.