شبكة قدس الإخبارية

الأسيرعيسى عبد ربه... الشاب الذي صلب لثلاثين عاماً على خشبات الوطن

هيئة التحرير

لارا يحيى ومصعب شاور

ينص القانون الدولي بوضوح على خروج الأسرى في حال توقيع اتفاقيات سلام ما بين دولتين متنازعتين، فمن المفترض أن يتم الافراج عن الأسرى لدى الجانبين كبادرة نيه حسنه وطيبة ودليلاً على احلال السلام.. ورغم أن منظمة التحرير كانت الوجه الشرعي والممثل للشعب الفلسطيني، ووقعت اتفاق أوسلو للسلام مع دولة الاحتلال في العام ١٩٩٤ إلا أن الاحتلال تنكر لهذه القاعدة واحتفظ بـ ١٠٤ أسرى معتقلين منذ ما قبل اتفاق السلام هذا، شاءت الدنيا أن يمضي بعضهم ٣٠ عاماً زوراً في سجونه..

كان أكبرهم سناً هو الأسير عيسى عبد ربه ابن مخيم دهيشة للآجئين جنوب مدينة بيت لحم المحتلة.. الذي عاد وأخيراً لبيته بعد غياب دام لـ ٢٩ عاماً و٩ أيام، عاد عيسى المصلوب على عمدان حب الوطن لثلاثين عاما إلى حضه والدته "أمونة" التي أضناها التعب في ٢٩ عاماً متواصله وهي تلاحقه من سجنٍ لآخر.

[caption id="attachment_34908" align="aligncenter" width="432"]الأسير عيسى عبد ربه حرا بعد 30 عاما من الأسر الأسير عيسى عبد ربه حرا بعد 30 عاما من الأسر[/caption]

قال عيسى في اول كلماته: "لحظة الانتظار التي مرت ما بين التأخير في لإفراج عنا حتى تم إخلاء سبيلنا وفتحت بوابة السجن كانت هيَ الأصعب والأكثر خوفاً، لكن صدري امتلأ بشعور لم آلفه منذ زمن، شعوري بالحرية بعد أن خرجنا إلى الحافلات إثر ساعات طوال من الانتظار، وعلا صوت السائق آمراً ألا نخرج أي شيء من نوافذ الحافلة، وشاهدت اصطفاف أبناء شعبنا العظيم لاستقبالنا، تنفس نسيم الحرية هو الذي رسم البسمة وبعض الدموع على وجهي دون وعي مني وكأني في حلم كامل الأركان، قبل دقائق كنت مكبل اليدان والقدمان، والآن لا قيد ولا سجان."

لحظات صعبة.. وأخرى تخفف عن غيره الألم

كل أمور الأسير في الأسر صعبة، إلا أن أقساها تلك التي يتلقى فيها خبر فردٍ من عائلته أو أصدقاءه اعتقل عبد ربه في العام ١٩٨٥ بعدها بعدة أعوام وتحديداً في العام ١٩٩٦ تم طلبه من قبل القوى الوطنية في داخل معتقل عسقلان، أرسلوا زميلاً له يناديه ليتوجه نحو مكتبة الأسر، لمقابلة أعضاء من "اللجنة الوطنية" التي تضم قيادات من كافة الفصائل الوطنية الفلسطينية ، بداية الحديث كانت عن دورة الانسان في الارض والحياة والموت.. اختصر عبد ربه الحديث وقال من مات ؟ّ فأبلغوه بوصول برقية تبلغه بوفاة والده.

قال عبد ربه: "لقد كان فعلاً هذا هو أسوء خبرٍ تلقيته وأنا بالأسر، إن شعورك بالفقدان صعب جداً فماذا لو فقدتهم ولم تستطع أن تشارك في مراسم العزاء أو حتى تلقي نظرة الوداع على من توفى"، ومن ثم تعرف أنك فقدته عبر "برقية" أو زيارة لأحد من أفراد عائلتك، وحديثاً عبر الإذاعات المحلية" كأنك فعلاً مسجون داخل سجن آخر!.

بعد عدة سنوات في الاسر كان هناك شاب من حركة "حماس" بحاجة لعملية في منطقة حساسة، عمل عيسى بالتعاون مع الأسير الممرض أكرم سلامة من خانيونس، له العملية في عيادة مشفى الرملة بدون إذن من أحد كون الإدارة قررت تأجيل عملية لثلاثة أشهر.. وقال عيسى ضاحكاً: "وأجرينا له العملية وشفي منها وقام بعدها أخذنا بالأحضان وذهب".

1488218_558225994264654_962105950_n

اعتقالات عدة والسبب واحد "فلسطين الحبيبة"

اعتقل عيسى للمرة الاولى في الأردن على إثر حادثة طعن قام بها عيسى ضد شاب مصري شتم الشعب الفلسطيني، نال فيها حكماً بالسجن لـ ١٠ سنوات، خفضت لخمس سنوات، بعد الاستئناف، أمضاها وعاد لفلسطين.

عودته لفلسطين حملت معها مشهداً لاغتيال ابن عمه الشهيد محمد بدم بارد، حين جره جنود الاحتلال إلى الجبل المقابل لمخيم الدهيشة وقتلوه، وبعد استشهاده، نظم ناس المخيم، رغم قمع الاحتلال، وحظر التجوال، وحملة الاعتقالات، اعتصاما على مدى أيام في منزل الشهيد، وكانوا يتحدون الاحتلال، بالغناء والأناشيد الوطنية التي كانت منتشره في تلك الأيام، دفع هذا الأمر عيسى للتخطيط لعملية إطلاق نار مباشره على المستوطنين المارين في منطقة دير كريمزان وتحديداً على حافلة للمستوطنين تمر من هناك في ساعات الصباح، انتظر عيسى طويلاً ولم تأتِ الحافلة، فقرر ألا يعود خالي الوفاض، وانتظر سيارة مارة بداخلها شخصين اطلق عليهما النار وفر من المكان.

وصل لمخيمه بعد ساعات، وبعد يومين تماماً كان الاحتلال في انتظاره على باب المخيم، كان المخيم في حينها (١٩٨٢) عبارة عن غرف صغيرة، قفز ابن الـ ٢٧ عاماً من غرفة لأخرى إلى أن لحق به جنود الاحتلال ووجهوا البنادق لرأسه من نافذة إحدى الغرف وأمسك به أحد جنود الاحتلال من رقبته وقال له الجندي الدرزي " اذا بتتحرك بقوصك".

سحبوه لتحقيق طويل، لا نوم فيه ولا راحه لثلاثة أيام في زنازين الشبح والتعذيب عانى عبد ربه من سيول الدم على جسده، وسجانه لا يرحم، لكن المفاجئة أن التحقيق كان يرمي لانتزاع اعتراف منه بخصوص حيازته على السلاح، ورغم هذا التعذيب لم يعترف.

[caption id="attachment_34909" align="aligncenter" width="504"]تعذيب متواصل وتحقيق قاسي دون اعتراف تعذيب متواصل وتحقيق قاسي دون اعتراف[/caption]

نقل بعدها كما حدثنا إلى زنازين لا تعذيب فيها، لقد كانت "غرف العصافير"، لكن عيسى لم يعرف أنهم "جواسيس" استقبالهم الحار، وحفاوتهم الفجة لم تجعله يشعر أنه في فخٍ منصوب أصلاً كي يعترف، سأله المتحافون عن "تهمته" وبعد أن أخبرهم عمن هو وماذا جاء به إلى هنا، إدعى "العصافير" أنهم من شباب "الثورة" وسألوه عن السلاح، أخذت الحمية عيسى ودلهم عن مكان تخبئة السلاح تماماً، وسقطت الراية.

عاد بعدها للتحقيق، ورمى المحقق بوجهه حقيقة أنه قد اعترف أمام العصافير بما أرادوا معرفته، "وزيادة" علق عيسى عابساً: "نعم، من أبناء جلدتنا، ومحسوبون خطأ أنهم "فلسطينيون" ويكسرون راياتنا أمامهم!".

التعليم والأسر..

نشأ عيسى في ظروف صعبة، والتعليم لم يكن متاحاً بالشكل السهل، حتى انه وصف نفسه بالأمي، اعترف عيسى بابتسامه جميله علت محياه أنه نال التعليم الدراسي جميعه في الأسر، وحصل على شهادة الثانوية العامة، وحاول أن يكمل تعليمه في الجامعة العبرية، إلا أنه توقف بعد فترة .. شعر وكأن الأمر فيه خيانة لوطنه، على حد تعبيرة.. شاكراً في الوقت ذاته أشقاءه الأسرى الذين ساندوه في بداية أسره وساعدوه على الدراسة.

[caption id="attachment_34910" align="aligncenter" width="364"]قرار محكمة الاحتلال بالسجن المؤبد مدى الحياة قرار محكمة الاحتلال بالسجن المؤبد مدى الحياة[/caption]

المرحلة الأصعب .. "عيسى" طبيب الأسرى المرضى، وأمانة من السجن

في داخل سجن الرملة، وقبل عدة أعوام عمل عيسى دوبيراً للأسرى المرضى أي "ممثل الأسرى أمام إدارة السجن" لفترتين مدة ١٥ شهراً كان ممثل الكتل اللحمية التي لا تقو على الحركة أو الكلام أمام سجانٍ لا يخشى فيهم إلا ولا ذمة.

يقول عيسى: "أنا لم أمثلهم فقط أمام الإدارة بل كنت أساعدهم وأعينهم على أبسط أمور الحياة خاصة في وضعهم الصعب كونهم مرضى ولا يقون على عمل شيء أو مساعدة أنفسهم حتى" أضاف بعيونٍ يملأها الدمع: "لقد كنت صديقاً مقربا، للأسير الشهيد أشرف أبو ذريع، وهو كان أسيراً مقعداً".

"وسأذكر بعض الحالات التي كنت أتابعها أنا بشكل مباشر ومنها الأسير ناهض الأقرع وهو مبتور القدمان، ولا يقوى على الحركة، يعاني من ألتهاب وتعفن في قدمه، كنت اساعده قبل أن يتم بتر قدمه اليسرى المبتورة نتيجة للتعفن، والأسير رياض العمور، وهو مقيم دائم في المشفى منذ ثمانية أعوام، لكونه يملك أمعاء بلاستيكية، ويعاني من اصابات في رأسه وبطنه نتيجة التعذيب، كما يعاني من مشاكل في القلب، وهو كثير الوقوع على الأرض بسبب مرضه، عانى فترة من الفترات من آلام شديدة في قلبه الذي يعمل أصلا على البطارية، وبعد سلسله من الاحتجاجات وارجاع الطعام والطرق على الأبواب، نقله الاحتلال إلى مشفى خارجي وأجريت له عملية قلب مفتوح، رغم إصرار أطباء الرملة أن قلبه بصحة جيدة".

والأسير محمد اسعد،يعاني من مرض "الفيل" نتيجة لانسداد في الشرايين والغدة، والأسير منصور موقده،حقا لا تنطبق عليه إلا ربع بني آدم هو محكوم مدى الحياة، و قد أصيب بثلاث رصاصات من نوع دمدم متفجر في العمود الفقري والبطن والحوض، وعلى إثر ذلك فقد انفجرت مثاني البول، وتم زراعة معدة له من البلاستيك، ولا زال بطنه بحاجة الى شبكية، والآن يجلس على كرسي متحرك في مستشفى سجن الرملة منذ ثمانية أعوام لكونه مصاب بشلل نصفي ولا يستطيع النوم أكثر من ساعة.

والأسير محمود سلمان المصاب بتضخم في القلب وانسداد بالشرايين والتهاب في الرئتين ومرض السكري منذ سنوات، و الأسير سامر عويسات، يعاني من حالة عصبية وحالة من الصرع تصيبه بين الحين والآخ، وبعد أن تم إجراء عملية جراحية في منطقة الصدر حتى أسفل البطن، وذلك لاستئصال عيار ناري أصيب به واستقر في منطقة الظهر، والأسير خالد الشاويش، يعاني الشلل النصفي ولا يقدر على أي حركة".

أصر عيسى أن يذكرهم بالاسم والاصابة، وآلينا أن نكتبهم بالاسم والاصابة كما ذكرهم، ذكر مريضهم بالاسم حتى شهيدهم المحرر لم ينسه، حمل عيسى رسالة سامية، نقلها عبرنا إلى الجهات الرسمية، التي طالبها والشعب الفلسطيني بالاتفاف حول الاسرى المرضى خاصة، ومساندتهم، ذاكراً أنه وجه رسالة مباشرة للرئيس الفلسطيني محمود عباس الذي وعده أن تكون هناك صفقة خاصة تشمل الافراج عن الأسرى المرضى جميعهم وبأسرع وقت.

الرسالة الأخرى هي رسالة الوحدة، فطلب عبد ربه من الفرقاء الفلسطينيين أن يعودوا لوحدتهم، كون فرقتهم تعني فرقة الأسرى داخل قلاع الأسر لأن الاحتلال حين يتعامل مع وحدة الكل الفلسطيني يختلف تعامله حين يتعامل مع كل فريق لوحده، حسبما قال.

في الختام علينا أن نعترف بما بدا واضحاً خلال اللقاء أن هناك فجوة موجودة، هذا المصلوب على خشبات الشوق والنصرة للوطن، عاد بعد ثلاثون عاماً محملاً بالألم، والحب، والشوق، محملاً بالحياة بكل ما فيها وكأن سنين الأسر ما مضت، وكأنها كانت غربة طويلة ليس إلا.. عيسى الذي سجن وهو بلا هوية، عاد اليوم بهوية فلسطينية تحمل شعار السلطة، وحمل "هوية شخصية" لأول مرة في حياته.