شبكة قدس الإخبارية

هل يساعدنا الفايسبوك حقاً على التواصل؟ (3)

طوني صغبيني

العيش كصورة كيف يجعلنا الفايسبوك أكثر تعاسة

 

هل يساعدنا الفايسبوك حقاً على التواصل؟

  لا تزال الدراسات حول تأثير الفايسبوك على علاقاتنا الاجتماعية قليلة، خاصة أن الشبكات الافتراضية هي ظاهرة حديثة العهد. لكن الدراسات القليلة التي أُجريت حتى الآن تشير إلى أن علاقة الشبكات الاجتماعيةّ بالحميميّة هي علاقة عكسيّة: كلّما زاد الاعتماد على الشبكات الاجتماعية كلّما خطت العلاقات الحميمة خطوة إلى الوراء. بعض هذه الأبحاث تمت مناقشتها في كتاب البروفيسور شيري توركل في كتاب “وحدنا معاً: لماذا نتوقّع المزيد من التكنولوجيا والقليل من بعضنا البعض” (Alone Together). بعد الإطّلاع على العديد من الدراسات الميدانية، وجدت تاكل أن المراهقين اللذين يعتمدون على الفايسبوك لإنشاء علاقاتهم الاجتماعية الأساسية هم الأكثر توتراً ووحدة مقارنة مع الآخرين. المراهقين اللذين يعتمدون كثيراً على الفايسبوك غالباً ما يعلقون في علاقات سطحيّة مع عدد كبير من الأصدقاء الافتراضيين من دون أن يطوّروا علاقات حميمة حقيقيّة وجهاً لوجه. بالارتكاز على هذه الملاحظات خرجت البروفسورة بأطروحتها التي تقول أنه رغم وعود التكنولوجيا الكثيرة بتعزيز التواصل الاجتماعي، هي تجعلنا في الواقع أكثر وحدة وتتحوّل اليوم إلى عائق أمام الحميميّة الحقيقية في العلاقات الإنسانية. تخلص توركل إلى القول أنه: “قد يكون لدينا الآن خيار العمل والتواصل من أي مكان، لكننا أيضاً معرّضون لأن نكون وحيدين في كل مكان. في انعطاف مفاجىء، التواصل الالكتروني الدائم قاد إلى نوع جديد من الوحدة. نحن نتطلّع إلى التكنولوجيا لملأ الفراغ، لكن كلّما تقدّمت التكنولوجيا، كلما تراجعت حياتنا العاطفية والاجتماعية”. الخلاصات التي توصّلت إليها تاكل ليست مفاجأة، فالفايسبوك يشجّع على إقامة علاقات إنسانية سطحيّة لا عمق فيها، تبدأ بكبسة زرّ وتنتهي بكبسة زرّ. بالنسبة للمراهقين والشباب اللذين بدأوا حياتهم الاجتماعية على الفايسبوك ولم يختبروا العالم والصداقات الحميمة قبل وجود الانترنت، الشبكات الاجتماعية هي تهديد حقيقي لقدرتهم على بناء صداقات حقيقيّة على المدى البعيد. معظم المستخدمين البالغين للفايسبوك يعلمون أن غالبية الأسماء على لائحة أصدقائهم هم مجرّد “معارف”، لكن الأطفال والمراهقين لا يمتلكون أحياناً هذه القدرة على التمييز ويميلون إلى الاعتقاد بأن الصداقة تقوم على تبادل اللايكات على فايسبوك وأن “الصديق” هو الشخص الغريب الذي نتحدّث معه أونلاين. حتى بالنسبة للبالغين، العلاقة الجماهيرية التي يشجّع الفايسبوك عليها لا تكترث بإقامة صلة إنسانية مع الآخرين بل تشجّع فقط على استعراض الذات على الآخرين. وهذا هو الهدف والمعنى من الفايسبوك: استعراض الذات، لا بناء الصداقات، أو على الأقل، هذه هي نتيجته على أرض الواقع. في العمق، الفايسبوك لا يتمحور حول الآخرين، يتمحور حول ذاتنا، حولنا نحن، يشجّعنا على أن نعتقد أننا محور التركيز والاهتمام. وهذا بدوره يشجّع على الغرق في حبّ الذات وعدم الاكتراث للآخرين وهذه ظواهر لا تعزّز القدرة على تطوير الصداقات. يقول أحد الصحافيين الأجانب، شاين هيبز عن هذه المسألة جملة ممتازة: “الفايسبوك هو وسيلة تقوم على تركيز الجزء الأكبر من انتباهنا على أنفسنا فيما تظهر بأنها تركّز الانتباه على علاقتنا مع الآخرين. إنه مرآة تتنكّر على أنها نافذة”. لذلك يشجّعنا الفايسبوك على التواصل الذي يعزّز، لا علاقتنا مع الآخرين، بل تقديرنا لأنفسنا، ولو كان ذلك يعني على أرض الواقع تشجيع التواصل الخالي من المشاعر الإنسانية. ما اتحدّث عنه هنا هو أن الفايسبوك يشجّعنا باستمرار على أن يكون لدينا “أصدقاء” على صفحتنا لا نعرفهم شخصياً ولم نتبادل معهم أي رسالة أو كلام أو عاطفة أو فكرة؛ مع الوقت يتحوّلون إلى مجرّد رقم على لائحتنا، ونحن بدورنا نكون مجرّد رقم على لائحتهم، لكن لا أحد يعترض والجميع يستمرّ في المسرحيّة كأن العلاقات الإنسانية مجرّد علاقة بين صورة الكترونية وأخرى. وفي معظم الأحوال، هذه الصور هي مجرّد أقنعة نرتديها ولا تعبّر عنّا حقاً كأشخاص. العلاقة الإنسانية على الفايسبوك تتحوّل إلى مجرّد صورة وتعليق وLike وتبادل بارد للتعابير الالكترونية، والناس تتحوّل إلى مجرّد صورة ورقم الكتروني آخر على لائحتنا. مع الوقت، الاتصال الهاتفي مع الأصدقاء يُستبدل بكتابة جملة على الحائط، واللقاء يُستبدل برسالة خاصة على الموقع. مع الوقت أيضاً، نخسر حرارة ما في قلبنا من دون أن نعرف لماذا وكيف. الإموتيكون emoticons (أيقونات تعابير الوجه) تستبدل الإموشن emotion (العاطفة) وتحرم عضلات وجهنا من التعابير… لكن هل نعلم أننا كلما استبدلنا ضحكة برمز الكتروني، وكلما استبدلنا حزن برمز وغمرة برمز وقبلة برمز، نقتل القليل من ضحكتنا وحزننا وعاطفتنا وقبلتنا؟ هل نعلم أنه كلما أرسلنا ضحكة على الكيبورد بدل أن نضحكها حقاً، يموت جزء صغير من وجهنا وينسى كيف يفرح ويضحك؛ وكلّما أرسلنا قبلة على الكيبورد، تموت عضلة صغيرة في قلبنا وتنسى شفاهنا قليلاً كيف تقبّل حقاً؟ * * * الفايسبوك: كتاب الأقنعة المشكلة التي تحصل عند تحويل الفايسبوك إلى محور علاقاتنا الاجتماعية، أننا مع الوقت، بدل التعامل مع بروفايل الفايسبوك على أنه شخص، نبدأ بالتعامل مع الشخص على أنه بروفايل فايسبوك. الفايسبوك يحوّلنا إلى صورة جميلة تبتسم، وإلى ستاتوس ذكي لا يتعدّى 200 حرف، لكننا كبشر أكثر من ذلك بكثير. نحن قوس قزح من الرقص والفرح والحزن والغضب والابداع والجنون والعشق والقتال والأسرار. لكن الفايسبوك لا يسمح لنا بذلك لأن محرّكه الأساسي هو التنافس بين الجميع لإظهار أنفسهم على أنهم يمتلكون الحياة الأكثر إثارة ونجاحاً سعادة، كأننا في صفّ كبير في الثانوية يتبارى فيه الجميع للظهور على أنهم الأجمل والأفضل. الفايسبوك لا يسمح لنا أن نعرض سوى وجه واحد منّا، والكارثة أنه حتى هذا الوجه قد يكون مزيفاً. وراء ابتسامات الصور قد تختبأ الكثير من الأحزان ومشاعر الوحدة، وراء الصور تختبأ الكثير من الأمور الجميلة أيضاً. الفايسبوك يريد أن يحتكر صورتنا عن أنفسنا، يريد أن يكون نحن، لكنّه ليس نحن. مع الوقت، الناس على الفايسبوك تتحوّل بالنسبة إلى بعضها البعض إلى مجرّد صور، مجرّد تعليقات ذكية وستاتوس شاعري. وهذا أمر طبيعي، فأي نوع من العلاقة يمكن أن نبني حين نتفاعل مع مئات “الأصدقاء” في نفس الوقت يومياً؟ حين يكون علينا كل يوم أن نتابع آخر أخبار المئات من الناس، يخسر أصدقاؤنا الحقيقيون من قيمتهم، ونخسر نحن من صلتنا معهم رويداً رويداً. قد يقول أحدهم أنه هنالك مبالغة كبيرة في ما نقوله هنا، وقد يقول أن كل شخص يستعمل الفايسبوك بطريقة مختلفة، وربّما يكون محقاً، لكن رغم ذلك، ما ذكرناه حتى الآن يبقى وصفاً للحقيقة. يكفي أن نفكّر للحظة كيف نستعمل أمور مثل subscribe وlimited profile وما شابهها من أدوات تهدف إلى الحدّ من قدرة الآخر على التفاعل معنا والإطلاع على معلوماتنا. هذه كلها أدوات تشجّع باستمرار على “تسطيح” العلاقات وعلى ممارسة النفاق الاجتماعي والإدعاء اننا لا نزال أصدقاء مع شخص لا نكترث له البتّة. قد نكون أشخاص صادقين في الحياة، لكن غالبيتنا تستعمل هذه الأدوات، وهذه أدوات غير صادقة ولا تشجّع على الصدق. زرّ الـ unsubscribe مثلاً مهمته حجب تحديثات صديق(ة) معيّن عن الظهور في صفحتنا. إن استعملناه لن نسمع عن الشخص المذكور إلا حين ندخل إلى صفحته، لكننا في الوقت نفسه نبقى أصدقاء. أي أن الفايسبوك يعطينا إمكانية أن نبقى “أصدقاء” مع شخص لا نريد أن نسمع عن حياته شيئاً. مثال آخر هو البروفايل المحدود Limited profile الذي يتيح لنا أن نبقى “أصدقاء” مع أشخاص لا نريد لهم أن يعرفوا أي شيء عن حياتنا. لماذا نريد أن نعقّدها تكنولوجياً؛ حين نتفحّص لائحة أصدقائنا سنجد أننا أصدقاء مع الكثير من المجهولين، بل أحياناً مع أشخاص لدينا تجاههم مشاعر عدائية متبادلة في الحياة. لكن هذا كلّه سهل أمام الالتقاء مع صديق على الفايسبوك في الحياة الواقعية. كم من مرّة التقينا بصديق أو صديقة على الفايسبوك في الشارع ولم نقل مرحباً لبعضنا البعض؟ كم من مرة التقينا بصديق أو صديقة على الفايسبوك واكتشفنا أن شخصيته الفايسبوكية مختلفة تماماً عن شخصيته الحقيقية؟ السبب الجذري لكل هذه المشاكل هو التسطيح: علاقة إنسان بإنسان هي شيء، وعلاقة صورة بصورة هي شيء مختلف تماماً. العديد من الناس تعتقد أنها تعرفنا بمجرّد النظر إلى صفحتنا على الفايسبوك. العديد من الناس تفترض أنها صادقت شخص ما لمجرّد أنها تفاعلت معه مرّة على الفايسبوك. هذه الافتراضات غير الواقعية هي نتيجة التسطيح الجاري للعلاقات. التسطيح الأكبر يحصل حين نضع كل الناس التي نعرفها في مكان واحد، مكان يتساوى فيه الصديق مع الغريب مع الحبيبة مع الوالد مع الموظّف مع ربّ العمل. كلهم في مكان واحد وكلهم يراقبون كل ما نفعله على الموقع وكلهم لديهم توقّعات اجتماعية متناقضة منّا. الحصيلة هي المزيد من التوتّر والشلل الاجتماعي، والمزيد من السطحيّة في التفاعل مع الآخر. سطحيّة الفايسبوك وصفتها كاتبة أميركيّة شابّة بجملة ممتازة. في مقال لها تفسّر فيه أسباب مغادرتها للفايسبوك قالت آلرين سبينسلي: “عالمي هو بالفعل أصغر الآن، لكن كل شيء فيه أكثر عمقاً”. وهي محقّة إذ على الفايسبوك كل شيء يصبح أقل عمقاً؛ تمنّي عيد الميلاد يأخذ ثلاث ثوانٍ فقط من وقتنا وانتباهنا، تمنّي أعياد سعيدة للأصدقاء والعائلة يحصل عبر “تاغ” لصورة واحدة على الفايسبوك بدل أن نتكبّد عناء لقاء الأصدقاء والعائلة. إعلان التحوّلات العائلية والمهنية المهمّة يتم عبر جملة واحدة باردة بدل أن تكون مناسبة مفعمة بالعناق والتهاني مع الأحبة والأصدقاء. مواقع التواصل الاجتماعي تشجّع على تواصل أقل مع الناس وتواصل أكبر مع الشاشة، وفي الشاشة كل شيء أبرد، أقل حميميّة، وأقل حقيقيّة. بالإضافة إلى كل ذلك، إن الوقت والانتباه الذي يأخذه الفايسبوك منّا يؤثر سلباً على قدرتنا على تطوير علاقاتنا الاجتماعية. انتباهنا ووقتنا وجهدنا كبشر هو محدود؛ ووفقاً لدراسات علم النفس يمكننا أن نعطي انتباهنا ووقتنا وجهدنا لنحو 3-8 أصدقاء في نفس الوقت فقط بالإضافة إلى العائلة، ويمكن أن يصل عدد المعارف إلى 150 (وهذا الرقم معروف برقم دونبار). حين نتخطّى هذا العدد، علاقاتنا الاجتماعية تعاني وتتدهور. وإن كنّا مثلاً أصدقاء مع 300 شخص في نفس الوقت، كميّة الانتباه التي سيحصل عليها كل واحد منهم ستكون 1300 من انتباهنا؛ وبالتالي علاقتنا معهم ستكون مجرّد علاقة مع رقم الكتروني، وأقصى ما يمكن أن تصل له في معظم الأحيان هي رسالة خاصة داخل الفايسبوك. فقط حين تكون علاقتنا ضمن حدود الأرقام المعقولة، تكون صلاتنا مع الآخرين أعمق وذا مغزى حقيقي. القرّاء هنا اللذين أعمارهم كبيرة كفاية ليتذكروا الحياة الاجتماعية قبل الفايسبوك يعلمون كيف أثّر الفايسبوك (والانترنت بشكل عام) على حياتنا وما الأثر الذي تركه فيها. نحن اليوم من دون شك نمتلك حياة الكترونية أغنى، لكن معظمنا لديه حياة اجتماعية أفقر، وهذه نتيجة طبيعية. معظمنا اليوم لديه أصدقاء لا يخرجون من المنزل في أيام راحتهم؛ لدينا أصدقاء يتعاملون مع الفايسبوك على أنه بديل عن حياتهم الاجتماعية، ولدينا أصدقاء يعتقدون أن الحياة الاجتماعية الحقيقية هي على الفايسبوك لا على أرض الواقع. الدعوات والرسائل والأحاديث والأنشطة باتت كلها على الفايسبوك، حتى بات السؤال المعتاد بعد الانقطاع الالكتروني “لماذا الغياب؟” كأن الحضور في الحياة الحقيقية بات غياباً. لا نعلم كيف سيؤثر الفايسبوك على الجيل الذي لم يعرف كيف تكون العلاقات الإنسانية والصداقات والحب قبل الفايسبوك، الذي قد ينشأ ليعتقد أن بدأ صداقة هو بسهولة النقر على زرّ، وإنهائها هو بسهولة النقر على زرّ آخر. الذي قد ينشأ ليعتقد أن ذروة العلاقة الإنسانية هي أن نتبادل 50 تعليق على صورة على الفايسبوك فيما نجلس وحيدين في المنزل، والذي قد ينشأ ليعتقد أن التفاعل مع الحياة ومع أحداثها هو إما عبر الضغط على Like أو عبر إغلاق نافذة المتصفّح. هذا هو الفايسبوك؛ أحدهم يخبرنا أنه تناول صحن تبولة للعشاء، Like. إحداهن تضع صورة لها في بلد أجنبي ما، Like. أحدهم يمدح الطاغية أو يسبّه، Like. أحدهم انفصل عن حبيبته، Like. إحداهنّ تضع فيديو فيه موت وألم ودمار، Like. يكفي أن نتخيّل أن زرّ اللايك يساوي الإيماء برأسنا بـ”نعم” لكنتشف كيف أننا نبني مجتمعاً من القطعان التي تتعامل مع بعضها بعضاً كالأرقام فيما تدّعي أننا أصبحنا “مترابطون” أكثر من أي وقت مضى في التاريخ… هذا هو الفايسبوك. Dislike.