شبكة قدس الإخبارية

وليد دقة وجمال حويل: منهجية النار (1)

عبد الرحيم الشيخ

بين باقة الغربية وزرعين أكثر من قربى: ليس أولها الاسم الفلسطيني الرعوي للقريتين-زرعين (من مهنة الزراعة وعادات الفِلاحة) وباقة (من ضُمَّة الزهر ومرجة العشب)؛ وليس آخرها إيمان اثنين من نسل أبنائهما (وليد دقَّة من باقة الغربية وجمال حويل من زرعين) بـ"منهجية النار،" كناية عن نهج الكفاح المسلح، طريقاً للتحرير والعودة. وبين أول صلات القربى وما قد يكون آخرها قصةُ عشق ونضال سطَّرها المناضلان وتمحورت حولها معظم كتاباتهما، وذروة سنامها تخليد تجربة معركة مخيم جنين (1-12 نيسان 2002) في كتاب شهادات شخصية ورسالة جامعية.

وليد دقة: الأبوَّة المعلَّقة

يتحدَّر وليد دقة من باقة (الغربية)، المولود فيها في العام 1961، وهي إحدى مدن المثلث الفلسطيني الجنوبي اليوم، وكانت تابعة للواء طولكرم قبل النكبة، وصارت مدينة تابعة للواء حيفا في الكيان الصهيوني بعد أن ضُمَّت إليه وشُطِرت عن باقة (الشرقية) إثر توقيع اتفاقية رودوس في 3 نيسان 1949. وقد اعتقلته السلطات الصهيونية في 25 آذار 1986 ووجهت النيابة العسكرية الصهيونية إليه تهمة الانتماء إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وحيازة أسلحة ومتفجرات، والقيام بعمليات فدائية داخل فلسطين المحتلة في العام 1948، وأهمها خطف جندي، لغرض مبادلته بأسرى فلسطينيين وعرب في سجون الاحتلال، وقتله. وقد حكم عليه بالسجن المؤبد، ولا يزال قيد الأسر، متنقلاً بين سجون الجلمة وبئر السبع ونفحة وشطة عسقلان و"الجلبوع" و"هداريم" التي يقبع فيها حتى اللحظة.

وقد تم تنظيم دقَّة في مجموعة عسكرية مؤلفة من سبعة عناصر ثلاثة منها من قرى الجليل وأربعة من منطقة المثلث، وفي العام 1984 تم فرز ثلاثة من أعضاء المجموعة (كان هو منهم) للقيام بتدريبات عسكرية وأمنية ليقوموا لاحقاً بتشكيل ومتابعة جهاز عسكري يعمل داخل فلسطين المحتلة في العام 1948. وقد ترأس ذلك الجهاز الشهيد إبراهيم الراعي من سكان مدينة قلقيلية الذي اعتقل وصُفِّي في زنازين سجن الرملة، وادعت إدارة السجون الاحتلال بأنه انتحر.

سافر دقَّة إلى سوريا بجواز سفر مزور، بعد عدة محطات أوروبية للتمويه، ثم تلقى التدريبات اللازمة مدة شهر في أحد المعسكرات التابعة للجبهة الشعبية في سوريا قريباً من الحدود الأردنية، حيث التقى مسؤول فرع الأرض المحتلة في حينه، أبو نضال، الذي أوجز له ولرفاقه مهام الجهاز العسكري، وهي: "جمع المعلومات حول قادة ومسؤولين إسرائيليين لهم علاقة بأحداث لبنان عموماً ومجزرة صبرا وشاتيلا خصوصاً؛ والقيام بعمليات عسكرية لتصفية هؤلاء المسؤولين؛ واختطاف عسكريين بهدف مبادلتهم بأسرى فلسطينيين وعرب معتقلين في السجون الإسرائيلية." وقد عمل دقَّة في هذا الجهاز مدة عامين قبل اعتقاله من قبل سلطات الاحتلال الصهيونية.

وعلى الرغم من انقطاع حياته الأكاديمية والاجتماعية العادية إثر الأسر، فقد استطاع دقَّة الالتحاق بجامعة "تل-أبيب" المفتوحة والحصول على شهادتي البكالوريوس والعلوم السياسية والماجستير في الديمقراطية وحقوق الإنسان. وكمثل صديقه ورفيقه في السلاح، جمال حويل، لم تسمح له السلطات الصهيونية بوداع والده الذي وافته المنية وهو في الأسر. وعلى الرغم من أن قصة خطوبته، وزواجه وهو في الأسر، من المناضلة والنشيطة الحقوقية السيدة سناء سلامة من مدينة الطيرة، قصة متكررة في تاريخ الحركة الأسيرة، إلا إن نضال دقَّة لتمكينه من تحقيق حلم الأبوة وهو في الأسر شكَّلت علامة فارقة في تاريخ هذا المطلب خلال تجربة الحركة الأسيرة الفلسطينية، والذي نال من كتاباته جانباً مركزياً راوح بين شاعرية الحلم وسوريالية الواقع الاستعماري.

وإضافة إلى دوره البارز في قيادة الحركة الفلسطينية الأسيرة كواحد من أبرز عمدائها ومنظِّريها، وكتاباته المتواصلة فقد بدأ الأسير دقَّة أولى محاولات توثيق تجربة معركة مخيم جنين عبر إجراء مقابلات في السجن مع أربعة من قادة المعركة والمشاركين فيها، بعنوان: (يوميات المقاومة في مخيم جنين) كما نشر كتاباً حول تجربة الحركة الأسيرة، بعنوان: (صهر الوعي أو إعادة تعريف التعذيب...).

3

تتنوع كتابات الأسير دقَّة، بين الرسائل التأملية في التجربة الإنسانية بين القيد والحرية وهو لا يزال في ماكنة السجن الرهيبة التي تقتات على بقايا الذاكرة؛ والرسائل الشخصية ذات البعد الوطني التي تناقش قضايا سجالية على الساحة الفلسطينية من عدم التسليم بفشل تجربة الكفاح المسلح؛ ونقد انفلات السلاح غير المضبوط بإستراتيجية مقاومة وطنية؛ وتعرية ما تتعرض له الحركة الأسيرة من عدم قدرة على حسمها كأولوية من قبل الرسمية الفلسطينية والعربية وضياعها بين ملفات التبادل والمفاوضات السياسية؛ ونقاش مآلات القضية الفلسطينية بين الأدوات والثوابت الوطنية؛ ونعي غياب الاستراتيجيات الوطنية تقريباً في كل شيء؛ ومراجعة تجربة منظمة التحرير الفلسطينية، بمختلف فصائلها للأسف، في ترك فلسطينيي العام 1948 في فم الوحش الصهيوني دون "إدماجهم" في طليعة المشروع الوطني الفلسطيني؛ ونقد تجارب العمل الوطني بين فلسطينيي العام 1948 أنفسهم... لكن أشهر كتابات دقَّة على الإطلاق ظهرت في كتابي "يوميات المقاومة في جنين" و"صهر الوعي أو إعادة تعريف التعذيب."

وقد بدأ الأسير دقَّة أولى محاولات توثيق تجربة معركة مخيم جنين عبر إجراء مقابلات في السجن مع أربعة من قادة المعركة والمشاركين فيها، وهم: جمال حويل، والحاج أبو علي الصفوري، ويحيى الزبيدي، وعبد الجبار خباص. وقد قدَّم دقَّة للكتاب بمقولة لافتة مؤكداً أربع محاور أساسية، هي: توثيق التجربة الفلسطينية بوعي يضمن سلامة المسافة بين الحدث والتأمل فيه وجعل التأمل قوة تغيير لشروط الحدث ونتائجه حتى لو كان الكاتب والمتأمل لا يستطيع الوصول إلى سريره إلا بفتح ثمانية أبواب (وهذا حال دقَّة نفسه في الأسر)؛

5

بعد المقدمة، يفرد دقَّة فصلاً لكل من المقاومين الأربعة إيماناً منه بأهمية نقل تجربة معركة جنين على ألسنة من كانوا حقاً داخل المعركة، حيث يقدم شهادات حية بغية حفظ التجربة من التزوير والتشويه، بالإضافة إلى اعتبارها مادة أصيلة يمكن الاعتماد عليها لتقييم التجربة والاستفادة منها كمصادر أولية، فضلاً عن أهمية مثل هذه التجربة في الحفاظ على روح المقاومة التي تعرضت إلى العديد من الضربات في ظل الحملة الشرسة التي تقودها أمريكا وإسرائيل ضد المقاومة، ووصفها بالإرهاب، مستغلة بذلك أحداث الحادي عشر من أيلول 2001. وقد تميَّزت المقابلتان الأولى والثانية، مع الحاج علي الصفوري وجمال حويل، بالعمق والدقة والشمول حول الأبعاد القيادية في المعركة؛ فيما تميزت شهادتا يحيى الزبيدي وعبد الجبار خباص بإلقاء الضوء على الأبعاد الاجتماعية والتنظيمية أثناء المعركة.

ميلاد دقَّة: "أكتب لطفل لم يولد بعد"

في 27 آذار 2011، نشر موقع "عرب 48" رسالة الأسير وليد دقة بمرور ربع قرن على أسره (منذ 25 آذار 1986)، وما يزال يخوض نضالاً لتحديد عدد سنوات محكوميته، والسماح له بالإنجاب من زوجته، فيما ترفض السلطات الإسرائيلية السماح له بالإنجاب لـ"اعتبارات أمنية."

"أكتب لطفل لم يولد بعد.. أكتب لفكرة أو حلم بات يرهب السجان دون قصد أو علم، وقبل أن يتحقق.. أكتب لأي طفل كان أو طفلة.. أكتب لابني الذي لم يأت إلى الحياة بعد.. أكتب لميلاد المستقبل، فهكذا نريد أن نسميه/نسميها، وهكذا أريد للمستقبل أن يعرفنا.. عزيزي ميلاد.. اليوم، أنهي عامي الخامس والعشرين في السجن – تسعة آلاف ومئة وواحد وثلاثون يوماً وربع (۹١٣١).. إنه الرقم الذي لا ينتهي عند حد.. إنه عمري الاعتقالي الذي لم ينته بعد.. وها أنا قد بلغت الخمسين، وعمري قد انتصف بين السجن والحياة.. والأيام قد قبضت على عنق الأيام.. كل يوم أمضيته في السجن يقلب "شقيقه" الذي أمضيته في الحياة، ككيس يحاول إفراغ ما تبقى به من ذاكرة.. فالسجن كالنار يتغذى على حطام الذاكرة.. وذاكرتي، يا مهجة القلب، غدت هشيماً وجفَّ عودها.. أهرِّبها مدونة على ورق حتى لا تحترق بنار السجن والنسيان.. أما أنت، فأنت أجمل تهريب لذاكرتي.. أنت رسالتي للمستقبل بعد أن امتصت الشهور رحيق أخوتها الشهور.. والسنين تناصفت مع أخواتها السنين.. أتحسبني يا عزيزي قد جننت؟؟ أكتب لمخلوق لم يولد بعد؟؟ أيهما الجنون.. دولة نووية تحارب طفلاً لم يولد بعد فتحسبه خطراً أمنياً، ويغدو حاضراً في تقاريرها الاستخبارية ومرافعاتها القضائية.. أم أن أحلم بطفل؟؟ أيهما الجنون.. أن أكتب رسالة لحلم أم أن يصبح الحلم ملفاً في المخابرات؟؟ أنت يا عزيزي تملك الآن ملفاً أمنياً في أرشيف الشاباك الإسرائيلي.. فما رأيك؟؟ هل أكف عن حلمي؟؟ سأظل أحلم رغم مرارة الواقع.. وسأبحث عن معنى للحياة رغم ما فقدته منها.. هم ينبشون قبور الأجداد بحثاً عن أصالة موهومة.. ونحن نبحث عن مستقبل أفضل للأحفاد.. لا شك آت.. سلام ميلاد.. سلام عزيزي."

*الصورة أعلاه لوليد دقة في محكمة الاحتلال.

يتبع.