شبكة قدس الإخبارية

الإرادة السياسية والتبول اللاإرادي

٢١٣

 

وسيم أبو فاشة

يبدو من العنوان أن هناك قدرا من التركيب اللامنطقي فيه، إلا أن صياغته جاءت بهذا الشكل تفاديا لنحت إصطلاحي سابق لأوانه، أما مضمون الموضوع فهو تمثيل كاريكتوري للواقع لتفسير التنازلات السياسية التي دأب الساسة العرب على تقديمها على طاولات المفاوضات، وردهات الفنادق، وربما أسرتها، ناهيك عن الحروب بعد طلقاتها الأولى، دون انتظار حتى بأن تضع أوزارها...

تعرف الإرادة عموما بالمشيئة أو الرغبة في الشيء وانعقاد العزم عليه، فإن كانت ظاهرة تمثلت بتعبير يأخذ مداه المعنوي أو المادي، واللذان يمكن قياسهما أو على الأقل الإحساس بهما، وإلا تكون الأرادة كامنة في دواخل صاحبها فردا أو جماعة، لعامل أو آخر، بانتظار خروجها لحيز التعبير والفعل.

وقد كانت الإرادة أحد أهم الموضوعات التي تناولها الفلاسفة، لارتباطها بفعل الإنسان، وحريته، وبموقفه من الوجود، أو فلنقل من علاقته بالماورائيات، كالحتمية والجبرية، والقضاء والقدر... حتى وصل الأمر بالرواقيين اعتبار جوهر الإنسان هو إرادته، وهو الفهم ذاته الذي أكد عليه وصقله شوبنهاور معتبرا أن الإرادة هي جوهر شخصية الإنسان، والتي تدفعه للفعل أكثر مما يفعل العقل، وبذات المعنى الذي يعتبر العقل ممكن التعب والإنكفاء والسلبية، عبر غرامشي بمقولته "تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة".

وعموما، أكد غالبية الفلاسفة أن الإرادة هي المحرك لأفعالنا، وارتبط الإرادة الوثيق بالعقل والحرية، ولذا فهي تميز الإنسان عن غيره من الكائنات التي جوهر أفعالها استجابات لغرائز البقاء على اختلاف صورها وأشكالها لا أكثر. لذا كانت الإرادة شرطا سابقا، وتعبيرا لاحقا لمعنى الحرية، أو بالأحرى أن الحرية تتحقق بالإرادة، ويعبر الفعل الحر عن إرادة حرة، فهذا ديكارت يقول: "تكمن الإرادة في كوننا نتصرف بحيث لا نشعر بأي قوة تكرهنا على تصرفاتنا".

ولا تبتعد الإرادة السياسية عن المعنى الذي يحمله مفهوم الإرادة، إذ تنصرف الإرادة السياسية إلى الأفعال أو بشكل أدق إلى الفعل السياسي الواعي والحر، والذي لا تتدخل فيه إرادات خارجية إملاء أو إكراها أو إغراء، اللهم إلا أن تكون الإرادة السياسية انعكاسا لما أطلق عليه روسو الإرادة العامة، فهي –أي الإرادة السياسية- في هذه الحالة، تتمتع بالشرعية والمشروعية، ناهيك عن تمتعها بالصلابة، بمعنى آخر فإن الإرادة السياسية لنظام ما تكتسب روحيتها وواقعيتها وطاقتها عندما ترتكز للإرادة العامة، التي تفهم وفق روسو، بأنها الإرادة الثابتة لجميع أفراد المجتمع، والمستمدة من تاريخه وحاضره وتطلعاته، هي إرادة المجتمع المتمتع بحريته.

مع التأكيد هنا أن روسو نفسه ميز بين الإرادة العامة حسب الفهم الآنف، وإرادة المجموع، والتي يعبر عنها بالانتخابات مثلا، وبهذا المعنى فإرادة المجموع أقرب لأن تكون إرادة الأكثرية... وهنا ربما يمكن الدفاع عن روسو كمنظر للديمقراطية، بخلاف من رأى في مفهومه عن الإرادة العامة الوصفة السرحية للنظم التوليتارية التي تلقفت مفهوم الإرادة العامة، وعبرت عنه في صياغات نخبوية حزبية كالستالينية والفاشية والنازية.

وإذا كانت الإرادة بمعناها الفلسفي ذاك جوهر الإنسان، بل مناط إنسانيته، فإن الإرادة السياسية هي جوهر السياسة، والتي على أساسها تحدد صلاحية الفاعل السياسي (فردا، أو جماعة، أو مؤسسة)، أي القدرة على ممارسة السياسة، بوصفها صراع إرادات، فامتلاك الإرادة السياسية، بما هي شرط ونتيجة في الآن ذاته للوعي السياسي والحرية السياسية، يعني بدون أدنى شك القدرة على الاشتباك –إن استعرنا لغة عادل سمارة- أو الكفاحية –إن استعرنا لغة حامد ربيع-

وفي مقابل ذلك، وعلى النقيض الكامل منه، تبرز حالة اللاإرادة –أي اللاإرادة السياسية- والتي تعكس الاستلاب الداخلي، أكثر مما تعكس الضعف، أو الشروط الموضوعية المعاكسة للفعل السياسي الصحيح، أتذكر هنا مقولة جورج حبش "إسرائيل ليست أقوى من أمريكا، وشعب فلسطين ليس أضعف من شعب فيتنام"، بمعنى أن معاكسة الظرف الموضوعي، أو السياق لقدرات السياسي أمر مختلف تماما مع استلابه الداخلي، فالإرادة السياسية تنصرف بهذا المعنى ليس للعدمية أو الانتحار السياسي، بمقدار ما هي مقاومة سياق الضعف والخضوع، تماما كما تفعل مع الخضوع ذاته.

هنا تقترب الإرادة من التمكين (ليس بمعناه الدارج عند منظمات الأنجزة) إذ أن التمكين، هو حصيلة الجمع بين الاستطاعة (الخارجية: أي القدرة على تهيئة الظروف أو الانقلاب عليها)، والقدرة (الداخلية: أي مجاهدة الذات، وإطلاق مكنوناتها الإيجابية)...

عود على بدء، ففي سياق السياسة فإن انعدام الإرادة السياسية، حالة تشبه إلى حد كبير التبول اللاإرادي، حيث لا يتحكم الشخص طفلا كان أو ناضجا بالتبول، وبعيدا عن الأسباب العضوية فإن عوامل نفسية تقف وراء هذه حالة التبول اللاإرادي. أما وجه الشبه الذي أعني هنا، فهو أن انعدام الإرادة السياسية غالبا ما ترتبط بافتراق السياسي عن شعبه (أي مصدر شرعيته وقوته)، ومن ثم ارتهانه للخارج تعويضا عن عوامل القوة الداخلية، مما يجعل علاقته بالخارج علاقة رهاب دائم، إذ ينظر لشعبه بريبه، حيث أنه يشعر أن هذا الأخير يتحين الفرص للانقضاض عليه، كما ينظر للخارج بخوف تجعله مرتعد الفرائص أمام رغبات هذا الخارج الطي يستمد منه شرعيته (الموهومة) وبقاءه في الحكم.

يدفع هذا الرهاب المزدوج السياسي منعدم الإرادة إلى التبول اللاإرادي (واقعا ربما، أو مجازا)، فالخوف الذي يحيطه من كل جانب، يفقده القدرة على التحكم في أفعاله، بل ينحط في مجمل أفعاله إلى المستوى الغريزي، أي الاستجابات الخاصة بالبقاء، ما يعني انفلات استجاباته (أو ردود أفعاله) في كثير من الحالات إلى مستوى حيواني وحشي، وهذا ما قد يفسر أن كثيرا من الساسة الفاقدين للإرادة السياسية يمعنون في القتل، وبعضهم الآخر في الملذات الحسية، بفعل عالمهم الرهابي...

وعلى العكس من التبول اللاإرادي، هناك التبول الإرادي، الذي يعبر عنه مظفر النواب في قصيدته "في الحانة القديمة" حيث يصف أولئك الساسة (منعدمي الإرادة)، بالقول: فالبعضُ يَبيعُ اليَابِسَ والأخضر، ويدافِعُ عَنْ كُلِّ قَضايا الكَوْنِ، وَيَهْرَبُ مِنْ وَجهِ قَضِيَّتِهِ، سَأبولُ عَليهِ وأسكرْ .... ثُمَّ أبولُ عَليهِ وَأَسكر، ثُمَّ تَبولينَ عليهِ ونسكرْ.