في عام 1932، حينما سئل الشيخ عزّ الدين القسام عن رأيه في أهل الشعراوية في جبل نابلس، الذين يقطعون الأشجار ويسممون الحيوانات وينعتهم الناس بالحرامية وقطاع الطرق، فأجاب: دعهم يعملون لأن في عملهم رجولة سنحولها في يوم من الأيام إلى جهاد، وما دام المستعمر يرغب في إماتة نفوسنا، فإن هؤلاء أقرب إلى الله، وإلى حب الجهاد من المستكينين".
"......وراح البوليس اليافي يفتش الغرفة بينما كان ركس "مدير بوليس القدس" يلهينا بأحاديثه التافهة، إلى أن صاح أحدهم: وجدتها.. لقد عثرت على مناشير تحت الفراش. وكانت هذه المناشير المدسوسة هي التهمة "الحسية" الوحيدة لاستصدار أمر بالتوقيف والإحالة إلى المحكمة، غير أن هذه التهمة بحد ذاتها غير كافية لحمل المحكمة على إصدار حكم قاس بحقنا. فالمتهمون بحيازة المناشير السرية وتوزيعها يحكمون بالسجن من ثلاثة إلى ستة أشهر".
الحادثة السابقة مقتبسة من مذكرات الثائر الفلسطيني نجاتي صدقي (1905-1979) والذي اعتقل في تشرين الثاني من العام 1931، عقب مشاركته في إحدى اجتماعات الحزب الشيوعي في فلسطين. في الفصل الخامس من مذكراته يروي نجاتي ظروف اعتقاله في سجن القدس المركزي. وفي مساحة لم تتجاوز النصف صفحة يكتب عن تعرفه على شخصيتين من أهم الشخصيات التي سببوا الأرق الدائم لحكومة الإنتداب الفلسطيني.
"أبو جلدة" و "العراميط" تلكما الشخصيتان المغيبتان بطريقة أو بأخرى عن أشهر وأبرز روايات التاريخ الفلسطيني في مقاومة الاحتلال. ينقل لنا صدقي جزءاً بسيطاً من روايتهما ولا يساورك شك وأنت تقرأ أن مقولة القسام أعلاه تنطبق عليهما بحذافيرها. يضاف إلى ما كتبه نجاتي صدقي ما كتبه الشاعر هارون هاشم رشيد، والذي أعاد سيرة هذين البطلين إلى الحياة في كتاب عنوانه "أبو جلدة والعرميط: ياما كسّرا برانيط، حكاية حقيقيّة من بطولات المقاومة الشعبيّة الفلسطينيّة".
زعران ياما كسروا برانيط "أبو جلدة والعرميط"
قد تبدو الألقاب السابقة وكأنها تخص أصحاب جرائم وسوابق أو ما يحب أن يطلق عليه الفلسطينيون أحياناً لقب "زعران" وهو اللقب الذي يتماشى مع رواية الانتداب البريطاني الذي حاول تشويههما، وصوّرهما كقاطعي طريق شقيين، وألصق بهما أعمالاً لا تنسجم مع شهامتهما، وأخلاقهما التي ورثاها من أسرتيهما الفلاّحيتين ،ومن تأثرهما بدعوة الشيخ عّز الدين القسّام عقب سماعهما إحدى خطبه في مسجد الإستقلال في حيفا.
أبو جلدة والعرميط فلاحان فلسطينيان أسسا نواة خلية ثورية لمقاومة الإنتداب البريطاني في فلسطين. وتعود جذور أبو جلدة إلى بلدة طمون شرقي نابلس، بينما رفيقه أبو العرميط من قرية بيتا جنوب نابلس. وقد ولد صالح أحمد مصطفى العرميط في بلدة بيتا نهاية الحكم العثماني لفلسطين، وكان وحيداً لوالديه وعُرف بنشاطه وحيويته وجرأته مُنذ الصغر وكان يُعد الأقوى بين أبناء جيله وأقرانه.
من ناحية فيزيائية للعرميط جسم ممتلئ متين ذو بأس وقوة. وكان يعمل بالزراعة والفلاحة كسائر عائلته وأهل بلدته. وقد وصفه صدقي نجاتي في مذكراته: "رجل قوي البنية، شديد البأس، عينه أبو جلدة نائباً له مُطلق الصلاحيات".
من هو" الفراري" أبو جلدة
أبو جلدة هو أحمد المحمود من قرية طمون النابلسية فرّ من الخدمة العسكرية في الدولة العثمانيّة، وعمل عتالاً في ميناء حيفا، وهناك تعرّف بأوفى أصدقائه، ورافقهم في رحلة الثورة على الانتداب البريطاني الذي ما أن سيطر على فلسطين حتى بدأت عمليات الاستيطان وقدوم اليهود إلى فلسطين تتزايد باضطراد، بالترافق مع تسريب الأرض لهم، وتدمير حياة الفلاحين الفلسطينيين بالضرائب الباهظة.
تعرّف أبو جلدة بالرجل المتعلّم المثقّف سليمان العامري وتأثّر به، واستمع لخطب الشيخ عز الدين القسّام في مسجد الإستقلال، وعايش مأساة أهالي قرى مرج بن عامر والأرض التي باعها إقطاعيون من خارج فلسطين، وطرد منها سكّانها، فحقد على السماسرة، وعلى الصهاينة، وازداد كرهه للإنجليز أصل البلاء في كّل ما يصيب أهالي فلسطين، وبخّاصة الفلاحين.
يصف نجاتي صدقي أبو جلدة بأنه رجل نحيل الجسم، قصير القامة، ومن أجل أن يبعد عنه وعن رجاله تهمة الشقاوة ارتدى لباساً عسكريّاً، وقد زيّن كتفيه بسيفين وثلاثة نجوم، وجّر سيفاً صقيلاً طويلاً له يد مذهّبة.
العرميط يشرب شاي الضابط البريطاني
مع نهاية العشرينات التحق صالح العرميط برفيقه وصديقه أبو جلدة وشرعا في أوائل الثلاثينات بتشكيل أولى حركات مقاومة الإنتداب البريطاني في فلسطين. وكانت "عصابة أبو جلدة" من أقوى الحركات التي ألحقت أضراراَ بالغة في قوات الإنتداب، كما أن "عصابة" أبو جلدة لم ترحم الفلسطينيين الذين ازدادت ثرواتهم في العهد العثماني، والذين أرهقوا الفلاّحين حتى عجزوا عن سداد ديونهم واضطرّوهم للتنازل عن أرضهم. هؤلاء وضعهم أبو جلدة ورجاله في صّف الإنكليز والصهاينة، ووجهوا لهم ضربات قاسية في منطقة (جنين) خّاصةً، ووصلوا إلى ممتلكاتهم، وإليهم شخصيّاً، رغم حماية مستر طومسون رئيس شرطة جنين لهم.
كما كان اسم أبو جلدة مثار رعب لجنود الإنجليز، وكبار جنرالاتهم، وللتابعين محليّاً لهم، فهو يضرب ويختفي، ولا يترك أثراً، ولذلك زرعت عيون لمتابعته، فالعسس والمخبرون وجدوا في كل زمان ومكان، وأجّروا أنفسهم للمحتلين، والأعداء، ولكّل من يدفع لهم.. هؤلاء كرههم هو وصاحبه، وترصدوا لهم، وسددوا لهم ضربات قاصمة، لجعلهم عبرةً يعتبر بها غيرهم من عديمي الضمائر، ولمضاعفة ثقة الناس بهذين البطلين، وما يمثلانه.
هذا الإصرار غير المسبوق استدعى الضباط البريطانيين في نابلس إلى محاولة استمالة العرميط وإغرائه بالعفو العام مقابل تسليم رفيقه أبو جلدة وإرشادهم إلى مكان وجوده، حيث طُلب من خاله (سليم حسن عديلي) إحضاره لمبنى الكشله بنابلس للمقابلة وفق ضمانات للافراج عنه.
وقد ماطل العرميط بالإجابة ليتمكن من الخروج وكي لا يُغدر به ويتم اعتقاله، ومن ذكائه أنهم قدموا له الشاي فامتنع عن شُربه ولما أصروا أخذ الكوب الذي قدم للضابط البريطاني. وعندما فشل الضباط في استمالة العرميط أو الوصول إلى أبو جلدة بدأوا في نشر الإشاعات التي تقول بأنهم لصوص وأشقياء وقطاع طرق وعلى الناس الحذر من عصابتهم، وتبليغ مركز الشرطة عن أي أدلة أو معلومات تفيد في الوصول إلى قائد تلك العصابة.
العرميط والصلاحيات المطلقة
وفقاً للروايات الشفوية الشعبية تمتع العرميط بمنصب النائب ذي الصلاحيات المطلقة والعين الحارسة لأبو جلدة، ولم يكن العرميط بحاجة إلى مراجعة أبو جلدة قبل قتل الجواسيس. ومن القصص التي يتم تداولها عن مدى إخلاص العرميط لرفيقه أن الانتداب البريطانيّ جنّد أحد البدو ليلحق بأبو جلدة ثمّ يقوم بقتله أو تسليمه عندما تحين له الفرصة. وبعد شهرين من رفقته لهم حيث تعاملوا معه كواحد منهم ، استغل هذا الرجل نوم الجميع وحاول الغدر بأبو جلده أثناء نومه، فانتبه العرميط للمؤامرة فأنقذ رفيقه.
مع فشل البدويّ في اغتيال أبو جلدة كثفت بريطانيا من ملاحقتها لـ"عصابة" أبو جلدة وجندت العملاء للوشاية بهم، ونصبت لهم الكمائن وبذلت كل الوسائل للامساك بهم، ويضاف إلى ذلك إنشاء مراكز بوليس في عدة مناطق منها مخفر البوليس في قرية عقربا.
طريق الحرامية
أبو جلدة ورفاقه كانوا على وعي كافٍ للخطر الذي يحيط بهم فعمدوا إلى تغيير أماكن تواجدهم باستمرار والتنقل الدائم بين الشمال والجنوب فمكثوا في غور عقربا بين فصايل والجفتلك مدة طويلة وكانوا في الصيف يختبئون في خربة يانون شمال عقربا.
وقد وجد أبو جلدة والعرميط ورفاقهما المساعدة والعون من قبل الفلاحين، وكانوا يقدمون لهم الطعام والشراب والمأوى والمبيت، وذلك تقديراً لهما على شجاعتهما ومواقفهما المشرفة في مقاومة الإحتلال، وقد كان موقف الفلاحين موقفاً مغايراً لما أراده البريطانيون من خلال نشرهم الإشاعات بأن أبو جلدة قائد عصابة سرقة وقطع الطريق وما كان ل "عصابة" أبو جلدة إلا أن ازدادت شهرة وقوة بسبب دعم الفلاحين الذي كان أثره واضحاً بازدياد العمليات التي نفذتها "العصابة" حيث توزعت عملياتهم بين الغور وجنين ومرج ابن عامر و منطقة الحولة وما حولها حيث توجهت "العصابة" بقيادة أبو جلدة والعرميط هناك لمقاومة اليهود القادمين لفلسطين.
وقد أطلق البريطانيون اسم "طريق الحرامية" على طريق حيفا- مرج بن عامر وهو الطريق الذي اختاره أبو جلدة لانطلاق أعماله الفدائية، مستغلاً جبال المنطقة بكهوفها ومغاورها، وموقعها الاسترايتجي لمباغتة القوات البريطانية والاستيلاء على أسلحتها.
الكمين وخنجر الإنتقام
في العام 1933 وقع صالح العرميط و أحمد المحمود "أبو جلدة" في كمين محكم نُصب لهم بالتعاون مع أحد أقرباء أبو جلدة، وقامت بريطانيا باستدعاء خال العرميط (سليم حسين عديلي) لإخراجه وصاحبه أبو جلدة ومن معهم من المغارة التي اختبئوا فيها . وهكذا اقتيد الأبطال الى الاعتقال وهناك مكثوا في سجن المسكوبية بالقدس بانتظار حكم الإعدام.
[caption id="attachment_21545" align="aligncenter" width="384"] البطلان عند المسكوبية (المبنى الروسي في القدس)[/caption]
في مذكرات نجاتي صدقي، يخبرنا أن (العرميط) طلب من أمّه أن تحضر معها خنجراً في الزيارة القادمة لأنه سيضعه معه في قبره، وسيذبح به الخائن الذي وشى به! بينما كانت أخر كلمات أبو جلدة الذي تقدم إلى حبل المشنقة غير آبه بالضباط البريطانيين "بخاطركم يا شباب.. فلسطين أمانة في أعناقكم.. إيّاكم أن تفرطوا في حبّة رمل من أرض فلسطين".
على الأقل لا زال أبو جلدة والعرميط جزءاً من الأهازيج الشعبية الفلسطينية والتي تقول إحداها:
قال أبو جـلـدة وأنا الطموني ... كـل الأعادي ما بهموني
قال أبو جلدة وأنتا العرميطي .. وأنا إن متت بكفيني صيتي
قال أبو جلدة يا خويا صالح . اضرب لا تخطي والعمر رايح
قال أبو جلدة وأنا العرميطي ... والله من حكم الدولة لفظي
وأبو جلدة ماشي لحاله.. والعرميط راس ماله
وأبو جلده والعرميط .. ياما كـسروا برانيط
أبو جلدة والعرميط لم يكونا من أبناء العائلات البرجوازية الكبيرة ليكتبا مذكراتهما وبطولاتهما، فهما كما قال يوماً نزيه أبو نضال حين كتب عن خليل محمد عيسى عجّاك أحد القادة القساميّين لثورة 36-39 "يعرف القسّاميون بأنهم كانوا أكثر المناضلين نضالاً، وأقلّهم كلاماً، وقد تركوا للباحثين أن يغرقوا في بحار التاريخ بحثاً عن أخبارهم وأعمالهم كما يبحث الغواصون عن اللؤلؤ".
-------------------------------------------------------------------------
*البرانيط جمع برنيطة، وهي غطاء الرأس الذي كان يستعمله الجنود البريطانيون، وتكسير البرانيط هو كناية عن تكسير الرؤوس، وهذا العنوان هو مطلع أهزوجة شعبيّة فلسطينيّة سادت في الثلاثينات، وتناقلتها أجيال الأجداد والآباء تخليداً لذكرى أبو جلدة والعرميط.
*اقتضى التنويه بأن نزيه نضال قصد بالقسّاميين في هذا التقرير، رجال حركة الشيخ عز الدين القسام الثورية "1936-1939"، وليس أفراد كتائب القسام التابعة لحركة المقاومة الإسلامية "حماس."
*المعلومات الواردة في التقرير اعتمدت على مذكرات نجاتي صدقي، وكتاب هارون هاشم رشيد "أبو جلدة والعرميط: ياما كسّرا برانيط: حكاية حقيقيّة من بطولات المقاومة الشعبيّة الفلسطينيّة".