شبكة قدس الإخبارية

توظيف يهود الفَلاشا في تهويد الأقصى

اقتحام-المسجد-الأقصى
زياد ابحيص

شهد يوم الخميس الماضي 20-11-2025 حدثاً مستجداً، حيث دعت منظمات الهيكل إلى اقتحامٍ مركزي للمسجد الأقصى في عيد مختص بيهود الفَلاشا يُعرف بـ "عيد سيجِد"، وهو عيد لا يشاطرهم فيه بقية يهود العالم أو اليهود المستوطنين في فلسطين، ومع ذلك بدأت جماعات الهيكل في توظيفه ضمن مخططها الاستعماري الماضي في تهويد المسجد الأقصى، وقد نجحت في استقطاب بعض يهود الفَلاشا للمشاركة في الاقتحام الذي تنظمه أيضاً بمناسبة رأس الشهر العبري، حيث بلغ عدد المقتحمين للأقصى يومها 378 مقتحماً، وهو ما يقارب عدد المقتحمين في بعض الأعياد اليهودية الصغرى.

ولعل هذا المسعى لتوظيف الفَلاشا في تهويد المسجد الأقصى فرعٌ للوظيفية المطلقة التي تتعامل بها مختلف الأطياف الصهيونية مع يهود الفَلاشا، والذين تقول مصادر مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي إن عددهم مع نهاية عام 2024 بلغ 177,600 ما يجعلهم يشكلون نحو 2.3% من إجمالي عدد اليهود في فلسطين المحتلة، ولعل هذا ما لفت أنظار منظمات الهيكل التي تسعى إلى توسيع إطار جمهورها المنخرط عملياً في تهويد الأقصى بكل الوسائل الممكنة.

وهذه النظرة الوظيفية للفلاشا، الذين يسمون أنفسهم بـ "طائفة بيت إسرائيل" يمكن أن تُقرأ في المفارقات التالية:

أولاً: رغم الأساطير التي تحاول نسب الفلاشا إلى "سبط دان" من "الأسباط العشرة الضائعة" من بني إسرائيل وفق الأسطورة التوراتية، إلا أن تماثلهم في الشكل واللباس والعادات والتقاليد مع محيطهم من قبيلة "أجاو" الإثيوبية، يؤكد أنهم أثيوبيون تبنوا اليهودية لتأكيد خصوصيتهم القبلية وتطلعهم للحكم. ويُفهم ذلك من أسطورتهم الواردة في كتاب "كبرا نجست" الذي يعني "أمجاد الملوك" بالعربية، الذي يحكي عن قصة تزعم أنهم من أبناء "الملك سليمان" من "الملكة ماكدا" ملكة سبأ، وقد تبنت آخر السلالات الحاكمة لإثيوبيا على مدى سبعة قرون هذه الأسطورة رغم اعتناقها للمسيحية، ومع ظهور الصهيونية المعاصرة ازداد استدعاء ملوك إثيوبيا لهذه الأسطورة وبالذات في عهد (منيليك الثاني) ثم (هيلا سيلاسي) آخر ملوك هذه العائلة.

ثانياً: يؤمن يهود الفَلاشا بالأسفار الخمسة الأولى من التوراة فقط، وبأسفارٍ أخرى لا يعترف بها معظم اليهود المعاصرين، وهم لا يعرفون التلمود الذي يشكل شروحات الحاخامات وتفصيلاتهم للتوراة، ولا يؤمنون بتعاليم وأحكام مرجعيات اليهود في أوروبا الذين يُسمون "الجاؤونيم".

والفَلاشا يعظّمون السبت لكنهم لا يصومونه كما يفعل يهود أوروبا والمشرق بل يقيمون فيه وليمةً أسبوعية، وهم يُصلُّون باللغة الجعزية وهي لغة سامية تشترك مع اللغة العربية في أصلها، وهي لغة الصلاة في الكنيسة الحبشية، لكنهم لا يعرفون العبرية القديمة أو الحديثة. وتقود الفَلاشا دينياً طبقة كهنة يُسمون بـ "القسيم" والواحد منهم "قِس" وهو مسمى رجال الدين المسيحيين، ويعترفون بذنوبهم للكهنة للتوبة منها تماماً كما هو معمول به في الكنيسة الكاثوليكية. 

مكان العبادة للفَلاشا يسمى "مسجيد"، ويخلعون نِعالهم عند الدخول إليه، ويجلسون فيه على الأرض، ولا يفصل فيه جدار بين الرجال والنساء كما في الكُنس، بل تكتفي النساء بأن تكون خلف الرجال، وخلال عبادتهم يمارسون سجوداً أقرب إلى السجود الإسلامي، ويسمونه بمسمىً مشابه، ما يعني أن النسخة اليهودية للفَلاشا تأثرت بمحيطها المسيحي والإسلامي، بشكلٍ جعلها بعيدة جداً عن اليهودية في أوروبا والمشرق.

هاتان الخصوصيتان –القومية والدينية- أدتا بالحركة الصهيونية والوكالة اليهودية بالاكتفاء بالسعي إلى تعليم وتثقيف الفَلاشا باليهودية، ومساعدتهم على الحفاظ على خصوصيتهم كيهود، دون أن تطرح فكرة هجرتهم رغم أن تواصل الوكالة اليهودية مع الفلاشا بدأ عام 1905 على يد جاك فايتلوفيتش. 

لكن نضوب موارد الهجرة في شرق أوروبا كان الدافع خلف فكرة استقدامهم في منتصف السبعينات من القرن الماضي، وصولاً إلى بدء ذلك فعلياً في 1982. وهذه الحاجة إلى مزيد من المهاجرين أدت إلى التساهل في استقدام حتى "الفَلاشا موراه" الذين كانوا قد تحولوا إلى المسيحية ثم عادوا إلى ادعاء اليهودية أملاً في الهجرة، وهو ما تشير إليه الأرقام الرسمية الإسرائيلية التي تقول إن 93 ألفاً من الفلاشا في فلسطين المحتلة مولودون في إثيوبيا، بينما تشير التقديرات إلى أن أعداد الفَلاشا في إثيوبيا خلال العَقد الذي شهد تهجيرهم لم تكن تزيد عن 35 ألفاً، بلغة أخرى فإن نحو ثلثي الفلاشا المهاجرين كانوا يعتنقون المسيحية ثم ادعوا اليهودية حتى يتمكنوا من الهجرة.

ثالثاً: لا تقتصر مفارقات توظيف الفلاشا على أصلهم العرقي الإثيوبي أو على اختلافهم الديني فحسب، بل إن توظيفهم في العدوان على المسجد الأقصى أمامه مفارقة أخرى هي عدم مركزية فكرة الهيكل في معتقدهم، إذ بينما عطّل يهود أوروبا والمشرق تقديم القرابين وأداء طقس التطهر بالبقرة الحمراء باعتبارها طقوساً مختصة بالهيكل تتجدد فقط مع مجيء المخلص، فإن الفَلاشا اعتبروها طقوساً مستمرة فظلوا يقدمون قربان الفصح ويتطهرون من نجاسة الموتى برماد أبقارٍ حمرٍ كانوا يذبحونها إلى حين بدء الكتابة عنهم وتوثيق نمط حياتهم في بداية القرن العشرين.

بلغةٍ أخرى، لا يرى الفَلاشا –وفق معتقدهم الديني الأصلي- أي حاجة لبناء الهيكل، لأن جميع شعائرهم قائمة ومستمرة من دونه، وهو ما يجعل دمجهم في التحرك لتأسيس الهيكل يتطلب تعديل معتقدهم أولاً، وهو ما تحاول الصهيونية الدينية العمل عليه.

رابعاً: يتبنى الفلَاشا تقويماً مختلفاً عن تقويم يهود أوروبا، إذ بينما تبدأ السنة العبرية في شهر "تشري" العبري عند يهود أوروبا والمشرق –أي في نهاية سبتمبر أو بداية أكتوبر بالتقويم الميلادي- فإن الفَلاشا يحتفلون برأس سنتهم في شهر نيسان العبري، وهو ما يجعل بعض أعيادهم تقع في وقت غير أعياد أغلبية اليهود رغم تشابه بعضها في الاسم وطبيعة الاحتفال.

أما العيد الأخير الذي حاولت جماعات الهيكل دعوة الفَلاشا إلى اقتحام الأقصى فيه؛ عيد "سيجِد" –أي عيد السجود- فهو عيد مختص بالفَلاشا كما تقدم، لا تحتفل به أية طائفة يهودية أخرى، ولم يعترف به الكيان الصهيوني في رزنامته الرسمية إلا في عام 2008، وهو عيد يحتفلون به بعهد الرب إلى "نحميا" بالتوبة من الخطايا والحفاظ على التوراة وبدوام الخضوع والسجود له وبالتزام شريعته، بينما تقول مختلف المصادر الإسرائيلية التي تُعرّف هذا العيد إنه عيد يتعاهد فيه الفلاشا على "العودة إلى أورشليم" رغم أن هذه الفكرة لم تكن موجودة في معتقد الفَلاشا.  

في الخلاصة، تعمل جماعات الهيكل على توظيف الفَلاشا كمادة بشرية في مسعاها لتهويد الأقصى، رغم أنه مسعىً غريب عن معتقد الفَلاشا، ويتطلب تغيير معتقدهم وتغيير رزنامة أعيادهم حتى ينجح، وهو ما يجعله أقرب للفشل، إلا من زاوية ابتزاز عقدة النقص عند الفَلاشا واعتبار مشاركتهم في اقتحام الأقصى بوابة لقبولهم الاجتماعي في المجتمع الاستيطاني الذي ما زال ينبذهم ويُميّز ضدهم، كما أن هذه المحاولة لإشراكهم في اقتحام الأقصى تريد تصوير إجماعٍ صهيوني على العدوان على الأقصى، وهو إجماعٌ قائمٌ سياسياً بدفع الصهيونية الدينية واليمين، لكنه غير قائم مجتمعياً أو في معتقدات مختلف مكونات الجماعة الاستيطانية اليهودية.