شبكة قدس الإخبارية

إستراتيجية إسرائيل الجديدة لمحو ماضيها

رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو 6
محمود الرنتيسي

تندرج إستراتيجية "كأن شيئا لم يكن" تحت عِلم إدارة الأزمات، وتصنّف تحت إستراتيجيات "التقليل من تأثير الأزمات" للحفاظ على مخططات وسير الأعمال قبل الأزمة كأنها لم تكن.

ومن هذا المنطلق، تحاول دولة الاحتلال الإسرائيلي استعادة زخم علاقاتها وأعمالها ونفوذها قبل حرب الإبادة من أجل عدم التعرض لتكلفة وتداعيات الحرب على مستقبل أعمالها في كافة المجالات، داخليا وخارجيا.

ما من شك أن دولة الاحتلال الإسرائيلي قد تعرضت لخسائر كبيرة على مستويات داخلية، مثل الثقة بالمؤسسات الحكومية والعسكرية والأمنية وقضايا أخرى، وكذلك على مستوى تدهور صورتها ومكانتها في نظر الكثير من الدول والمجتمعات وحتى تلك الحليفة لها، وتداعيات ذلك عليها، مما جعل جزءا كبيرا من الخطط التي كانت تسعى دولة الاحتلال الإسرائيلي لتنفيذها على كافة الصعد على المحك، وأصبحت هذه المسارات السياسية والاقتصادية والأمنية بحاجة إلى إعادة تقييم من الأطراف التي كانت مهتمة ومنخرطة في هذه الخطط.

وحتى لو سلمنا بصعوبة "تصفير الأثر" لما حدث داخليا وخارجيا، فإنه من الواضح أن دولة الاحتلال الإسرائيلي تسعى إلى الخروج مما حصل في العامين الأخيرين بأقل الأضرار، وتريد التعافي بشكل يقلل من آثار ما حدث على صعيد العمل المستقبلي.

وكما يقول روبرت سينجر، الكاتب الإسرائيلي ورئيس مركز التأثير اليهودي والمدير التنفيذي السابق للمؤتمر اليهودي العالمي، في مقال بعنوان: "إعادة سرد قصتنا: التحدي الذي تواجهه إسرائيل بعد اتفاق غزة": "إن اعتقاد 40% من اليهود الأميركان أن إسرائيل ارتكبت إبادة جماعية، أمر ينبغي أن يدق ناقوس الخطر".

والمهم أن روبرت لم يحدد خطورة الأمر بأنه مشكلة صورة فحسب، بل أشار إلى الأمر بوصفه أزمة تضع وحدة الشعب اليهودي نفسها في خطر. ويرى سينجر أن إعادة بناء الثقة سيستغرق وقتا، ويتطلب إستراتيجية وطنية متماسكة ورؤية واضحة.

وفي هذا السياق، اقترح سينجر- الذي يعترف بخسارة إسرائيل الرأي العام- أنه لتغيير مسار هذه الأزمة "يجب الاستثمار في نوع جديد من الدبلوماسية لا يعتمد على قاعات الصحافة بل في أماكن أخرى ممتدة، ويحتج سينجر بضرورة العمل، وعدم التقوقع؛ لأن انتباه العالم سيتحول إلى أزمات أخرى جديدة لا حصر لها، ويشير سينجر إلى أهمية كيفية سرد القصة من جديد ليس من خلال الشعارات أو نقاط الحديث، ولكن من خلال الناس".

ولعل النقطة الأخرى المهمة فيما قاله سينجر أن هناك عملية مراهنة على تحول انتباه العالم سواء بأشياء مفتعلة أو تطورات طبيعية، وبالتالي فإن هذا الاستخفاف بمعاناة شعب كامل وبوعي رأي عام دولي لا بد ألا يترك ليحصل على ما يريد.

العودة إلى روتين ما قبل الحرب

على المستوى الداخلي، إن إستراتيجية "كأن شيئا لم يكن"، هي إستراتيجية ترتبط بقدرة مجتمع ما على العودة بسرعة للروتين الطبيعي بعد أزمة أو كارثة أو حرب دون ظهور تداعيات كثيرة، ويعتمد هذا الأمر في القدرة على التركيز على إعادة بناء العلاقات والثقة الداخلية والخارجية.

وغني عن القول الإشارة إلى أنّ 7 أكتوبر/تشرين الأول تسبب بصدمة مجتمعية هائلة في دولة الاحتلال الإسرائيلي أدت لزعزعة الأمن الشخصي والاجتماعي، ولا تزال إمكانية تكرار الحدث من غزة أو غيرها، يشكل هاجسا كبيرا حتى في الأوساط الأمنية، وقد ذكر ذلك أكثر من مسؤول عسكري إسرائيلي، وأجريت مناورات للاستعداد له.

بل إن دراسات تشير إلى أن قرابة 51% من الإسرائيليين يخشون تكرار حدث مماثل لـ 7 أكتوبر/تشرين الأول. كما أن 37% لديهم ثقة عالية بعمليات التحقيق والدروس المستفادة التي يجريها الجيش، بينما عبر 60% عن ثقة منخفضة أو معدومة تماما.

وحتى بنيامين نتنياهو رئيس وزراء دولة الاحتلال الإسرائيلي، قال في نوفمبر/تشرين الثاني الجاري: إنه "مصمم على منع تكرار 7 أكتوبر/تشرين الأول من أي جهة حدودية، بما في ذلك سوريا، وإنه زار المنطقة العازلة للتأكد من ذلك".

أمّا فيما يتعلق بزعزعة الثقة بمؤسسات الدولة، وعلى رأسها الجيش والذي كان يتم التعامل معه كبقَرة مقدسة، فقد انخفضت الثقة بالجيش إلى مستويات غير مسبوقة، وحتى داخل الجيش نفسه هناك ظواهر مقلقة وخطيرة، حيث انتحر عشرات الجنود والضباط، فيما برز ملف جديد، وهو تقديم طلبات من أكثر من 600 ضابط للتقاعد المبكر، وكل هذه الأمور تشير إلى أن الجيش لم يعد يحظى بتلك الثقة التي كان يتمتع بها سابقا.

وقد ذكرت دراسة لمعهد دراسات الأمن القومي أن 31% من الإسرائيليين تراجعت ثقتهم بالجيش، (برغم أن هناك استطلاعات تحاول إظهار أن هناك تحسنا).

كانت إسرائيل ممزقة حتى من قبل الحرب، وهي كيان معروف بأنه لا يستطيع أن يشكل حكومة إلا بائتلاف عدد كبير من الأحزاب والآن بعد الحرب هناك عدم رضا عن أداء الحكومة بنسبة تزيد عن 70%، وهناك تراجع في الثقة بها لدى أكثر من 63%. ويضاف هنا أن التمزق لا يقف عند المستوى السياسي فحسب، بل إنه يصل إلى المستوى الاجتماعي والهوياتي.

وبالتأكيد فإن الانقسام الهوياتي الداخلي يجعل قدرة إسرائيل على التعامل مع التهديدات والمصالح الخارجية أكثر ضعفا، لذلك هناك حاجة لإظهار وجود تماسك داخلي، حتى لو لم يكن موجودا.

استطلاعات موجهة

وإزاء ذلك ولخدمة إستراتيجية "كأن شيئا لم يكن" على المستوى الداخلي، يبدو أن هناك استطلاعات رأي تحاول إظهار المجتمع كمجتمع صامد، وقادر على التعافي بسرعة.

وفي هذا السياق، أظهرت استطلاعات رأي أن مشاعر التوتر والحزن والغضب غير المسبوقة التي سادت المجتمع الإسرائيلي في العامين الأخيرين، قد تراجعت إلى ما قبل عام 2023، بل إن استطلاعَين على الأقل في يوليو/تموز، وأغسطس/آب 2025 أشارا إلى أن الإسرائيليين يقيمون شعورهم برفاهية الحياة بنسبة 7.5 من 10، وهو أعلى بنقطة كاملة من 6.8 في أواخر عام 2023. وينظر المتابع باستغراب لهذا الارتفاع السريع، بالرغم من استمرار تفاعلات الحرب.

ووفق دراسة أعدها مركز غالوب، كانت نسبة شعور المجتمع بالمشاعر السلبية، مثل القلق الشديد بين الإسرائيليين البالغين، قد وصلت 67%، وصعدت نسبة التوتر إلى 62%، فيما بلغت نسبة الحزن 51% بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول، وهي أكبر زيادة سنوية في هذه المؤشرات في أي مكان في العالم منذ ما يقرب من عقدين.

بعد ذلك انخفضت هذه النسب إلى 33% للقلق، و25% للتوتر، و18% للحزن، و15% للغضب، وقد ذكر موقع غالوب أنّ سرعة تعافي إسرائيل تتناقض مع الأنماط السائدة في دول أخرى، حيث ظلت المشاعر السلبية مرتفعة بعد الصدمات الكبرى، وحالات عدم الاستقرار لفترات طويلة بعد الأحداث الأولية.

ويشير هذا الوقوف على التناقض بين هذه الأرقام، وبين الأنماط السائدة إلى أن هناك احتمالات لمحاولة إظهار أنّ الأمور عادت إلى الاستقرار و"كأن شيئا لم يكن".

المستوى الخارجي

وعلى المستوى الخارجي تريد دولة الاحتلال الإسرائيلي، استمرار مكانتها في الغرب من خلال معالجة آثار ما حدث، وكذلك استمرار النفوذ والهيمنة على المنطقة بما تسميه تغيير وجه الشرق الأوسط، كما ترغب في تطوير مشاريع التطبيع مع دول عربية وإسلامية، وتريد استمرار اتفاقيات "أبراهام"، وتوسعتها.

وقد أعلنت مؤخرا عن انضمام كازاخستان، وفي الحقيقة مثال كازاخستان، يؤكد أن هذه خطوة استعراضية؛ لأن العلاقات مع كازاخستان قديمة، وجوهر التطبيع موجود، وقد قدَّمت كازاخستان 25% من احتياجات إسرائيل من النفط، والحديث عن دخول كازاخستان في إطار اتفاقيات "أبراهام"، هو فقط لخدم السردية الإسرائيلية: أن هذا المسار مستمر في التوسع، وأن قطار التطبيع ماضٍ في طريقه.

كما تريد إسرائيل مواصلة التفوق الأمني والعسكري والتكنولوجي، وتوسيع وتنويع شراكاتها الدفاعية والاقتصادية مع أكبر عدد ممكن من دول العالم، ولكن الأهم من ذلك كله الاستمرار في مشروع تصفية القضية الفلسطينية بطرق مختلفة، متجاهلة ما حدث خلال العامين الماضيين.

وقد أكد نتنياهو على هذا الأمر بتكراره أنه لن يسمح بقيام دولة فلسطينية، فضلا عن السعي مع الولايات المتحدة، وغيرها لترتيبات أمنية وإدارية، لا تشمل أي أفق لدولة فلسطينية.

ختاما؛ لا بدّ من عدم السماح لإسرائيل بتمرير وفرض سرديتها، ولا بد من تفوق السردية الإنسانية العالمية والفلسطينية التي تفضح جرائم الاحتلال، وتؤكد على حقوق الشعب الفلسطيني، ولا بد من عدم القبول بأن ما حصل يمكن نسيانه وردمه بسرديات واهية دون محاسبة إسرائيل على جرائمها، وهذا يجعل الملف القانوني والإعلامي في الدعوة لمحاسبة الاحتلال أكثر أهمية.

كما أن مسارات الضغط على دولة الاحتلال الإسرائيلي، ينبغي ألا تتوقف في كل مكان، وفي كافة الأبعاد من المقاطعة إلى سحب الاستثمارات، إلى رفض التطبيع مع الاحتلال. لا بد أن يستمر النقاش في المساحات العالمية حول كيفية محاسبة إسرائيل على ما حدث، وكيفية تقديم مزيد من الدعم للفلسطينيين الذين صبروا عقودا على هذا الظلم الشنيع.

إن إسرائيل التي ستواجه صعوبات جمة في إظهار التماسك المجتمعي والمؤسساتي في ظل ما تعرضت له، يجب أن تحرم من بناء شبكات الدعم الخارجي، وأن تحرم من قدرات طمس ما جرى في الذاكرة، من خلال الاعتماد على عامل الزمن، أو إدارة انطباعات الرأي العام، وافتعال الأزمات؛ للتغطية على ما حدث.

باختصار يجب ألا نسمح لإسرائيل بدفن الجرح الفلسطيني حيا، فالتعاطي مع إستراتيجية "كأن شيئا لم يكن" في التعامل مع إسرائيل وخططها، هو مساهمة في محو الضمير الإنساني، وستفتح الطريق لمزيد من عربدة إسرائيلية لا حدود لها.