تعيش القضية الفلسطينية فصولا متراكمة بين الإبادة والتجويع والتطهير العرقي والهدم وتقطيع الجغرافيا والردع بكل المستويات وصولا للأسرى في زنازين العزل والتعذيب، فهناك تكمن قصة وطن يدفع فاتورة الدفاع عنه آلاف من القادة والنشطاء والأفراد بكل مستويات العمل على الدفاع عن الحقوق والصمود.
وخلف هؤلاء مئات آلاف العائلات المنكوبة الباحثة عن خبر يخرج من السجون عن ابنها ولو ببضع حروف لتكوّن جملة "على قيد الحياة"، هكذا بات الواقع المفروض ضمن سياسة الردع المفرط لترهيب الشعب من مواصلة النضال، وهذا فصل لا منازع للاحتلال في تعزيزه بل وهندسته نفسيا وأمنيا وسياسيا لتتجلى السادية.
ولكن الفصول الغائبة أو المغيبة هناك؛ حيث تم تحرير آلاف المحررين بصفقات تبادل أجرتها المقاومة بضمان وسطاء عرب ورعاية دولية، هناك حيث السجن الجديد واسمه الحرية عن بعد، فلا استقرار ولا تنقل حر ولا زيارة أهل ولا خروج من الدائرة، هناك خارج حدود زنازين الاحتلال وتعذيبه ما زال الأسرى أسرى لكن بشكل جديد ومضمون قديم.
استمرار القيد!
يتعرض الأسرى المحررون من سجون الاحتلال لأبشع إذلال يومي في الضفة الغربية عبر الاقتحام والتخريب في المنازل والهجوم اليومي والمراقبة والاعتقال والتحقيق الميداني والمنع من التنقل أو التواصل أو الحديث في وسائل الإعلام، وبالتالي حكاية لم تنته من قيد وصوت ضابط باللغة العبرية.
أما العربية لغتهم حيث البلدان التي من الطبيعي والواجب استقبالهم فيها وتحيتهم وإكرامهم فترفض أغلبها استقبالهم، بل وتضع قيدا حتى على من يتواصل معهم، وتبرر بعضها أن ذلك حفاظ على أمنهم من محاولة اغتيال تقدم عليها إسرائيل بحقهم أو تعريضهم لإعادة اختطاف، وتبريرات أخرى بأن هذه الدول لديها اتفاقيات دولية لمحاربة الإرهاب تمنعها من استقبال المحررين الفلسطينيين الذين حتى تهمة الإرهاب بمعايير إسرائيل سقطت عنهم فور تحررهم من سجون الاحتلال بينما بقيت في ملفاتهم هناك في حواسيب الأمن العربي.
ومن بين مبررات تلك الدول أنها لا تريد أن تشجع على التهجير، بينما تلك الدول هي ذاتها تسهل رحلات طيران لأهالي الضفة الغربية واستدراج لأهالي غزة للخروج من أرضهم، وبعض تلك الدول تخاف أنظمتها من أن يصبح المحررون هؤلاء جسرا للرواية الفلسطينية والمقاومة لشعوبها التي تخضع عقليتها لنظرية شيطنة المقاومة، وبالتالي يتخلصون من أي تنوير بالقضية الفلسطينية يؤدي إلى غضب أو مناصرة فعلية ترقى لمسيرات وثورات.
كثيرة هي المبررات التي أغلبها مغلف بدعاية الحفاظ على الفلسطينيين وصمودهم بينما هناك في المناطق التي تحرر إليها الأسرى قيود كثيرة، بل وعديد منهم منذ شهور طويلة لم تأت له عائلته ولم يسمح له بمغادرة المكان بالتزامن مع رفض رسمي لغالبية دول العرب والمسلمين من استقبالهم.
تشجيع لإسرائيل
يعتبر الأسلوب الذي تمارسه أغلب الدول العربية بحق المحررين الفلسطينيين إشارة تشجيع مباشرة للاحتلال الإسرائيلي ليصعد من سياساته بحقهم وحق ممتلكاتهم وعائلاتهم في الضفة الغربية والقدس وغزة، كما أنه مادة إعلامية تستخدمها إسرائيل أمام العالم على أن هؤلاء إرهابيين لا يمكن إعطاؤهم أمان، حتى الدول العربية لم تعطهم الأمان بل وترفض وجودهم على أراضيها لحماية أمنها القومي.
كما أن عدم استقبالهم في أغلب الدول العربية بالتزامن مع استقبال بعض هذه الدول لأسرى إسرائيليين بينهم جنود أطلقت المقاومة سراحهم من غزة في نفس الصفقة والاتفاق الذي يمنع فيه الأسرى المحررون الفلسطينيون من الدخول لهذه البلدان؛ يعطي إشارة إسناد لإسرائيل وشيطنة للمقاومة والفلسطينيين.
وهناك زاوية أخرى تتناقض مع مواقف تلك الدول التي تقيم علاقات بعضها مع إسرائيل وتتغنى دوما بدعمها للفلسطينيين وفي نفس الوقت تضيق عليهم.
آلية تعامل الدول العربية والإسلامية مع الأسرى المحررين من سجون الاحتلال تضعف التضامن الدولي وتجعل كثيرا من المؤيدين يخاف من التضامن؛ لأن هذه الدول تحاول شيطنة المحررين من خلال سياساتها معهم دون أن تظهر علنا العداء لهم.
ولمنع هدر حقوقهم كفلسطينيين يحملون جنسية بلادهم التي باتت أغلب الدول تعترف بها، فمن المفترض أن يمنح المحررون الحرية الكاملة في الحركة والأوراق الرسمية وجواز السفر وأن تكون لديهم مكانة دبلوماسية استنادا لموقعهم السابق كمدافع عن الحق الفلسطيني الذي تكفله كل القوانين الدولية ليكونوا سفراء الحقيقة والمحاضرات والندوات والمسيرات حول العالم لإظهار الحق الفلسطيني.
لكن بدلا من ذلك يصنّفون من قبل دول عربية على أنهم ملفات أمنية ويربطون ذلك بتطورات المنطقة ورغبة الأمريكي والإسرائيلي، وبالتالي بات الحضن التائه والكسر المعنوي الممنوع للقيد الذي كسرته المقاومة فعليا عن أجسادهم.
خيوط الشمس…
من عتمة زنزانة تآكل الجسد فيها لعقود وتغيرت أبوابها الحديدية وبقيت إرادة الأسرى ثابتة، إلى شمس حرية تسللت خيوطها لترسم معالم مستقبل خطّه أولئك من لحمهم ودمهم وأعمارهم، فمنهم من فقد فرصة الإنجاب وآخر من بات حالما في بيت وأسرة وثالث باحث في غبار المعركة عن قريب وحضن وطن وعروبة وشقيق.
تبعثرت أوراق السياسة فبات القريب بعيدا والعدو صديقا تفرش له سجادة حمراء يشبه لونها أو أقل احمرارا من بركة دم صنعها هناك في فلسطين ولبنان واليمن وسوريا، فيقال له "معك نوقع اتفاقية أبراهام"، ويقال للضحية "توقفي عن البكاء والعويل واعتادي المشهد"، فالأسير في عقلية النظام لدينا سيبقى أسيرا وإن حطمت قيده مقاومته وتفاخر به شعبه وأمته!
ورغم كل تبريرهم السخيف لمنع استقبالهم إلا أنها باتت واضحة، حيث أنهم عبيد لا يريدون أحرارا يشعلوا ذاكرة شعوب عاشقة للقدس وتواقة للتحرير.



