ينتشر في العالم العربي نمطٌ من تحليل سياسات الدول العربية في القضايا الأبرز في العلاقات الخارجية، ولا سيما الموقف من القضية الفلسطينية وانعكاساتها على الإقليم، والعلاقة بالولايات المتحدة الأمريكية. ويمكن وصف هذا النمط بالمحافظ، وهو ينزلق أحيانا، بحسب صاحبه، إلى مستويات من التزلف وبيع المواقف لهذه الدول في صورة التحليل. وبرغم محافظته الشديدة التي لا تعبأ بالوقائع الصارخة، فإنه يحظى أحيانا بقدر من الإعجاب في أوساط يُفترض بها أنها ذات توجه نقدي للسياسات العربية، بقطع النظر عن درجات هذا النقد. ويبدو أن باعث هذا الإعجاب حالةٌ نفسية وذهنية، تتسم بها الشخصية المهووسة بالنخبة، بحيث ترى أي نقد يأخذ الوقائع بعين الاعتبار خطابا "شعبويّا"، حتى صارت كلمة "شعبوي" مبتذلة بلا معنى، بعدما غدت لدى بعضهم رديفة للمواقف النقدية الجادّة والصريحة.
مثلا: هل تنظر الدول العربية بقلق إلى النزوع الإسرائيلي الجارف للتحول نحو قوّةٍ إمبراطورية في المنطقة تنتهج السلوك الإمبراطوري التقليدي، كأن تعطي نفسها الحق في تحديد المخاطر وتعيين المصالح والمبادرة العملية، دون اعتبار دول المنطقة؟!
رفضُ السلوك الإسرائيلي لا يُرَدّ عليه بمواقف الضرورة القاهرة؛ فكيف بالاستعراض الدعائي الذي لا يثمر في اللحظة الراهنة شيئا؟! بمعنى أنه لا يكفي من مصر أن ترفض تهجير الفلسطينيين من غزّة إلى سيناء، وهو تفكير إسرائيلي يهدّد الأراضي المصرية جوهريّا؛ ممّا يعني، من هذه الجهة، أنّ العدوان على غزة، ولا سيما في صورة الإبادة الشاملة وإعادة احتلال القطاع، هو عدوانٌ ضمنيّ على مصر، لأنّه يهدّد سلامة أراضيها ووحدتها. ومن ثمّ كان رفض التهجير موقفَ ضرورةٍ قاهرة، ربما أملته حسابات داخلية؛ لكن النزوع الإمبراطوري المنفلت لا يُرَدّ عليه، عند رفضه، بمثله من الضرورات، بل بنظيرٍ من جنسه، إن لم يكن من نوعه. فالمبادرة الإسرائيلية أقرب إلى تغييرٍ ثوري في نمط الهيمنة الإسرائيلية، وهو ما يتطلب مبادرة تتجسد في مناهضة الاندفاعة الإسرائيلية، ولا يكون ذلك إلا بتعزيز صمود الفلسطينيين ورفض مطالب إخضاعهم لصالح المشروع الإسرائيلي.
والأمر نفسه يُقال في الصفقات الاقتصادية ذات البعد العسكري والتقني مع الولايات المتحدة الأمريكية، كما في شراء طائرات F-35، والزعم بأنها تخلو من "زرّ التعطيل" أو أنها تتوفر على التكنولوجيا ذاتها المتاحة لـ"إسرائيل". فهذا الخطاب الدعائي لا يتجاهل المعلومات المتاحة والتقارير الصحفية المناقضة فحسب، بل يتجاهل أيضا طبيعة التكنولوجيا المتوفرة في الطائرات المقاتلة الحديثة، ممّا يجعل العملية كلها، في حال حصولها، تكريسا للهيمنة الأمريكية لا العكس، ولا سيما مع غياب مشروع تحرري لا تظهر معالمه إلا بالموقف من "إسرائيل"، ولو كان نسبيّا. فبيع هذا النوع من الطائرات يستلزم بيع طبقات التحكم والسيطرة، من أنظمة الإدارة والتشغيل والصيانة والتذخير، بما في ذلك الصيانة في الجوّ أثناء العمليات العسكرية. وهذه الطائرات ليست ملكا سياديّا كاملا للدول المُشترية، بل جزءا من سلسلة تحكّم أمريكية. وهي لا تُشترى عربيّا عادة إلا لأغراض دعائية، أو رشى لمراكز النفوذ في أمريكا، وإن استُخدمت، فغالبا تكون ضد عربٍ آخرين أو سكّانٍ أصليين في هذه المنطقة، وأحيانا ضد بعض مواطني الدول نفسها، ولا يحلم صانعُ قرارٍ عربيٌّ واحدٌ باستخدامها يوما ضد "إسرائيل".
بيد أنّ هذا كلّه خاضعٌ لما هو أهمّ، وهو سيطرة القيادة المركزية الأمريكية (CENTCOM) التي تدير المشهد الدفاعي الإقليمي كله، لا بالافتراض، بل بالوقائع والأخبار العلنية. وفي قلب ذلك نقل "إسرائيل" إليها من القيادة الأمريكية الأوروبية (EUCOM)، وقد أُعلن عن ذلك في 15 كانون الثاني/ يناير 2021، بما لم يكن بعيدا عن صفقة ترامب بشأن القضية الفلسطينية، ولا عمّا تبع ذلك كلّه. ومن تجليات ذلك قمة النقب التي جمعت، في آذار/ مارس 2022، عددا من الدول العربية و"إسرائيل" برعاية الولايات المتحدة الأمريكية، وناقشت إنشاء نظام دفاعٍ جوي وصاروخي موحَّد. ويبدو أن هذا النقاش أخذ مفاعيل عملية، كما في تقرير صحيفة واشنطن بوست المنشور في 11 تشرين الأول/ أكتوبر 2025، عن اجتماعاتٍ حصلت، برعاية "CENTCOM"، بين "إسرائيل" وعددٍ من الدول العربية أثناء حرب الإبادة على غزة، تبحث في التعاون الأمني الإقليمي ضد إيران والأنفاق في غزة! وبحسب واشنطن بوست، فقد جرت هذه الاجتماعات على مدار ثلاث سنوات، أي إنها بدأت قبل السابع من أكتوبر واستمرت بعده!
والأمر نفسه في الاتفاقات على تأسيس مراكز بياناتٍ أو "مناطق سحابية". فالأمر، في مداه المنظور والمتوسط، خادمٌ لشركات الذكاء الصناعي الأمريكية التي تعاني من صعوباتٍ تمويلية لنفقاتها الضخمة على البنى التحتية المتعلقة بالذكاء الصناعي، كمصانع الشرائح ومراكز البيانات الضخمة؛ إلى الدرجة التي طالبت فيها بعضُ هذه الشركات الحكومةَ الأمريكية بتوفير ضمانات قروضٍ اتحادية. ومن ثمّ فإن الاستثمار في بناء مراكز بياناتٍ أو مناطق سحابية في الدول ليس جزءا من تمويل هذه الشركات فحسب، بل هو أيضا تسريعٌ لعمليات الربح الآني، وتوسيعٌ لنشر هذه المراكز في العالم بما يُحسّن خدمات السحابة، علاوة على الطاقة الكثيفة والمكلفة جدّا التي تتحصل عليها هذه المراكز. ويتصل بذلك عقودُ البناء، وبيعُ الشرائح أو تأجيرها، وما يتبع ذلك من صيانةٍ ومستشارين ومهندسين وإداريين مُشرفين، وتأجيرُ السُّحُب للدول التي صارت محلّا لهذه المراكز؛ بحيث تضمن بقاء بياناتها داخلها. وهو أمرٌ قائمٌ في عددٍ من الدول، ولا ينبغي تصويرُه بأكثر مما هو عليه!
ومثل هذه الأمور يجري تضخيمها لدى عددٍ من الكتّاب؛ بالقول إن دولا عربية تتمكن من تحقيق إنجازاتٍ استراتيجية في علاقتها مع أمريكا، وفي نسج علاقاتٍ متوازنة مع قوى دولية منافسةٍ لها كالصين، دون تقديم تنازلاتٍ في ملف التطبيع. وهذا كلامٌ مضلِّل، أو مدفوعٌ بغفلةٍ ما؛ لأن الدول العربية عموما أقلّ استفادة، في علاقتها بشركات الذكاء الصناعي والخدمات السحابية الأمريكية، من الصين، التي مهما احتدمت المنافسة بينها وبين الولايات المتحدة، ما تزال تتمتّع بعلاقاتٍ تجاريةٍ ممتازةٍ معها؛ علاوة على العلاقة الإسرائيلية-الصينية القوية، حيث لم تمتنع "إسرائيل"، تحقيقا لأغراضها الخاصة، عن بيع بعض الأسرار التكنولوجية للصين!
وعلى أيّ حال، فإن الأهمّ في ذلك كله هو تسييل مفهوم التطبيع، بحيث يغدو بلا معنى، مع نسبة مواقف إلى دولٍ عربية هي تنتهج ضدّها تماما. فأكثر الدول العربية داخلةٌ في طور التطبيع الفعلي: بالتنسيق الأمني السري، واللقاءات الدبلوماسية العلنية والسرية، وشراء تقنيات التجسّس الإلكتروني من "إسرائيل"، والسماح بأنماطٍ من التبادل التجاري معها، ولو بتمرير الشحنات التجارية إليها؛ وهو الأمر الذي وفّر لها دعما فائقا أثناء الحرب على غزة. يضاف إلى ذلك تبادلُ الزيارات، حتى على مستوى المواطنين أو مسؤولين سابقين، حتى من دولٍ لا تقيم علاقاتٍ دبلوماسية علنية معها. غير أن الأخطر من ذلك كله هو سياسات الصهينة العلنية، وكان أبرزُها تدشين حملاتٍ إعلاميةٍ ممنهجة لتحطيم القضية الفلسطينية منذ العام 2017، مع دخول ترامب إلى البيت الأبيض، أي قبل السابع من أكتوبر بست سنوات، وقبل الاتفاقيات الإبراهيمية بثلاث سنوات؛ مما يعني حصول ترتيباتٍ مبكّرة بين تلك الدول وترامب وفريقه قبل وصوله إلى البيت الأبيض. ولا ينبغي لنا أن ننسى، والحال هذه، حملات "فلسطين ليست كظيتي"، وإسنادها في التلفزيونات والصحف.
وإذا كان هذا هو الحال تجاه فلسطين قبل السابع من أكتوبر، فلا ينبغي أن يكون مفاجئا الموقفُ المتواطئ مع "إسرائيل" أثناء الإبادة؛ لأنها وإن أحرجت الدول العربية، فإن هذه الأخيرة وجدت فيها فرصة للقضاء على ما تبقّى من روح هذه القضية وقواها الرافعة. وقد كان ظاهرا، في الإعلام العربي المموَّل رسميا من دولٍ عربية معروفة بهذا النوع من الإعلام، تبنّي الخطاب الصهيوني وإدانة المقاومة الفلسطينية، ولا سيما في إعلامٍ خليجيٍّ، وهو ما يحتم تصنيف تلك الدول بأنها من دول الإبادة، بحسب درجات تبنّي إعلامها المموَّل للخطاب الصهيوني؛ وفي طليعتها الدول التي احتفظت بعلاقاتها مع "إسرائيل" وأسندتها أثناء الإبادة، كما في تقرير "المقرّرة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية"، فرانشيسكا ألبانيزي، الذي ذكر أن دولا عربية من بين أكثر من عشرين دولة في العالم دعمت "إسرائيل" أثناء الإبادة!
ويزعم بعضهم أن ثمّة دولا عربية متمسّكة بإقامة دولةٍ فلسطينية شرطا للتطبيع (أي لتبادل السفارات). لكن هذا الزعم يتغافل تماما عن دعم الدول العربية والإسلامية جميعِها لقرار مجلس الأمن الأخير بصيغته الأمريكية، الذي جعل خطة ترامب للقضية الفلسطينية المطروحة عام 2020 مرجعيته. ولم يجزم القرار بإقامة دولةٍ فلسطينية، ولم يحسم حقَّ الفلسطينيين في تقرير مصيرهم؛ بل اشترط (احتمال) ذلك كله بإنجاز السلطة الفلسطينية برنامجَ الإصلاح المطلوب منها، و"إحراز تقدم في إعادة التنمية في غزة". وعندئذ، وبحسب نص القرار، "قد تتوافر الظروف أخيرا لتهيئة مسار موثوق يتيح للفلسطينيين تقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية". فنحن لسنا إزاء تقرير الفلسطينيين لمصيرهم، ولا إقامة دولتهم؛ بل إزاء مسار، وهذا المسار غيرُ حتمي، وقد عُبِّر عنه بـ"قد"، أي إنه مجرّد احتمال، حتى بعد تنفيذ السلطة للبرنامج الإصلاحي المفروض، وإحراز تقدمٍ في إعادة التنمية في غزة، وكلُّ ذلك مشروطٌ بدوره بالتقييم الإسرائيلي!
وهذا يعني أن حقَّ الفلسطينيين في تقرير مصيرهم وإقامة دولتهم ليس حقّا أصيلا، بل مِنّة من العالم، غير مؤكدة، ومشروطة بإثبات حسن نواياهم لعدوّهم الإسرائيلي؛ وهو الكلام الذي يُفرَض عليهم بعد سنتين من الإبادة، والصمود في حالةٍ لا مثيل لها في جميع معارك التحرر من الاستعمار!
وقد دفعت دولٌ عربيةٌ وإسلامية نحو هذا القرار، متبرِّعة لترامب بتذليل الموقف لصالح خطته بشأن قطاع غزة؛ وهي خطة كرّست الموقف لصالح "إسرائيل"، دون أن تملك هذه الدول، مجتمعة، الحدَّ الأدنى من القدرة على فرض وقفِ إطلاقِ نارٍ حقيقيٍّ على "إسرائيل" بعد ذلك. فتحوّل هذا كله إلى موقف تصفيةٍ للقضية الفلسطينية، من خلال قرار مجلس الأمن الأخير الذي وافقت عليه الدول العربية والإسلامية بلا استثناء.
ولن يكون الحال في بقيّة جغرافيا العدوان الإسرائيلي أفضل؛ فإذا أخرجنا الضفة الغربية المستباحة على طول الوقت؛ من النقاش مع الدول العربية والإسلامية، لكون فلسطين مجرّد ثمنٍ يدفعه العرب والمسلمون لتحسين مواقعهم داخل الشرط الأمريكي، فماذا يفعلون للبنان وسوريا؟! وإذا كان لبنانُ مُطالَبا بحربٍ أهلية لإثبات حسن نواياه لـ"إسرائيل"، فهذا العهدُ الجديد في سوريا المستجيبُ، كما يظهر، للمطالب والنصائح العربية والإسلامية، والذي لم يُطلق، لا سابقا ولا لاحقا، رصاصة على "إسرائيل"؛ ماذا يُطلَب منه سوى إثبات حسن نواياه لـ"إسرائيل"؟!
هذه الحقائقُ شاخصة، لا تحتاج دقّة نظرٍ لرؤيتها؛ لكنها غيرُ معتبرةٍ في التحليل التقليدي الذي يفيض بمنح الاحترام تزلفا أو غفلة لدولٍ أحسنُها حالا يتطابق فيها النظام مع الدولة؛ فكيف بالدول التي شخصُ الحاكم فيها هو الدولة؟!



