خاص قدس الإخبارية: لم يشأ الشهيد يحيى السنوار أن يكون ممن مالوا نحو البحث عمّا تبقّى من رغد العيش بعد أن قضى ثلاثةً وعشرين عامًا في سجون الاحتلال الإسرائيلي، معظمها في زنازين العزل الانفرادي. فقد اختار، منذ لحظة تحرّره في صفقة وفاء الأحرار عام 2011، طريق المواجهة مع الاحتلال، ماضيًا بثبات في الدرب الذي بدأه وهو فتى في الثامنة عشرة من عمره. تنقّل بين ميادين غزة والضفة الغربية والقدس والسجون، يحمل هدفًا واحدًا آمن به كما يروي رفاقه: مواجهة "إسرائيل" حتى الرمق الأخير.
لم يكن الطريق أمامه يفضي إلى شيء سوى الشهادة، وقد اختار أن يواجه مصيره كما عاش حياته: مقاتلًا حتى الرمق الأخير. في 16 أكتوبر 2024 داخل بيتٍ متصدّعٍ بتلّ السلطان في رفح، حُوصِر الرجل الذي حمل على كتفيه عبءَ مواجهة الاحتلال لعقود، ولم يدرك قاتلوه أنّ المحاصر هو السنوار نفسه، لكنّهم وجدوا أمامهم رجلًا متقلّدًا جعبته العسكرية، يقاتل حتى بالعصا. وعلى مقربةٍ من جسده بعد استشهاده، وُجد كتيّب أدعيةٍ وأذكار، ومسبحة، وقنبلة، ومسدسٌ كان عناصر كتائب القسّام قد استردّوه من أيدي قوّةٍ إسرائيليةٍ خاصّةٍ تسلّلت إلى خانيونس عام 2018.
لم يكن المشهد مجرد لحظة ارتقاء، بل لوحة تختزل حياة كاملة من الصمود؛ رجل يواجه الموت محاصرًا، لكنه يظل واقفًا في المعنى، ثابتًا في الرمزية، كأنما يكتب بدمه السطر الأخير في ملحمة عطاء لا ينطفئ.
ولم يكن غريبًا على رجلٍ كانت نهايته أسطوريةً كهذه أن يكون من أبرز المدافعين عن القدس والمسجد الأقصى؛ لا بالكلمة أو الموقف فحسب، بل بالفعل أيضًا. فقد حمل الأقصى في قلبه واسمه في عملياته، إذ أطلق على أعقد وأجرأ عملية كوماندوز في العصر الحديث اسم "طوفان الأقصى". لكن دفاع السنوار عن الأقصى لم يكن رمزيًا فقط، بل كان ميدانيًا أيضًا. يروي مأمون أبو عامر، صديقه خلال الحياة الجامعية، لشبكة قدس، قائلًا: "في أحد المواقف عام 1981، جمع السنوار طلبة الكتلة الإسلامية في الجامعة الإسلامية، وكان حينها مسؤولها، وأبلغنا بأننا سنتوجه إلى المسجد الأقصى خلال الساعات القادمة، لأن جماعات المستوطنين تستعد لاقتحامه، وعلينا أن نكون مرابطين في ساحاته".
لدى يحيى السنوار متعةٌ خاصة في إتقان الخداع والمباغتة، حتى في أحلك الظروف. يروي الكاتب السياسي مأمون أبو عامر: "جهّز السنوار الطلبة بملابسٍ رياضية وكرات قدم وأدواتٍ تدريبية، وعمّم علينا أنه إن أوقفنا الاحتلال على الطريق فسنقول إننا ذاهبون لخوض مباراة كرة قدم مع فرقٍ من الضفة والقدس. وبالفعل، تنكّرنا باللباس الرياضي، وحين وصلنا إلى المسجد الأقصى، تبيّن أن السنوار كان قد نسّق مسبقًا مع الكتل الطلابية الأخرى في الضفة، فبتنا ليلتنا في باحات الأقصى، وشارك بنفسه في التصدّي لاقتحامات المستوطنين عند أبواب المسجد".
من بناء الطوب
اعتُقل يحيى السنوار للمرة الأولى عام 1982 في مدينة جنين، بعدما ترأّس وفدًا طلابيًا لزيارة نساء المخيم وطلبة مدارسه، إثر تعرّضهم لحادثة تسميم دبّرها عملاء الاحتلال خلال احتفالٍ طلابي. كان السنوار آنذاك يوزّع منشوراتٍ توعوية في المدينة، فاعتقله جنود الاحتلال وحُكم عليه بالسجن ستة أشهر، وهو لم يتجاوز العشرين من عمره. وقد شكّلت تلك التجربة نقطة تحوّل في وعيه، إذ رسّخت اهتمامه المتزايد بالجانب الأمني وملاحقة العملاء.
شكّل الاعتقال الأول ليحيى السنوار محطةً فارقةً في مسيرته، إذ خرج من السجن أكثر انشغالًا بالعمل التنظيمي الذي دفعه إلى ترك دراسته في كلية العلوم، حيث كان يتخصّص في الفيزياء والكيمياء، ليتحوّل إلى دراسة اللغة العربية، متفرّغًا لمتابعة الملفات الأمنية وملاحقة العملاء، انطلاقًا من قناعته بأنّ كثيرًا من الأسرى لم يُسجنوا لولا سقوط بعض الأشخاص في مستنقع العمالة.
ويروي مأمون أبو عامر أنّ السنوار، بعد خروجه من السجن من اعتقاله الأول، غلب على وقته الانشغال التنظيمي داخل الجامعة، وكان يرافقه دومًا صديقه الأقرب روحي مشتهى، وهو من خارج الجامعة، وأحد أعضاء المكتب السياسي لحركة حماس لاحقًا، وقد اغتاله الاحتلال في يوليو/تموز 2024.
وظّف يحيى السنوار كل طاقاته الذهنية والفكرية والعملية في مواجهة ظاهرة "العمالة" منذ أن كان مسؤولًا عن اللجنة الفنية في مجلس اتحاد طلبة الجامعة. كان يرى في الفن والمسرح وسيلةً للتوعية والمقاومة، فركّز على كتابة وإخراج المسرحيات التي تتناول مشروع العمالة وكيفية التصدي للعملاء وكشفهم، مؤمنًا بأنّ أي عملٍ تنظيميٍّ ناجح لا بدّ أن يبدأ من فقء عيون الاحتلال وكشف أدواته الخفية.
صراع أمني
نشط يحيى السنوار عام 1983 في "جهاز أمن الدعوة" الذي أسسه زعيم حركة حماس المؤسس أحمد ياسين، وكان هدفه الحفاظ على وحدة الحركة الإسلامية في تلك المرحلة الحساسة. لاحقًا، توسع نشاط السنوار ليشمل ملاحقة العملاء، وفي عام 1986 تغيّر اسم الجهاز إلى "مجد - منظمة الجهاد والدعوة"، حيث تولّى السنوار منصب القائد التنفيذي للمنظمة، ومسؤولية فرعها في جنوب قطاع غزة، متابعًا تنفيذ عمليات تصفية العملاء بعد كشفهم والتحقيق معهم.
على إثر نشاطه في جهاز مجد الأمني، حكم الاحتلال على يحيى السنوار بالسجن أربعة مؤبدات إضافية و25 عامًا، أي ما يعادل 426 سنة، بتهمة قتل أربعة متخابرين مع الاحتلال، والمشاركة في قتل جنديين.
لم يكن أحد يعرف طبيعة عمل جهاز مجد الأمني سوى دائرة ضيّقة حول يحيى السنوار في تلك الفترة. يروي الأسير المحرر ماجد أبو قطيش، الذي قضى وقتًا مع السنوار في سجون الاحتلال، بعض التفاصيل التي حكاها له السنوار حول كيفية فك "شيفرة" تواصل ضباط الاحتلال مع العملاء وطرق تجنيدهم، خلال حديث مع شبكة قدس.
ويقول ماجد أبو قطيش: "كان السنوار يتجوّل في شوارع غزة باحثًا عن ثغراتٍ أمنية ليحلّ من خلالها 'شيفرة' التواصل بين العملاء وضباط الاحتلال. وفي مرة لاحظ وجود دوائر في مناطق مختلفة من القطاع، متشابهة في الشكل، تحتوي على مجموعة أرقام لم يفهم علاقتها ببعضها. وفي إحدى الأيام رأى السنوار شخصًا يعرفه قرب منطقة بيت حانون (إيريز) شمال غزة، واقفًا بجانب دائرة تحمل أرقامًا. لاحظ أن الأرقام المكتوبة على الحائط تتطابق مع عقرب الساعة الزمني في ذلك الوقت، بينما بقيت الأرقام الأخرى غامضة للوهلة الأولى. لكن بعد دخول العميل إلى معسكرات جيش الاحتلال عند حاجز إيريز وتتبع السنوار لطريق بيته، تبيّن له أن الأرقام نفسها موجودة على حائط قرب منزل العميل، ليكشف بذلك لغز هذه الدوائر والأرقام التي يستخدمها ضابط المخابرات للحفاظ على سرية التواصل مع العملاء حول التوقيت والمواعيد والمواقع".
بلدوزر السجن
امتلك يحيى السنوار تجربة طويلة ومتميزة في السجون الإسرائيلية، مما ميزه عن غيره من الأسرى. فقد كان رئيس الهيئة القيادية العليا للحركة، وتعلّم خلال اعتقاله اللغة العبرية ودرس مواد الجامعة العبرية، كما أسس منظومة تنظيمية متينة داخل الحركة الأسيرة. قاد السنوار عدة إضرابات عن الطعام، ونظّم عمليات استشهادية، وشارك في التخطيط لأسر إسرائيليين من داخل السجون. وعلى الرغم من كل ذلك، كان الرجل ودودًا بين رفقاء الأسر، لا يقبل سوى أن يطبخ الطعام لإخوانه. يقول ماجد أبو قطيش: "ما من أحد سبق السنوار في خدمة إخوانه داخل غرف الأسر، سواء في الطعام أو الترتيب أو حسن المعاملة."
ومن أبرز مواقف يحيى السنوار التي لا ينساها أسرى القدس في السجون الإسرائيلية، بحسب ما رواه ماجد أبو قطيش، كان موقفه خلال مفاوضات صفقة وفاء الأحرار (صفقة شاليط). فقد رفض السنوار منح موافقة الهيئة القيادية العليا لأسرى حماس على صفقة وُضعت لمساتها الأخيرة في مطلع 2010، رغم إدراج اسمه فيها، لأنها لم تشمل أسرى القدس وأراضي الـ48. ويقول أبو قطيش: "السنوار عطّل الصفقة وثبّت معادلة تحرير أسرى القدس في أي صفقة تبادل، رغم أن الحركة في الخارج كانت موافقة عليها. أرسل رسائل لكتائب القسام وقيادة الحركة في غزة والخارج مفادها أنه يمكن إتمام صفقة بلا أسرى القدس".
كان السنوار يحفظ الأسماء الرباعية لغالبية الأسرى من ذوي الأحكام العالية، والمقرر الإفراج عنهم في صفقة شاليط. وعندما وُقّعت الصفقة ولم تشمل قادة مثل: حسن سلامة، محمود عيسى، عبد الله البرغوثي، عبد الناصر عيسى، عباس السيد، وإبراهيم حامد، جلس السنوار معنا خلال اجتماع الهيئة القيادية العليا، يبكي بحرقة، وقال: "أتظنون أني سأنسى من بقي في الأسر، أمثال حسن سلامة ومحمود عيسى؟ إنّي على العهد بأن أكمل المشوار حتى تحريرهم من السجون."
كان يحيى السنوار استثنائيًا في كل شيء، حتى في محاولاته للتحرر من السجن، فقد جرّب ذلك مرتين: في سجن غزة، وفي سجن عسقلان، دون أن تُكلّل الخطط بالنجاح في النهاية. إلا أن هذه المحاولات لم تكن عادية أو مشابهة لما قام به الأسرى السابقون، إذ كان يخطط للهروب عبر خرق حائط السجن، والتسلل إلى غرفة "السجانين" والسيطرة عليهم لإجبارهم على فتح أبواب السجن. وخلال تنفيذ إحدى المحاولات، فوجئ الأسرى بوجود قضبان حديدية لا يمكن تجاوزها، ما اضطرهم لإيقاف عملية الحفر وإعادة طلاء الحائط بمعجون الأسنان. وبعد اكتشاف الخطة، تم عزله في سجن الرملة.
استخدم يحيى السنوار طرقًا مبتكرة واحترافية للتواصل مع قادة حماس داخل السجون، متجاوزًا إجراءات التفتيش الصارمة للسجّانين. يروي ماجد أبو قطيش أن السنوار كان يهرّب الرسائل إلى قادة الحركة في الأقسام المختلفة، عبر الأسرى الذين يُنقلون من قسمٍ أو سجنٍ إلى آخر، وذلك بوضع الرسالة الورقية داخل ثقب في الحذاء الذي يرتديه الأسير، وكانت هذه الحيلة وسيلته للتواصل حين يُسمح بالتنقل بين أقسام السجن.
لم يكلّ يحيى السنوار عن العمل التنظيمي في أي يوم، حتى من داخل السجن. فقد كان يجنّد العمليات الاستشهادية والعسكرية، مستهدفًا أسر الجنود الإسرائيليين. وفي هذا السياق، نظّم السنوار مع الأسير المحرر محمد الشراتحة خلية عسكرية كان هدفها أسر جنود إسرائيليين ونقلهم إلى مصر تمهيدًا لمبادلتهم بأسرى فلسطينيين لاحقًا. إلا أن العملية لم تُنفّذ، وعلى إثرها تعرّض السنوار للعزل مجددًا عام 1997، بعد تحويله للتحقيق، غير أنه لم يُعترف على أي شيء من هذا القبيل، وفق ما رواه ماجد أبو قطيش.
من يعمل مع "أبو إبراهيم السنوار" يتعب، فهو يمتلك طاقة عالية في العمل وحدّة ذكاء في استشراف المستقبل. يروي ماجد أبو قطيش أنّ السنوار كان رجلًا أمنيًا وربّانيًا في آنٍ واحد، حيث فسر سورة يوسف القرآنية بتفسير أمني، ودرّسها للأسرى ضمن دورات أمنية دورية في السجون. كما كان يعطي دورات في اللغة العربية والنحو، وكان يُلقّب بين رفاقه بـ"بلدوزر السجن" لما يتميز به من عزيمة وإصرار في التنظيم والتعليم والخدمة.
ولم تغب الضفة الغربية عن ذهن يحيى السنوار بعد تحرره، إذ يكشف ماجد أبو قطيش أنّ السنوار، قبل نحو أربع سنوات، وفي مرحلة كادت المخططات الإسرائيلية تهدف فيها إلى القضاء على الضفة التي كانت تعاني حينها تراجعًا في العمل المقاوم والشعبي، أعلن استعداد حماس في غزة لشن عملية عسكرية تضم ألفًا إلى 1200 مقاتل لعبور الحدود وضرب "العدو" في العمق. جاء ذلك في سبيل حماية الضفة والقدس وتحريك العمل الجهادي فيها، وذلك خلال تواصله مع الرئيس السابق لإقليم الضفة الغربية في حماس، الشهيد صالح العاروري. وهذا يدل على أن مخطط الطوفان كان حاضرًا في ذهن وأفكار السنوار منذ سنوات.
إلى بناء الطوفان
يردد السنوار منذ شبابه عبارة "لن يحدث على أرض الله، إلا ما كتب الله". إنه يشبه السهم الذي إذا انطلق لا يتوقف إلا عند هدفه، كما يصفه أبو عامر.
ولفت أبو عامر إلى أن السنوار كان يهدف إلى تغيير نفوذ "إسرائيل" في الشرق الأوسط، ونجح بالفعل في فتح المجال أمام ضربات متعددة ضدها من مواقع مختلفة. كان يؤمن بأن على الفلسطينيين توجيه ضربة قاسية للاحتلال، ولهذا شكّل مخططًا رئيسيًا لمعركة طوفان الأقصى، التي امتدت من ساحات غزة إلى ميادين الشرق الأوسط، ووجّهت ضربة مباشرة للمشروع الأمريكي في المنطقة، الهادف إلى خفض التصعيد عبر اتفاقيات التطبيع العربية–الإسرائيلية على حساب القضية الفلسطينية. كما ساهم السنوار في تعطيل مخطط أمريكا من خلال الانشغال بالحرب الأوكرانية–الروسية، ما أتاح متنفسًا لروسيا والصين التي تخوض مواجهة اقتصادية مع الولايات المتحدة، إضافة إلى التأثير في تحطيم الصورة التي سعت إسرائيل لإيهام العالم بها طوال سنوات، باعتبارها نموذجًا للديمقراطية.
يعود مأمون أبو عامر قليلًا إلى الزمن الماضي، حين كان السنوار في سنته الجامعية الأولى، يجمع طلبة الكتلة الإسلامية لدراسة تفسير سورة الحشر، انطلاقًا من الآية التي آمن السنوار بأنها تنطبق على يهود دولة الاحتلال: "هُوَ ٱلَّذِىٓ أَخْرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ مِن دِيَٰرِهِمْ لِأَوَّلِ ٱلْحَشْرِ ۚ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ ۖ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ ٱللَّهِ فَأَتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ".
ويختم ماجد أبو قطيش حواره مع شبكة قدس بالقول إن السنوار أثناء سجنه أعلن نيته تغيير شعار كتائب القسام بعد تحرره، وفعلًا استبدل الآية القرآنية التي كانت تُرفع سابقًا: "وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ". بآيةٍ أخرى أصبحَت شعارَ الجناح العسكري، والتي قرأها قائد كتائب القسام، الشهيد محمد الضيف في بيان بدء معركة "طوفان الأقصى" بتاريخ 7 أكتوبر 2023: "ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ".