قبل عدة أشهر، شارك يائير نتنياهو، المعروف بمواقفه الحادة والمتطرفة ضد كل وسائل الإعلام التي لا تتماشى مع نهج والده، سواء في السياسة الداخلية أو في الموقف من الفلسطينيين والمنطقة، منشورًا امتدح فيه بشكل مباشر القنوات السعودية، وعلى رأسها “العربية” و”الحدث”. في ذلك المنشور قال ناشط اليمين الذي شارك نتنياهو منشوره إن متابعة بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية خلال الحرب تثير الإحباط، بينما تمنحك مشاهدة بعض وسائل الإعلام السعودية شعورًا مختلفًا. هذه الإشارة لم تكن عابرة، بل جاءت لتؤكد أن هناك خطًا إعلاميًا عربيًا يتقاطع بشكل ملحوظ مع السردية الإسرائيلية حول ما يجري في غزة والمنطقة.
منذ السابع من أكتوبر، اتضح أن الحرب لم تُخض فقط في الميدان العسكري، بل على شاشات التلفزة أيضًا. فبدل منح مساحة للرواية الفلسطينية، سارت “العربية” و”الحدث” في مسار آخر، أقرب إلى الرواية الإسرائيلية، سواء في طريقة اختيار الضيوف أو في صياغة الأسئلة أو حتى في طبيعة المصطلحات المستخدمة. لم يكن الأمر وليد صدفة، بل انعكاسًا لتوجه سياسي سعودي يرى في الابتعاد عن خيار المقاومة خطوة ضرورية، وفي التمهيد للتطبيع مع "إسرائيل" خيارًا استراتيجيًا.
من أبرز المظاهر التي كان ظهور الناطق باسم جيش الاحتلال، دانييل هغاري، مباشرة على شاشة “العربية”. للمرة الأولى يُطل الناطق العسكري الإسرائيلي على قناة سعودية كبرى ليشرح وجهة نظر "إسرائيل" حول الحرب في غزة وحول المعركة مع حزب الله في الشمال. بالنسبة للمشاهد العربي، كان ذلك انتقالًا نوعيًا: لم تعد الرواية الإسرائيلية تُنقل عبر وكالات أجنبية أو تُقتبس من الصحافة الغربية، بل تُبث مباشرة عبر قناة عربية تديرها المملكة السعودية. وقد أثار هذا الظهور موجة من الانتقادات، وصلت حد التساؤل: “هل هذه قناة عربية أم إسرائيلية؟”. لكن رغم الانتقادات، فإن مجرد حدوث هذه المقابلة عكس توجهاً تحريرياً يرى أن من حق "إسرائيل" أن تشرح نفسها وأن يُتاح لها المجال على الهواء مباشرة لتبرر الإبادة.
هذا التوجه يتناغم مع ما هو أعمق: التغطية الإخبارية التي تُحمّل المقاومة مسؤولية المأساة الإنسانية في غزة. على مدى الأشهر الماضية، تبنّت “العربية” و”الحدث” خطابًا ثابتًا يقوم على التشكيك في أرقام وزارة الصحة في غزة باعتبارها “تابعة لحماس”، وتكرار سردية “المجال الإنساني” و”المناطق الآمنة” التي يعلنها جيش الاحتلال الإسرائيلي. هذه الصياغات ليست محايدة؛ فهي تضعف صدقية الرواية الفلسطينية وتمنح الرواية الإسرائيلية غطاءً من الموضوعية الشكلية. فحين يُعرض خبر عن استشهاد المئات في قصف، يُلحق مباشرة بعبارة “بحسب وزارة الصحة التي تديرها حماس”، بينما حين يُستضاف ناطق إسرائيلي، يُقدم كلامه على أنه شهادة عسكرية رسمية.
المواجهة التحريرية لم تقتصر على اختيار الكلمات، بل امتدت إلى الأسئلة الموجهة لقيادات حماس. بعد أسابيع من الحرب، استضافت “العربية” خالد مشعل، وطرحت عليه سؤالاً غير مألوف في الإعلام العربي: “هل ستعتذرون عن قتل المدنيين الإسرائيليين؟ الغرب يراكم كمنظمة شبيهة بداعش”. مثل هذه الأسئلة، المستمدة من خطاب غربي/إسرائيلي، لم تكن عفوية، بل تعبّر عن رغبة في محاصرة الرواية الفلسطينية ضمن إطار أخلاقي ضيق، يساوي بين المقاومة والإرهاب. لاحقًا، واجهت القناة غازي حمد بسيل من الأسئلة حول علاقة حماس بإيران، لتؤطر الحركة في خانة “ذراع خارجي”، لا حركة مقاومة محلية. هذه المقابلات جاءت في سياق أوسع: تقديم حماس كعبء على الفلسطينيين، ومقارنة صورتها بصور جماعات متطرفة.
في المقابل، لم تتردد القناة في إبراز صور تطبيع العلاقات الإسرائيلية مع الخليج. فهي القناة التي غطت اتفاقات أبراهام بحفاوة، وبثت من داخل الكنيست الإسرائيلي مشاهد التوقيع على الاتفاقيات. كما استضافت شخصيات إسرائيلية رسمية واقتصادية للحديث عن التعاون بين إسرائيل ودول الخليج. ورغم أنها تتعامل بحذر مع موضوع التطبيع المباشر بين السعودية و"إسرائيل"، فإن خطها التحريري يعكس بوضوح تمهيدًا ذهنيًا لفكرة أن العلاقة مع إسرائيل لم تعد من المحرمات. الحرب الأخيرة جعلت هذا الخطاب أكثر وضوحًا: فبينما كانت غزة تُقصف، كان يُبث في المقابل خطاب أن الاستسلام والتسوية هما الطريق الوحيد لوقف المأساة.
في مقالة نشرتها هآرتس أكدت أن الانسجام مع الخطاب الإسرائيلي هو تعبير عن التقاء في المصالح: "إسرائيل" تريد إضعاف حماس وتجريدها من شرعيتها، والسعودية تريد ضرب صورة المقاومة في المنطقة. والنتيجة هي إعلام عربي يكرر على نحو شبه يومي أن استمرار المقاومة يساوي استمرار المأساة، وأن الحل هو في رفع الراية البيضاء.
الحرب على غزة شكّلت فرصة لقياس هذا الانحياز الإعلامي بوضوح. فقد اختارت “العربية” و”الحدث” أن توازن الصورة عبر تضخيم الرواية الإسرائيلية.
كان المشاهد العربي يجد نفسه أمام خيارين متناقضين: إما خطاب يصوّر المقاومة كصاحبة حق، أو خطاب يختزلها كخطر على شعبها. هذا التباين عزز الاستقطاب داخل الرأي العام العربي، لكنه منح "إسرائيل" هدية ثمينة: نافذة عربية واسعة لبث خطابها الدفاعي والهجومي في آن واحد.
ولأن الإعلام في السعودية يعكس في النهاية إرادة السلطة، فإن ما يظهر على الشاشات ليس مجرد سياسة تحريرية، بل جزء من رؤية أوسع لتغيير قواعد اللعبة. وفي هذا السياق، تصبح “العربية” و”الحدث” أدوات لإعادة تشكيل وعي الجمهور العربي تجاه "إسرائيل"، من عدو مطلق إلى شريك محتمل، ومن قوة احتلال إلى طرف يمكن التحاور معه.
في المحصلة، يتضح أن الإعلام السعودي لم يعد مجرد ناقل للأخبار في زمن الحرب، بل لاعب فاعل في صياغة الوعي. من خلال استضافة محللين معادين للمقاومة، تضخيم وتأمين الخطاب الإسرائيلي، تبني خطاب تحميل حماس المسؤولية، وطرح الاستسلام كخيار واقعي، ينسجم الخط التحريري مع السردية الإسرائيلية بصورة لافتة. وهنا نفهم لماذا أشاد يائير نتنياهو بالعربية والحدث: لأنهما قدما له ما عجزت بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية نفسها عن تحقيقه، وهو إقناع الجمهور العربي بأن الرواية الإسرائيلية ليست غريبة عن بيئته الإعلامية، بل يمكن أن تُعرض من شاشاته هو. هذه ليست مجرد تفاصيل إعلامية، بل جزء من معركة أوسع على وعي المنطقة، معركة يُراد لها أن تنتهي ليس فقط بقبول إسرائيل كواقع، بل بالتمهيد لتطبيع يقدّم المقاومة كعبء، والاستسلام أمام الاحتلال كخلاص.