خاص - شبكة قُدس: "أقترح صيغة خطة لضم القدس وقطاع غزة، نحن مستعدون أن نقتل من أجل القدس ومن أجل الأرض. في قطاع غزة، عندما نتذكر وجود 400 ألف عربي، فإننا نشعر بالمرارة في القلب". لم ترد هذه التصريحات على لسان بتسلئيل سموتريتش زعيم حزب "الصهيونية الدينية" أحد أعمدة مشروع تهجير وتدمير الفلسطينيين، في السنوات الحالية، بل من ليفي أشكول رئيس حكومة الاحتلال فترة حرب 1967 وأحد قادة حزب "العمل" الذي تضعه معظم التحليلات العربية والفلسطينية للحالة السياسية الإسرائيلية ضمن "اليسار".
في جوهر العقل الصهيوني والحركة الصهيونية تمثل فكرة "التهجير" و"نفي الآخر" قطباً رئيسياً يحرك قادتها ومؤسساتها السياسية والعسكرية. الوجود الفلسطيني يمثل تهديداً استراتيجياً على "إسرائيل" حتى وإن لم يقدم على عمل عسكري أو نضالي، لذلك تكاثرت المشاريع الإسرائيلي مع تعدد الأجيال التي تعاقبت على قيادة دولة الاحتلال حول تهجير الفلسطينيين والسيطرة على أراضيهم، وإن كان التهجير صعباً في مرحلة فالحلول هي في "الاحتواء" في سياق سياسي واجتماعي يسلب من الفلسطيني حقوقه السياسية، أو حشره في تجمعات جغرافية ضيقة تجعل من حياته مروراً دائماً بين الحواجز والمستوطنات والسعي خلف لقمة العيش.
دائماً ما شكل بقاء الفلسطينيين، في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس، معضلة أمام المنظومة السياسية والعسكرية الإسرائيلية. تقول مصادر تاريخية إسرائيلية إن العصابات الصهيونية في حرب 1948 وضعت خطة للدخول إلى الضفة عبر النبي صموئيل (المرتفع الاستراتيجي المطل على مناطق واسعة في القدس ورام الله)، لكن صمود المدافعين عن المنطقة منع المخطط وساهم في بقاء مئات آلاف الفلسطينيين في هذه المنطقة، وفي كل المناطق كان القتال هو من وضع للتوسع الصهيوني حدوداً ووفر أسباب بقاء تجمعات فلسطينية كاملة.
فتح احتلال 1967 فرصة أمام حكومة الاحتلال لتحقيق حلم التهجير والسيطرة على الضفة الغربية والقدس، التي تمثل رمزية وأهمية استراتيجية للدولة الصهيونية التي كانت حينها محشورة في الساحل الفلسطيني المكشوف أمام المرتفعات الجبلية في المنطقة الوسطى من فلسطين، وقطاع غزة الذي شكل بعد النكبة مصدراً للعمليات الفدائية. وكشفت محاضر اجتماعات حكومة الاحتلال عقب الحرب أن الوزراء بينهم موشيه دايان الذي كان وزيراً للحرب حينها بحثوا السبل المثلى لتسهيل التهجير، واقترحوا محاربة الفلسطينيين بالعطش والجوع لدفعهم إلى خارج البلاد.
غزة… قتال على البقاء
بعد عملية التهجير والإبادة الكبرى التي شنتها الحركة الصهيونية على الفلسطينيين، خلال حرب 1948، تحولت غزة إلى أكبر مخيم للاجئين بعد أن تشرد إليها أهالي القرى والبلدات المحيطة بها وصولاً إلى بئر السبع ويافا والرملة واللد. عاش اللاجئون حياة شديدة القسوة، في القطاع، كما حال بقية اللاجئين في الضفة والدول العربية المجاورة لفلسطين. وتروي الذاكرة الشعبية عن الأيام شديدة البرودة التي ضربت البلاد ومات في الخيام أطفال ومسنون، أمام العالم الذي كان سبباً في قيام دولة "إسرائيل" على أنقاض الشعب الفلسطيني.
عانى اللاجئون في قطاع غزة من تجويع شديد، في سنوات الخمسينات، ترافق مع تكاثر المشاريع الأمريكية والدولية لتهجيرهم نحو سيناء وتوطينهم فيها لتحطيم شعار "العودة" الذي بقي مصدر قلق كبير لدولة الاحتلال ورعاتها الدوليين. كانت شخصيات في الإدارة المصرية مع مسؤولين في وكالة "الأونروا" والأمم المتحدة تشجع أيضاً على نقل لاجئين فلسطينيين إلى سيناء لتنفيذ "مشاريع زراعية"، وهو ما أشعل جرس الإنذار في المخيمات الفلسطينية.
في أذار/ مارس 1955 انفجر الغضب الفلسطيني على هذه المشاريع وانطلقت تظاهرات بدأت من طلاب المدارس، في قطاع غزة، لتتحول إلى ما يشبه الثورة وصفها الشاعر الفلسطيني معين بسيسو في مذكراته "كلما مشت التظاهرة متراً كانت عشرات الأمتار تنضم إليها... لا توطين ولا إسكان يا عملاء الأمريكان".
الثورة الغزيَة ضد مشاريع التوطين أجبرت الإدارة المصرية على التراجع عن التعامل معها، ودفعها الحراك الشعبي نحو تسليح وتدريب أعداد من الشبان، في القطاع، لمواجهة هجمات جيش الاحتلال على مواقع في غزة، وكان لعدد منهم دور لاحق في العمليات الفدائية في السبعينات.
لم تتوقف غزة عن مدافعة مشاريع تستخدم كل الأدوات لدفع أهلها نحو تهجير جديد. في السبعينات صب أرئيل شارون الذي كان قائداً للمنطقة الجنوبية في جيش الاحتلال النار على مخيمات القطاع، ودمر مناطق كاملة فيها وأجرى عمليات توسيع للشوارع، في سياق الحرب على العمليات الفدائية التي أشعلت غزة حينها، ولتحقيق حلمه التاريخي بتحطيم حق العودة عبر إفناء المخيمات عن الخارطة، ونفذ عمليات طرد لعائلات كاملة نحو سيناء والضفة الغربية والأردن.
خطر التهجير يهدد الضفة
بما للضفة المحتلة والقدس من أهمية استراتيجية لدولة الاحتلال، ركزت الأجهزة الإسرائيلية بمختلف مستوياتها على تنفيذ حملات من القمع المركب بين السياسات العسكرية والأمنية والاقتصادية، لتحقيق السيطرة على أكبر مساحة من الأرض مع أقل عدد من السكان.
دمج الاحتلال بين الوسائل العسكرية (الاغتيالات، والاعتقالات، والاقتحامات، والقمع وغيرها)، والأدوات الاقتصادية (ربط الاقتصاد الفلسطيني بالإسرائيلي، محاربة الزراعة، احتواء الناس، التصاريح، مصادرة الأراضي)، والسياسية والاجتماعية في عمليته طويلة الأمد لتحقيق أهداف بعضها في الهرم الأعلى (التهجير الكامل) والآخر مرحلي وقريب (السيطرة على الأرض).
ترافقت حرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة، منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023، مع تكثيف الاحتلال عدوانه على الضفة الغربية، خاصة شمالها. دمر الاحتلال مساحات واسعة من المنازل والبنية التحتية، في مخيمات جنين وطولكرم والفارعة وبلاطة ونور شمس، وفي قلب عدة مدن، بالإضافة لتوسيع هدم المنشآت والبنايات في المناطق المصنفة "c" مع توسيعها نحو مناطق "B"، وتسريع وتيرة الاستيطان وسرقة الأراضي.
ضم الاحتلال إلى التدمير الممنهج وحملة "القبضة الحديدية" عملية تضييق على الفلسطينيين بهدف تدميرهم اقتصادياً أيضاً. وتشير التقديرات إلى أن أكثر من 800 حاجز وبوابة عسكرية إسرائيلية، في الضفة الغربية، حالياً هدفها حصار الناس وخلق حالة من الضيق الشديد في حياتهم وزيادة الأزمة الاقتصادية، في المدن خاصة، عن طريق منع وصول الأهالي إلى العمل والمراكز التجارية.
وتزامنت هذه الحملة القمعية المتعددة مع أزمة "الرواتب" لموظفي السلطة، ومنع مئات آلاف العمال من الدخول إلى الداخل الفلسطيني المحتل، وغياب مشاريع فلسطينية رسمية أو شعبية لدعم صمود الناس، ويضاف إليها مضي الاحتلال في السيطرة على الأغوار التي تعتبر خزان الغذاء والزراعة، في الضفة، وإطلاق ميلشيات المستوطنين لتهجير عشرات التجمعات البدوية الفلسطينية في مواقع استراتيجية.
كل هذا المشهد لا يغادر الهدف الأعلى للمنظومة الصهيونية، التي تغذيها الآن العقائد "الصهيونية الدينية" التي ترى في الضفة هدفاً لتحقيق أحلامها في السيطرة وطرد الفلسطينيين، والجرافات التي تدمر الآن أزقة مخيمات جنين وطولكرم هي ضمن منظومة متكاملة ترى أن الفرصة تاريخية الآن لتحقيق حلم قديم بتهجير أهالي الضفة.
كما أن تصريحات ترامب حول تهجير أهالي غزة إلى مصر والأردن ليست بعيدة عن الضفة، بل هي في قلب المشروع الصهيوني الديني الذي وجد حلفاء أشد ارتباطاً به في الإدارة الأمريكية، ويطمح للانتقال من القطاع نحو الضفة القدس، ودفع التجمعات الفلسطينية فيها نحو الأردن الذي تصفه بأنه "الوطن الحقيقي للفلسطينيين".
لكن التاريخ ومسار الوقائع السياسية والعسكرية، في بلادنا، ليس حتمياً وكما منع صمود مقاتلي حرب 1948 سقوط كثير من التجمعات الفلسطينية، فإن الفلسطيني الآن ليس أيضاً عاملاً سلبياً يتلقى مشاريع تهجيره وفقط. ورغم التعقيدات والظروف القاسية التي يعيشها الفلسطينيون إلا أن حالات المقاومة استطاعت إرباك وصد المشاريع الأمريكية - الإسرائيلية، في كثير من المحطات.
وضع شارون في اجتياح لبنان، في 1982، هدفاً سياسياً استراتيجياً هو دفع أهالي المخيمات نحو الهجرة إلى الأردن، لإقامة دولة فلسطينية هناك تكون بديلاً عن الضفة وغزة، وأطلق قواته والميلشيات اللبنانية العميلة في تنفيذ سلسلة مجازر بشعة بحق اللاجئين. لكن حلم شارون لم يتحقق وصمدت المخيمات وبعد سنوات قليلة انتقل زخم الثورة الفلسطينية نحو الداخل بعد أن اندلعت انتفاضة شعبية عارمة في الضفة وقطاع غزة.