مؤلمة تلك الحياة والمواقف التي نتجرع مراراتها بمفردنا، وقاسية تلك الظروف التي لا نجد فيها من يخفف عنّا وطأتها، وصادمة هي اللحظات التي نسمع فيها الشهقات الأخيرة لعائلتنا، بينما نسمع كل ذلك بآذان صاغية وعيون لا ترى سوى سوادًا حالكًا في بقعة سوداء تحت الأنقاض عاشت فيها نجوى الصفدي عدة ساعات.
خاضت الناجية الوحيدة من عائلتها نجوى الصفدي تجربة النزوح بمفردها، بعدما فقدت جميع أفراد عائلتها في قصف إسرائيلي لبرج سكني تعيش فيه العائلة يتكون من 11 طابقًا ويقع قرب ميناء مدينة غزة في 5 نوفمبر/ تشرين ثاني 2023، خرجت من تحت الأنقاض بكسور وأوجاع وآلام رافقتها في حياة قاسية بمراكز الإيواء، تألمت وبكت وعاشت التجويع والتشرد وحيدة وها هي تستعد للعودة لغزة لتستكمل رحلتها في البحث عنهم تحت أنقاض برجٍ بمدينة غزة، فطوال خمسة عشر شهرًا، لم يهنأ بالها بعد عدم دفن عائلتها، تتجرع مرارة النزوح والفقد.
سقوط من الـ 7
لمعت عيناها بدموع وقالت بصوت متحشرج بالبكاء تروي لـ "شبكة قدس" قصتها: "أسقطوا علينا البرج. كنا في الطابق السابع، تهاوى البرج وما ساعدني أنني طرت من النافذة وسقطت معي فرشتي التي سقطت عليها بالأسفل فحمتني، وغرقت في ظلام دامس بين الردم والحجارة يطبق علي سقف الطابق العلوي، لأكثر من خمس عشرة ساعة، مليئة بالكسور والأوجاع، استشهد أخي وزوجته وطفلاه وأمي، وعائلة جيراننا، كنا نحن العائلتان آخر من بقي من البرج الذي نزح كل سكان".
على مدار 15 ساعة ظلت تتقيأ دمًا، لم تعرف الليل من النهار فكل ما تشاهده هو العتمة، المصحوب بقصفٍ لم يتوقف على المنطقة وأحزمة نارية لم تتوقف على طول شارع البحر، منعها عمود أسمنتي سقط على قدمها من التحرك، وظلَّ يقيّد حركتها، تقول: "سقطت من الطابق السابع وكانت الفرشة تحتي، وبسبب القصف خرجت من نافذة غرفتي أمي، بينما كانت العائلة تحتمي في ممر. قصفوا البرج بالبداية بصاروخين لطائرة بدون طيار ثم أسقطوه علينا".
لم تكن عائلة الصفدي وحدها في البرج، بل ظلت عائلة جارهم أبو الحسن أبو ندى في الطابق الحادي عشر، "استشهد وأصيبت بناته بجروح خطيرة جرى تحويلهم إلى مصر فورًا، عندما كنت تحت الأنقاض كانت هناك روائح كريهة دخل في قدمي فأر وشاهدت دودًا غريبًا بداخل الرمال إضافة للعتمة المخيمة ولم أستطع فعل شيء" تسكن تلك التفاصيل المؤلمة ذاكرتها.
تنتشل بقية التفاصيل من أعماق ذاكرتها، عائدة خمسة عشر شهرًا للوراء: "وصل صوت استغاثتي المبحوح من أثر الصراخ طوال الليل لمقاومين طلبت منهم عدم القدوم خوفا عليهم، لكنهم رفضوا وقال أحدهم: "اللي كاتبه ربنا علينا وعليك حنشوفه "أخرجوني بحالة أبكتهم بعد أربع ساعات من البحث ورفع الركام بواسطة أدوات بدائية".
يقف الحزن على مدخل فمها وهي تروي: "كنت عالقة بين طبقة سقف أطبقت علي ولم يبق سوى فتحة صغيرة كنت أتنفس منها بمساحة الفم، وعندما حفر المقاومون ولاحظوا أن ملابسي تمزقت بالجزء العلوي بسبب السقوط وعلقها بالردم، حثوا علي التراب لتغطيتي ثم أخرجوني وقاموا بتغطيتي بقطعة قماش وإرسالي للمشفى، ثم استشهدوا بعد قصفهم من طائرة إسرائيلية ربما كشفت تحركهم".
استشهد في المجزرة شقيقها الشهيد أحمد فوزي الصفدي (38 عاما) وهو أب لطفلين تالين (8 سنوات) وبراء (6 سنوات) وهو إمام مسجد الحساينة وحاصل على بكالوريوس في الهندسة وبكالوريوس في الشريعة الإسلامية، وهو من صفوة الحفاظ سرد القرآن الكريم على جلسة واحدة قبل استشهاده، يعد داعية إسلامي محبوب على مستوى القطاع، وكان يعمل مرشدا في وزارة الأوقاف وفي شركة ضيوف الرحمن للحج والعمرة، أدى فريضة الحج ست مرات.
أما أمها الحاجة أم أحمد (59 عاما) فهي أم لنجوى وولدين أحمد الشهيد وإسماعيل وهو مهندس مقيم في رومانيا، كافحت على مدار 17 عامًا في تربية أبنائها بمفردها ونالوا درجات علمية مرموقة، واستشهدت آمال عامر (30 عاما) زوجة شقيقها أحمد.
وخلفت الإبادة الجماعية بغزة نحو 10 آلاف مفقود، غالبيتهم تحت أنقاض المنازل المدمرة، في وقت تواجه فرق الإنقاذ والدفاع المدني صعوبة في البحث نتيجة غياب المعدات الثقيلة، والاعتماد على أدوات بدائية في إزالة الركام.
ووفق جهاز الدفاع المدني في إحصائية نشرت أمس الخميس جرى انتشال 163 جثمانا منذ سريان وقف إطلاق النار من كافة المدن، واليوم الجمعة انتشلت الطواقم 17 جثمانا من مدينة رفح.
وتواصل الفرق البحث عن المفقودين تحت المنازل وفي الأحياء المدمرة والشوارع والأراضي، ويعثر على بقايا هياكل عظمية ورفات وملابس نتيجة تحلل الجثامين.
وحيدة في خيمة
يقفز أمامها مشهد نقلها للمشفى، قائلة: "كنت في حالة صحية مأساوية، بالمشفى كان هناك عدة حالات بتر، وكادت أن تبتر قدمي لكن أظهرت صور الرنين المغناطيسي إشارات جيدة للأطباء، فأخبروني أنني سأمشي بعد عام ونصف أو عامين، لكن مع العلاج الطبيعي الطويل وبعد معاناة كبيرة في العلاج والألم استطعت المشي بعد ستة أشهر".
على مدار خمسة عشر شهرًا، تخطت الصفدي أوجاعًا كبيرة، وجع في قلبها يتحول لكلمات ينهمر من صوتها "عشت عاما من الوحدة الشديدة والفقد والألم والإصابة، مع علاج لبعض الحروق في القدم اليمنى وفقد كامل لعصب القدم اليسرى وعدم إيجاد من يساعدني في العلاج".
عن تفاصيل رحلة علاج قاسية، تقول: "بقيت لمدة شهرين أنام على ظهري، بقيت على كرسي متحرك لثلاثة أشهر ثم تحسنت الحالة وبدأت استعمل العكاكيز فكانت أموري الصحية صعبة، أعاني من تلف بالأعصاب حتى الآن لا يوجد عصب بقدمي اليسرى يؤدي لعدم الإحساس بالأشياء، ومنذ أربعة أشهر فقط بدأت السير على قدمي بدون عكاكيز وعدت لعملي كمترجمة بمؤسسة أطباء العالم – إسبانيا".
تنقلت الصفدي في رحلة نزوحها القاسية في بيوت إيجار ونزوح مختلفة، إلى أن استقر بها الحال في خيمة بمدينة دير البلح وسط قطاع غزة، مواقف وأحداث مؤلمة تحضر حديثها: "كنت أذهب على العكاكيز لإحضار الطعام وتوفير المياه، أعيش لوحدي بلا سند أو عائلة وكانت فترة صعبة وأحيانا أصاب بالتشنج بسبب ألم الأعصاب ولا أجد من يساعدني".
من الأحداث التي لا تفارق ذاكرتها، أنها في موقف تعرضت لاقتحام عصابة لصوص مكونة من ثلاثة شباب وفتاة دخلوا لخيمتها بهدف السرقة، تستذكر: "صرخت على الجيران وجرى انقاذي والإمساك بهم، وفي مرة أخرى تعرضت أرض مجاورة لنا لقصف إسرائيلي وخرج الجيران ونسوا نقلي وكنت وقتها أسير بواسطة عكاكيز، ويومها تطاير الغبار نحوي وخرجت من تحت الردم بعدما طرت لعدة أمتار نتيجة شدة الانفجار".
عن العودة لغزة، يغمر صوتها الفرح الممزوج بغصة الفقد: "بقدر حبي وشوقي للرجعة لغزة، لكن أبكي لأني سأعود حزينة سأذهب للبحث عن أهلي تحت الركام ومحاولة إخراجهم من تحت أنقاض البرج، ولدي ثقة أني سأخرجهم وسأدفنهم بعد أكثر من عام على استشهادها، وبنفس الوقت أنتمي لتراب غزة وأتوق للحظة التي أتنسم هوائها".
لن تعود الصفدي لوحدها لغزة، بل ستتكئ على سندٍ جديد بعدما تزوجت قبل ثلاثة أشهر، جرت المراسم بلا فرحة بمعنى الفرح وبلا حضور عائلي، كانت الوحيدة من طرف عائلتها وزوجها وعدد قليل من الشهود، وهكذا جرت الأفراح بغزة خلال الحرب بمراسم صامتة احتراما لدماء الشهداء، تعلق: "نتيجة الحياة والضغوط والظروف المحيطة مثل الزواج سكينة وطمأنينة وسند، وزوجي من سكان شمال القطاع وسنعيش معا في غزة".
نجوى الصفدي الناجية الوحيدة من عائلتها، نجت من الصاروخ لكنها لم تنجُ من الفقد، خرجت للحياة وحيدة بلا دفء عائلة تروي مآسي غزة من قلب الإبادة، تعيش على دفء الذكريات وأحلام وأفراح قتلها الاحتلال.