شبكة قدس الإخبارية

قصة أمّ في غزة لا تملك رفاهية الحزن

GgU1xUIW8AAXM71
ثائر أبو عياش

غزة، تلك البقعة الجغرافية التي لا تنفك تدفع ثمنًا باهظًا من دماء أبنائها على مر الأيام. منذ السابع من أكتوبر، لم تعد الحياة كما كانت، بل تغيرت ملامحها لتغدو أشبه بمسرحية دامية، حيث الوجع هو البطل، والدمار هو الخلفية، والفقدان هو الموضوع. في تلك اللحظات التي تنبض فيها الأرض بالألم، يتحوّل الإنسان إلى جزء من تلك المأساة الكبرى التي لا تعرف الرحمة.

الخبر الذي لا يمكن أن يُنسى وسط الدماء، كان أحد تلك اللحظات التي تؤرخ لعمق المأساة الإنسانية. في مغسلة الموتى في أحد مستشفيات غزة، حيث تعالت أصوات الضجيج والأنين، وكان الناس في حالة من الفوضى المرهقة. كلهم يحملون قصصًا مؤلمة عن الفقدان، وكل واحد منهم يحمل قلبًا محطّمًا. هناك، أمام المغسلة، كانت الأم التي لم تترك ابنها الشهيد في اللحظة التي كان فيها يُلفّ في كفن الفقد. كانت تجهّز ملابسه، ساعته، وحزامه.

بالطبع، في المجتمعات التي تقبع تحت وطأة الحروب والصراعات، من المتعارف عليه أن الشهيد يُدفن في ملابسه كما هي، حتى تبقى تلك اللحظة جزءًا من ذاكرتنا الجماعية. ولكن في ذلك اليوم، كانت الصورة أكثر تعقيدًا، أكثر ألمًا. اقترب منها أحد الأشخاص وبلطف حاول أن يكون رحيمًا في كلماته: "يما، الأفضل الشهيد يظل كما هو، بكل ملابسه، في ملابسه التي تركها خلفه." لكن ردها جاء على نحو مفاجئ، بل مؤلم للغاية. قالت له حرفيًا: "خلي أخوه يلبس، يما معندهمش أواعي، هما الاثنين بيلبسوا كل إشي من بعض. وهيو الثاني مصاب ومعيش أجيبله غيارات."

كيف يُمكن أن تتصور هذا المشهد بشكل كامل؟. لربما الصمت هو الخيار ودع يقلم يشق طريقه نحو الحكاية. لم يكن الأمر يتعلق بدماء فُقدت، أو بالأجساد التي تحطمت. كان يتعلق بشيء أكبر وأعمق. كان يتعلق بالواقع القاسي الذي يجبر هذه الأم على اتخاذ قرارات حياتية في لحظات حزنها، دون أن يكون لديها حتى القدرة على التفكير في أن جسد ابنها الذي استشهد، والذي لم يعد موجودًا، هو جزء لا يتجزأ من ذكرياتها، من حياتها. هي تتركه بكل ما فيه، لأنها مضطرة لذلك. من غير الممكن أن تفكر في ملابس ابنها الشهيد، في ظل واقع يعيش فيه أحد أبنائها مصابًا، ولا يملك حتى ثمن غيار جديد.

وفي تلك اللحظة، تشعر بعجزٍ كبيرٍ، وحتى تصبح عاجزًا عن الرد. ليس لأنك لم تمتلك الكلمات، بل لأن الكلمات كانت ثقيلة جدًا، وثقيلة أكثر من أن تلامس قلوبنا المكلومة. كيف يمكن أن تشرح تلك اللحظة؟ كيف يمكن أن تقدم العزاء في ظل هذا الألم؟

في تلك اللحظة دعها تكمل ما كانت تفعله، نعم هناك شيء عميق يتحرك في داخلك لا محالة. لا يمكن لأي شخص أن يتخيل ما تعيشه هذه الأم. لا يمكن لأي شخص أن يفهم كيف أن فقدان الشهيد ليس فاجعة واحدة، بل هو سلسلة من الأوجاع التي تتراكم. تتراكم بسبب قسوة الواقع، بسبب قلة الإمكانيات، وبسبب أن الحياة في غزة ليست مجرد حياة، بل هي معركة يومية للبقاء.

الغريب في هذا الموقف هو أن هذه الأم لم تتصرف كأم مفجوعة، بل كأم قاسية عليها الحياة إلى درجة أنها لا تملك رفاهية الحزن. لم يكن لديها وقت للدموع؛ كانت تفكر في غطاء أو في طعام أو في ملابس لا تكاد تجدها. كان عقلها مشغولًا بأشياء أخرى تتجاوز المأساة العاطفية التي كانت تعيشها، وتؤكد أن الحروب لا تكسر فقط الأجساد، بل تكسر الروح أيضًا.

لا يمكن لأحد أن يفهم تمامًا معاناة تلك الأم، التي أُجبرت على التفكير في ملابس ابنها الشهيد وملابس أخيه المصاب. لا يمكن لأحد أن يتخيل أن تلك اللحظة، التي قد تبدو صغيرة بالنسبة للبعض، هي في الواقع جزء من معاناة أكبر وأعمق؛ معاناة شعوب لم تعد قادرة على التفكير في ترف الحياة أو في الاحتياجات اليومية البسيطة. هذه الأم، على الرغم من الألم الذي يعتصر قلبها، كانت تفكر في "اللاشيء" الذي تركته الحياة لها.

إن ما حدث في تلك اللحظة، وما يحدث يوميًا في غزة، هو معركة للبقاء على قيد الحياة، ليس فقط جسديًا بل أيضًا نفسيًا وروحيًا. الحروب تعطي الإنسان في كل يوم درسًا قاسيًا في التكيّف مع الألم، ولكنها في الوقت نفسه تسرق منه قدرته على الحلم. وعلى الرغم من هذا، يبقى الإنسان في غزة دائمًا يجد طريقة ليواصل الحياة، بكل ما فيها من تناقضات ومعاناة.

وفي النهاية، ستبقى صورة المشهد عالقة في الذهن، صورة الأم التي تحاول أن تلبس الألم على جسد ابنها الشهيد، بينما هي لا تملك ما تكفيه من احتياجات. تتركنا تلك اللحظة ونحن نتساءل: كيف يمكن لعالمنا أن يكون بهذه القسوة؟ كيف يمكن أن تكون الإنسانية في بعض الأحيان مجرد كلمة تُقال دون أن تعني شيئًا حقيقيًا في واقعنا المؤلم؟