يُعتبر الأسير الفلسطيني الراحل فؤاد الشوبكي أحد أبرز القادة الذين شكلوا جزءاً مهماً من تاريخ النضال الفلسطيني، خاصة في سياق الانتفاضة الثانية (انتفاضة الأقصى) وما صاحبها من تحديات وصراعات. كان الشوبكي مثالاً على التضحيات الكبيرة التي قدمها الفلسطينيون من أجل حرية شعبهم، ومن أبرز محطاته في مسيرته كان دوره البارز في عملية "كارين إيه"، تلك السفينة التي لم تكن مجرد شحنة أسلحة، بل كانت رمزاً للمقاومة والتمسك بالحقوق الوطنية الفلسطينية.
سفينة كارين إيه: عملية المقاومة الكبرى
في أواخر عام 2001، وفي وقت كانت فيه الانتفاضة الفلسطينية الثانية في أوجها، وبعد أن شهدت الأرض الفلسطينية تصاعدًا في عمليات "القتل" والدمار "الإسرائيلي"، كانت المقاومة الفلسطينية بحاجة إلى أسلحة متطورة لتعزيز قدرتها على الصمود في وجه الاحتلال. كانت "سفينة كارين إيه" التي تم اعتراضها في يناير 2002، واحدة من العمليات الكبرى التي لفتت انتباه العالم إلى عزم الفلسطينيين على مقاومة الاحتلال بكل الوسائل المتاحة.
الهدف كان بسيطًا ولكن عميقًا في معانيه: إرسال شحنة كبيرة من الأسلحة والذخائر إلى المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، لتحسين قدراتها الدفاعية والهجومية ضد جيش الاحتلال. لكن ما كان يخفيه هذا الحدث كان أكثر من مجرد شحنة أسلحة. كانت "كارين إيه" بمثابة رسالة سياسية عسكرية واضحة: الفلسطينيون لن يستسلموا، ولن يوقفهم شيء في طريق استرداد حقوقهم.
وكان الشوبكي، القيادي في حركة فتح ومسؤول الأسلحة في تلك العملية، هو العقل المدبر لهذه العملية الضخمة. كانت الشحنة تحتوي على معدات حربية متطورة، بما في ذلك صواريخ مضادة للدبابات، وذخائر ثقيلة، وأسلحة أخرى. ومع توقيت هذه العملية في ظل تصاعد العنف "الإسرائيلي" ضد الشعب الفلسطيني، كان الهدف هو منح المقاومة الفلسطينية القدرة على الرد على عدوان الاحتلال.
الاعتراض والمواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي
في يناير 2002، وفي حين كانت السفينة تبحر عبر البحر الأحمر في طريقها إلى سواحل غزة، تم اكتشافها من قبل البحرية "الإسرائيلية". وبعد مراقبة قامت قوات الاحتلال باعتراض السفينة واعتقال طاقمها، بما فيهم العديد من الفلسطينيين الذين كانوا ضالعين في نقل الأسلحة. تشير الوقائع إلى أن سفينة "كارين إيه" كان عليها حمولة 50 طنا من الأسلحة.
تُعتبر هذه السفينة هي القشة التي قصمت ظهر البعير فيما يخص اغتيال أبو عمار، حيث تشير العديد من المعطيات إلى أن حصار ياسر عرفات في مقاطعته برام الله كان بمثابة تمهيد لتصفيته سياسيًا، ثم جسديًا. لم يعترف الاحتلال باغتياله – كما هو الحال مع العديد من عمليات الاغتيال الأخرى – ولكن مرضه المفاجئ الذي أصابه نتيجة سم أو مادة إشعاعية كان يحمل بصمات رئيس وزراء الاحتلال الأسبق، أرييل شارون. فقد وجد شارون في عملية "كارين إيه"، بما تحمله من دلالات ورسائل، الفرصة المناسبة للتخلص من الرجل الذي طالما طارده، من بيروت إلى قبرص وتونس، دون أن يتمكن من القضاء عليه.
كارين إيه أو "سفينة نوح" كانت بمثابة نقطة تحول في السياسة "الإسرائيلية". الإعلان عن "كارين إيه" كان بمثابة رسالة تهديد من الاحتلال تجاه القيادة الفلسطينية، حيث اعتبرت ما تُمسى "تل أبيب" العملية تهديداً مباشراً لأمنها، وألقت باللوم على السلطة الفلسطينية وحركة فتح في تنظيم العملية.
رفض الراحل ياسر عرفات تسليم الشوبكي إلى الاحتلال، وأبقاه في مقر المقاطعة برام الله في أثناء عملية "السور الواقي" عام 2002، قبل أن يتم نقله إلى سجن أريحا تحت حراسة أميركية وبريطانيّة، لكن الاحتلال عمد إلى اختطافه عام 2006 واعتقاله، حيث قضى 17 سنة متنقلا بين سجونه.
يستذكر الشهيد يحيى السنوار عملية السفينة "كارين إيه" في هذا السياق، حيث قال في خطاب له في مايو 2021:
"التحية، كل التحية، للقائد أبو عمار... لقد قضيت وأنت تسعى لتعزيز قدرات شعبنا القتالية بعد "كارين إيه"... فاخترت جلب السلاح لخلق تحول في موازين القوى بيننا وبين الاحتلال. نم قرير العين يا أبا عمار، أنت وكل الشهداء".
إليك التفاصيل.. كارين إيه أو "سفينة نوح"..
وفقًا للمعلومات التي نشرتها الصحف العبرية، فقد التقطت الاستخبارات العسكرية (أمان) في بداية عام 2001 أولى الإشارات حول سفينة تبحر من بلغاريا إلى الخليج العربي دون أي حمولة على متنها. وقد أثار ذلك الشكوك، خاصة أن رحلة طويلة كهذه كانت غير مجدية تجاريًا لأي شركة، مما استدعى متابعة دقيقة للسفينة، التي أطلق عليها الاسم الكودي "المغنية".
قبل شرائها في أكتوبر/تشرين الأول 2001، كانت السفينة تحمل اسم "ريم كيه" وهي مسجلة في مدينة بيرايوس اليونانية، باسم شخص عراقي، مع رقم جواز سفر وصندوق بريد في العاصمة اليمنية صنعاء. وبعد شرائها، تغير اسمها إلى "كارين إيه"، وتم تسجيلها في "نوكو ألوفا"، عاصمة مملكة تونغا الواقعة في المحيط الهادئ.
كما توصلت "أمان" إلى أن عملية شراء السفينة "ريم كيه" - التي يبلغ طولها 96 مترًا وعرضها 14 مترًا - قد تمت من قبل شركة لبنانية أواخر أغسطس/آب 2001 لصالح شخص فلسطيني يدعى عادل مغربي (المعروف أيضًا باسم عادل سلامة). وقد أبحرت السفينة في رحلة تمويهية محملة بمواد غذائية عبر عدة موانئ، بينها اليمن ودبي والسودان، حيث صعد الطاقم الفلسطيني على متنها، ثم توجهت إلى إيران.
كان عادل مغربي، وهو عضو في حركة فتح، يتولى التنسيق مع حزب الله وإيران للحصول على الأسلحة لصالح السلطة الفلسطينية. شملت مهامه شراء السفينة، تشكيل طاقم الإبحار، التخطيط بشأن كيفية تخزين الأسلحة وإخفائها، وتحميل الأسلحة على السفن ثم نقلها حتى تسليمها على شواطئ غزة.
في 11 ديسمبر/كانون الأول 2001، وصلت السفينة إلى ميناء "كيش" في إيران، حيث تم تحميلها بشحنة من الأسلحة المعبأة في حاويات خاصة قابلة للتعويم. بعدها، أبحرت السفينة باتجاه البحر الأحمر، وكان من المفترض أن تعبر قناة السويس ثم تفرغ حمولتها قبالة سواحل قطاع غزة، حيث كان من المتوقع أن تلتقطها البحرية الفلسطينية.
لكن الوحدة البحرية "شايطيت 13 الإسرائيلية" نفذت عملية إنزال على ظهر السفينة في الثالث من يناير/كانون الثاني 2002، وذلك على بعد 500 كيلومتر من خليج العقبة، واقتادتها إلى ميناء إيلات (أم الرشراش).
الشوبكي: رمز الصمود والتضحية
لم يكن فؤاد الشوبكي مجرد أسير فلسطيني؛ كان رمزاً من رموز الصمود والتضحية، وقد تجسد هذا في دوره البارز في تنظيم عملية كارين إيه. هذا الدور لم يكن فقط مرتبطًا بالجانب العسكري، بل كانت له أبعاد سياسية وجغرافية، إذ كان الشوبكي يُدرك أن المقاومة المسلحة هي جزء من نضال الشعب الفلسطيني، لكن الإرادة الشعبية والتلاحم الوطني لا يمكن أن يتوقفا عند أسوار الاعتقال.
لقد كان الشوبكي من القلة الذين عاشوا في خضم هذا الصراع الكبير بين قوة الاحتلال وإرادة الفلسطينيين في التحرر، ولذلك كانت سنواته في السجون سجون الاحتلال تتسم بمعاناة فريدة. ولكن رغم كل القسوة والضغوط، كان دائمًا متمسكًا بأرضه وحقوقه، ويؤمن أن مقاومة الاحتلال هي الطريق الوحيد للحرية.
الأسير الذي استمر في النضال حتى بعد السجن
ظل فؤاد الشوبكي في سجون الاحتلال، حيث أُتهم بتهريب الأسلحة وحُكم عليه بالسجن لمدة 21 عامًا. منهم 4 سنوات في سجن أريحا، لكن جسده الذي سُجن في الزنازين لم يكن يومًا مقيدًا بالواقع الذي فرضته "إسرائيل". فالشوبكي لم يكن مجرد أسير في زنزانة، بل كان في قلب المعركة السياسية والعسكرية. كانت أسطورته حية في كل زاوية من زوايا فلسطين، وفي عيون أبناء شعبه الذين ظلوا يذكرونه دائمًا على أنه أحد أعمدة المقاومة. ولذلك لُقب بــــ "شيخ الأسرى".
أمضى الشوبكي سنوات طويلة في سجون الاحتلال، وواجه محنًا جسدية وعقلية، ولكن رغم القسوة، ظل قلبه نابضًا بالحرية والأمل في مستقبل أفضل لفلسطين.
وداعًا فؤاد الشوبكي
رحل فؤاد الشوبكي، ولكن إرثه سيظل خالداً في الذاكرة الفلسطينية. بعد سنوات من النضال والمقاومة، استطاع أن يثبت للجميع أن الإنسان الفلسطيني، مهما كانت قيوده، يبقى حرًا في فكره وعقيدته. في زمن الحروب والتهجير، كان فؤاد الشوبكي يقاوم، وفي لحظات الأسر، كان يناضل.
من خلال عملية "كارين إيه"، منح الشوبكي رسالة مفادها أن الفكرة لا تموت، وأن السعي وراء الحرية ليس محكومًا بالزمن أو المكان. وعلى الرغم من أن الاحتلال الإسرائيلي حاول تقويض المقاومة الفلسطينية، إلا أن "كارين إيه" كانت وما زالت رمزًا لعنفوان الكرامة الفلسطينية في وجه الظلم والاحتلال.
إذا جاز لي في الختام، سأتناول حوار جرى بيني وبين الراحل فؤاد الشوبكي في سجن عسقلان داخل زنزانة رقم 26 عام 2010، وهذا ما قاله ونحن نشرب الشاي: " إذا أحمد سعدات بعيش معي في نفس الزنزانة أنا ما بدي أروح من السجن، سعدات عشت معه في سجن أريحا وهو رفيق زنزانة عظيم".
وداعاً فؤاد الشوبكي.