أطلقت السلطة الفلسطينية حملة عسكرية ضد مجموعات المقاومة، في مخيم جنين، ربما هي الأكبر أو الأخطر في تاريخها منذ تأسيسها، من حجم القوات وطبيعة الهدف وحجم الهجوم والأسلحة، والتوقيت الذي انطلقت فيه تزامناً مع حرب الإبادة الجماعية التي لم يعرف لها الشعب الفلسطيني مثيلاً، واندفاع اليمين الصهيوني الذي يسيطر على دولة الاحتلال نحو تطبيق حلمه التاريخي بإنهاء ملف القضية الفلسطينية نهائياً والسيطرة التامة على الضفة المحتلة.
حملت السلطة حملتها في جنين على خطاب لم يكن جديداً عليها، خاصة في السنوات الأخيرة، التي شهدت احتقاناً شديداً في المجتمع الفلسطيني في الضفة المحتلة، خاصة، في ظل تراجع المشروع السياسي الذي أبصرت النور لأجله وهو قيام الدولة الفلسطينية على الأرض المحتلة في 1967، بعد أن قتلته حكومات الاحتلال المتعاقبة بالاستيطان والمد الاستعماري على الأرض، والإجماع الإسرائيلي على منع قيام دولة فلسطينية متكاملة، وما رافق ذلك من الانهيار الاقتصادي وعدم وفاء قيادة السلطة بالشعارات التي رفعتها عندما قرنت "الاستقرار الأمني بالتقدم الاقتصادي"، والملفات التي نشرت توالياً خلال سنوات عن قضايا فساد في الهيئات الحكومية والوزارات، وأصبح الفلسطيني غارقاً بين قتل الأمل بالتحرر من الاحتلال وضياع فرصة استقرار اقتصادي أو مشروع يمنحه الصمود على أرضه، وصارت عناوين الاحتلال في الضفة مثل "الإدارة المدنية" هي التي تفرض سيطرتها الفعلية.
تقول السلطة على لسان الناطق باسمها وقياداتها والنخب والإعلاميين من حاضنتها التقليدية إن هدف الحملة في جنين، هو استعادة "الأمن والأمان"، وهذه المرة أخذ الخطاب أبعاداً أخرى تتعلق بالتحذير من "مشروع إيراني" يتربص بالضفة، كما يقول المتحدثون باسم السلطة، ويريد "جرها إلى الدمار كما حصل في غزة ولبنان"، حسب وصفها.
جاء هذا الخطاب من قيادات السلطة والإعلاميين المحسوبين عليها متساوقاً ربما مع مزاج تروجه له أطراف مختلفة، في المنطقة، حول "هزيمة محور المقاومة" الذي يربطونه في كثير من الأحيان بإيران ذاتها، على أنها "المركز"، الذي يحرك الأحداث والتفاصيل ومكونات المحور من أجل "أهداف مشروعها"، كما درج الخطاب الرسمي العربي ونخب عربية وإسلامية معادية للمقاومة والإسلاميين على اختلاف بينهم في الأسباب والدوافع.
يأتي خطاب السلطة عن "الأمن والأمان" وفي خلفية المشهد قوات الاحتلال الإسرائيلي وهي تقتحم مدنا ومخيمات وقرى، غير بعيدة عن موقع عمليتها العسكرية، في مخيم جنين، وفي المشهد الأوسع حرب إبادة جماعية في قطاع غزة لم تتوقف بعد أكثر من 150 ألف شهيد وجريح ومفقود، واليمين الصهيوني الديني لا يتوقف عن الإعلان أن هدفه تدمير السلطة ذاتها والسيطرة التامة على الضفة المحتلة، وينتظرون عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض لمنحهم هذه الفرصة التاريخية.
وفي خلفية هذا الخطاب الذي يحاول إثارة مخاوف الفلسطينيين بمختلف طبقاتهم وتوجهاتهم السياسية والاجتماعية عن "الأمان" المفقود، كما يقول ناطقو السلطة وأعضاء في أجهزتها ومحسوبين على محيطها الاجتماعي، تبرز الأزمة الفلسطينية الأعمق التي ما زالت تحفر نحو مأزق أعظم، منذ بدايات تأسيس السلطة الفلسطينية عقب اتفاقيات التسوية بين منظمة التحرير الفلسطينية ودولة الاحتلال الإسرائيلي.
يظهر خطاب "الأمن والأمان" في ظل حالة احتلال يرفع الإبادة الجماعية مشروعاً على كل الفلسطينيين، التناقض المستمر الذي دخلت فيه الساحة الفلسطينية مع تأسيس كيان فلسطيني لم يأخذ من صلاحيات سوى ما يتيح له إدارة الشأن اليومي للفلسطينيين، بما يريح قوة الاحتلال التي تبقى مسيطرة على المناطق الاستراتيجية والمستوطنات، وتخرج من عبء تحمل مسؤولية من تحتلهم، وانعدام آفاق حل سياسي أو التوصل إلى دولة صارت مع الأيام سراباً لا تزيده الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة إلا ابتعاداً.
والفلسطيني الذي يرى جرافات الاحتلال تدمر البنية التحتية البسيطة التي توفرت له، والجنود يقتحمون بيته ويعتدون عليه وربما يسرقون ماله، لم يعد يسمع عن السلطة التي تحكمه إلا في إعلانات الناطقين باسمها عن "السيادة" و"الأمن"، ومواجهة "الخارجين عن القانون"، وهنا تتحول القضية الفلسطينية إلى "ملف أمني" تديره أجهزة أمنية مع أجهزة أخرى في دولة الاحتلال أو الولايات المتحدة الأمريكية أو مصر أو الأردن، بعد أن انعدم أي حديث سياسي أمام الفلسطينيين حتى لو منحهم دولة على جزء صغير من أرضهم، وكلما ارتفع صوت الناطقين باسم الأجهزة حول "استرداد الأمن" كان صوت اليمين الصهيوني أعلى في إعلانه عن أهدافه.
وهذه الأزمة التي تعصف بالفلسطينيين وصارت اليوم أشد اشتعالاً، بعد شهور، من الإبادة الجماعية في غزة والعمليات العدوانية في الضفة، يبدو وكأنها أصبحت عصية على الحل، وكانت محاولة الرئيس الشهيد ياسر عرفات لاستخدام السلطة في العمل المادي المباشر ضد الاحتلال بطرق مختلفة، لتحقيق أهداف سياسية، ربما هي الأخيرة في المحاولات لحل التناقض بين شعب محتل وبينه سلطة لا تتوقف عن الحديث على طريقة الدول التي تملك "السيادة" لكن الواقع غني عن التحليل أو التأويل.
تواجه التساؤلات التي تملأ كل مكان يجتمع فيه الناس، في الضفة المحتلة، حول دور السلطة في التصدي للاحتلال، من قيادات في فتح أو الأجهزة الأمنية باستحضار لـ"نموذج الدمار الذي حل في قطاع غزة"، محمولاً على خطاب من "العقلانية" و"الرؤية المستقبلية"، رغم أن قيادات في الحركة ذاتها قالت إن "طوفان الأقصى" كان عملية دفاعية فلسطينية لمواجهة واقع كان يشتد على الفلسطينيين في كل مكان ويرميهم مع جراحهم إلى النسيان.
لكن خطاب السلطة التخويفي من تكرار الدمار الذي حلَ بغزة في الضفة، لا يجيب على كل الأسئلة الحارقة التي يفرضها الاحتلال ذاته، ماذا عن مواجهة مشروع الضم؟ لماذا يدمر الاحتلال مئات المباني في الضفة والقدس شهريا؟ هل صارت جرائم الاحتلال تحتاج إلى دوافع ومبررات؟ هل تملك السلطة مشروعاً للمواجهة أو استراتيجية حتى لو مستندة على المقاومة الشعبية؟
كما أن استخدام نموذج "كي الوعي" الإسرائيلي في كتم تساؤلات الناس عن قضايا صارت تهدد وجودهم المباشر، في أرضهم، على وقع تصريحات بن غفير وسموتريتش وأقطاب في اليمين الصهيوني ومجالس المستوطنات حول تهجير الفلسطينيين وضم الضفة الغربية، لم ينجح حتى الآن في إخفاء الأسباب الحقيقية التي دفعت قيادة السلطة نحو صدام مباشر مع مجموعات المقاومة في جنين ومخيمها وغيرها من مناطق الضفة، إذ تقول وسائل إعلام إسرائيلية مقربة من مصادر مسؤولة إن هذه الخطوة كانت في إطار التنسيق مع الولايات المتحدة الأمريكية ودول عربية تسعى منذ سنوات لوأد أي فرصة لحراك مقاوم في الضفة المحتلة.
منذ مرحلة ما قبل انتخابه رئيساً للسلطة الفلسطينية وحتى اليوم ما زال الرئيس محمود عباس متمسكاً ببرنامجه الذي "يرفض أي صدام مع الاحتلال"، وهذه العملية العسكرية ضد مجموعات المقاومة، في جنين، لا تغادر هذا البرنامج الذي لم يتغير رغم أن الرهان على تسوية سياسية تحمل الفلسطينيين إلى دولة في الأراضي المحتلة 1967 اعترف حتى أكبر المنظرين لسنوات لهذا الخيار بأنه فشل، ورغم أن عقوداً من انتظار الوفاء الأمريكي بوعود قيام الدولة ومنع الاستيطان الإسرائيلي لم تحقق أي شيء للفلسطيني.
هكذا وفي أوج حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية والسعار الذي وصلت إلى المشاريع الاستعمارية الإسرائيلية، تعود السلطة إلى الرهان على "صفقات" مع الأمريكي، لكن هذه المرة من أجل (أمل) مجهول، والقادم الجديد إلى البيت الأبيض (ترامب)، لم يقدم للفلسطينيين في فترة رئاسته الأولى سوى مشاريع لحرمانهم من أرضهم، ويحضر هذه المرة مع فريق لا يقل صهيونية عن نتنياهو وسموتريتش وبن غفير.
وأضاعت السلطة الفلسطينية مرة أخرى فرصة تاريخية لاستغلال الزخم العالمي نحو القضية الفلسطينية، بعد أن وصلت مشاهد الإبادة الجماعية ربما لكل بيت في العالم، نحو تكريس خطاب يطالب بـ"العدالة" للشعب الفلسطيني، عادت الملفات الفلسطينية إلى ملفات أمنية يجري التعامل معها بالنار والبارود والاعتقالات، رهاناً على أمل بمواقف أمريكية، ودوامة جديدة من الانتظار الذي عمره عقود.
وبدلاً من أن يكون الدمار والقتل الوحشي الذي ارتكبته دولة الاحتلال، في قطاع غزة، والتدمير والإعدامات الميدانية والاعتقالات والحرب الوحشية على الأسرى، في الضفة، فرصة لإعادة تفكير الفلسطيني بما فيه السلطة بموقعه واستراتيجيته في الصراع والخطاب مع الأمة العربية والعالم، صارت جرائم الاحتلال مربوطة بتحميل المقاومة الفلسطينية المسؤولية عنها في سياق مرتبط بعض الأحيان بـ"الخصومات السياسية" مع أطراف فلسطينية، وأخرى بمصالح ذاتية لنخب باتت ترى "الأمن والأمان والوطن" في المساحة التي تتيح لها استمرار السيطرة حتى لو في قلب المدن فقط، وفي الخلفية خطابات السيادة والتحذير من الفتنة.
هذا وقد تقمص خطاب السلطة في تبرير حملتها ضد مجموعات المقاومة، في مخيم جنين، "الخطاب الإسرائيلي" حول "الخطر الإيراني" على المنطقة، وبذلك تحولت مجموعات من الشبان في مخيم شرد الاحتلال عائلاتهم إليه، بعد تدمير مدنهم وقراهم وحواضرهم الاجتماعية، عام النكبة، كثير منهم ينحدر من عائلات قدمت الشهداء والأسرى والجرحى، وتفتح وعيهم على أرض يسرقها المستوطنون واحتلال يقتل مئات الأطفال والنساء والشيوخ دون أن يحاسبه أحد، لا من العرب أو دول العالم، ببساطة في خطابات السلطة ومناصريها إلى "تابعين لإيران".
ويغيب مع هذا الخطاب الذي يبيح كل فعل قمعي ضد مجموعات المقاومة قصص كوادر وأفراد هذه المجموعات، الذين يريد خطاب السلطة إلى مجرد "عناصر تحركهم إيران" لتحقيق أطماعها، رغم أن الحديث عن أطماع في منطقة في الضفة ملهاة تختلط بالمأساة، لكن هذا النزع للفلسطيني من إرادته السياسية وأفكاره النضالية التي تدفعه لمحاولة التحرر من الاحتلال، هو ربما من أخطر ما في الخطابات السلطوية التي تجد لها مناصرين من نخب ومثقفين مقربين من السلطة.
وبدلاً من توجيه الخطابات والحملات الإعلامية نحو العالم لتحميله مسؤولية استمرار معاناة الفلسطيني، بعد أن أقام النظام الدولي دولة "إسرائيل" على أرضه، يتحول شبان حملوا البنادق في محاولة للدفاع عن أرضهم ومناطقهم، إلى مسؤولين عن التدمير الذي يقوم به الاحتلال سواء وجدت المقاومة المادية المسلحة أم غابت.
وبينما ينظم آلاف النشطاء حول العالم تظاهرات تضامناً مع الفلسطيني الذي يتعرض للإبادة الجماعية، تطلق السلطة حملتها الأمنية ضد المقاومين، في مخيم جنين، وتنشر خطاباً يسلبهم من حقهم الذي كفله كل العالم في المقاومة، وتنزع عنهم صفاتهم النضالية لصالح صفة واحدة هي "الخارجين عن القانون"، في مجتمع ما زال يعيش معنوياً وسياسياً على فكرة "الشهادة"، وقد كان كثير من رفاق هؤلاء شهداء أو أسرى أو جرحى، ويصير "القانون" الذي لم تقل أي من مجموعات المقاومة أنها تريد الخروج عليه، سوطاً على مجتمع مهدد بالطرد والترحيل وسرقة أرضه من الاحتلال.
ولشعب يتعرض للإبادة الجماعية والخوف يظلل رأسه من تكرار النكبة فإن الاستنزاف الذي تحدثه (المعارك الداخلية)، التي اتسعت في السنوات الأخيرة، بين قوى المقاومة والمعارضة والسلطة، في الضفة، أبعاد شديدة الخطورة، على مستقبله السياسي والنضالي والاجتماعي.
وهكذا يصبح الفلسطيني مخيراً بين أن يستمر في القبول بالوضع الذي لا يتوقف عن التدهور، ويصبح القبول غير متوفراً في المستقبل، أو أن يتعرض للقمع والحملات النفسية، التي تحمله مسؤولية إجرام الاحتلال بحقه، أو تربطه بـ"إيران"، في مشهد خلفه أصوات القصف الإسرائيلي وهدم المنازل والاقتحامات والاعتقالات، والرصاص الفلسطيني موجهاً إلى صدور فلسطينيين آخرين في حواري وأزقة مخيم ذاق من الاحتلال الويلات وخرج منه آلاف الشهداء والأسرى والجرحى من أجل أمل وحيد بالحرية.
وبدلاً من محاولة الإجابة على الأسئلة المصيرية التي تمس واقع الفلسطينيين، أمام التوحش الإسرائيلي، يصير كل شيء معلقاً على "السيادة" ومحاربة "الخارجين عن القانون" و"المشروع الإيراني"، وتزداد المأساة الفلسطينية بعد أن ضاعت فرص تاريخية لانطلاقة جديدة تستغل الزخم العالمي في التعاطف مع القضية.
وأمام خطاب السلطة عن "العقلانية" وما تسميه "مغامرات المقاومة التي دمرت غزة ولبنان"، كثير من الأسئلة من ناس عاديين لا انتماء تنظيمي مباشر لهم، ومن مثقفين ومحللين وفلسطينيين يرون الواقع كما هو، عن أي مشروع مقابل تحمله السلطة لتعزيز صمود الفلسطيني في وجه الخطر القادم أو القريب من بيوتهم تحمله ميلشيات "فتيان التلال" وسموتريتش وبن غفير ونتنياهو، بعد فشلها المزمن حتى في أصغر الملفات الحكومية، أو في بناء مقاومة شعبية حتى لمواجهة الاستيطان الذي يكاد يصل إلى قلب رام الله، ولا تخفيه العمارات بعد أن أطل من مستوطنة "بيت إيل" حيث يجلس الحاكم الفعلي للضفة باعتراف قادة السلطة أنفسهم.