شبكة قدس الإخبارية

الضفة الغربية: يا حجار صرتِ الحلم

r6gTm (2)
ثائر أبو عياش

 

مع تصاعد الأحداث في غزة بعد السابع من أكتوبر 2023، يتنامى السؤال حول واقع الضفة الغربية، التي بدأت وكأنها غائبة عن المشهد رغم الاشتباكات المتقطعة والاحتجاجات المتناثرة في أزقة مخيمات ومدن وقرى الضفة. ويبقى السؤال الأهم: لماذا لم تتحرك الضفة بالزخم المتوقع أمام حرب تجتاح غزة بكل ضراوتها؟

ولكن قبل الإجابة هناك من يرى أن الضفة ليست غائبة عن المشهد، بل إن حراكها يأخذ أشكالاً تكتيكية مختلفة. الاشتباكات المتقطعة مع الاحتلال في بعض المخيمات والمدن تشير إلى أن النار لا تزال تحت الرماد، وأن حراكاً أوسع قد يشتعل في أي لحظة إذا تهيأت الظروف لذلك.

إذن، الضفة الغربية تحمل رمزية النضال الفلسطيني المتواصل، إذ تروي جبالها وقراها قصصًا من المقاومة والانتفاضات التي شكلت جزءًا أساسيًا من التاريخ الفلسطيني. ومع ذلك، في ظل الأحداث الأخيرة، بدا وكأن الحجر الذي كان يومًا رمزا للثورة، بات اليوم مكبلًا، حبيسًا بين القبضة الحديدية للاحتلال والانقسام الداخلي الذي يعصف بالساحة الفلسطينية منذ عام 2006.

لا يمكن إنكار الأثر الكبير الذي أحدثته سياسات الاحتلال في الضفة الغربية على مدار عقود. تصاعدت حملات الاعتقال، وتزايدت الحواجز العسكرية، وانتشرت البؤر الاستيطانية، مما حول الضفة إلى جغرافيا ممزقة ومحصورة، وتحديداً ما بعد السابع من أكتوبر 2023، كما أن ما تُسمى سياسة "الردع" التي ينتهجها الاحتلال، من خلال الملاحقة الأمنية والاعتقالات الإدارية، تركت أثرًا عميقًا على حركة المقاومة.

الخوف الجماعي من التصعيد حد الانتفاضة الشاملة يسيطر على السكان الذين يعلمون أن أي تحرك واسع قد يجلب عقوبات جماعية، مثل إغلاق المدن والقرى، أو شن حملات عسكرية واسعة كما حدث في مناطق شمال الضفة الغربية في الأشهر السابقة.

وفي سياق ما سبق، لم تكن السياسة الداخلية الفلسطينية أقل قسوة على الحلم الجماعي بالمقاومة. الانقسام بين الضفة وغزة أصبح حاجزًا نفسيًا، قبل أن يكون جغرافيًا، يفصل بين شطري الوطن. السلطة الفلسطينية في الضفة حريصة على تجنب أي تصعيد كبير، وسط ضغوط دولية وإقليمية، وإرادة واضحة للحفاظ على الوضع القائم، وعلى مشاريع السلطة التي أخرجتها من مربع الثورة إلى مربع البدائل ما بعد اتفاق اوسلوا.

هذا الانقسام عزز الشعور بالعجز والإحباط لدى الشارع الفلسطيني، الذي ينظر بعين القهر والظلم إلى مأساة غزة اليومية، ولكنه يدرك في الوقت ذاته القيود الكبيرة المفروضة عليه، والتي بات من الضروري أن يتحرر منها اليوم قبل أي شيء.

في المقابل، تبقى غزة، رغم الحصار والدمار، أشبه بجذوة حلم متقدة. المقاومة هناك تمثل شريان الأمل الوحيد للفلسطينيين، بما فيهم سكان الضفة. مشهد المواجهة هناك يوحي باستمرارية النضال، حتى إن لم يمتد ليشمل كل الأرض المحتلة.

الهتاف الشعبي القديم "يا حجار صرتِ السلاح" يبدو اليوم وكأنه تحول إلى "يا حجار صرتِ الحلم". الضفة التي كانت مهد الانتفاضتين، باتت الآن تحلم بالحراك الذي يحررها من قيد الاحتلال ومن شبح الانقسام، وأن تحذوا حذو غزة عبر إشعال المقاومة بصفتها جزء أصيل وتاريخ من فلسطين التاريخية.

إن الضفة تبحث اليوم عن استعادة تاريخ الاجتياحات، والسواتر الترابية، ومشهد المقاومين المرابطين في أزقة الطرقات، وأغنية يا حجار صرتِ الحلم التي تقول فيها الفنانة جوليا بطرس: ما تخافوا من النار، ما تخافوا من الحديد، أنتوا أصحاب الدار، أنتوا فجر العيد بصدوركن، بقلوبكن، بالغضب اللي عَوْجوهكن، بصدوركن، بقلوبكن، بالغضب اللي عَوْجوهكن، رجعوا الحرية لكل المظلومين، لكل الموعودين، لكل المنسيين"، وأيضاً عن الثورة التي لن يخسروا فيها سوى القيد والخيمة كما كان يقول الراحل جورج حبش.

الواقع الفلسطيني يشير إلى أن الحلم لا يموت، رغم الكبوات. المقاومة الشعبية قد تأخذ أشكالًا جديدة، والإرادة الجماعية قد تعيد ترتيب صفوفها في لحظة مفاجئة، كما حدث في الانتفاضات السابقة عام 1987، وعام 2000، ورغم ما يمر به الواقع الفلسطيني من تحديات، يظل الحلم الوطني متجذرًا في وجدان الشعب، لا يعرف الانطفاء أو الهزيمة. فالفلسطينيون، الذين خاضوا نضالاً طويلاً عبر عقود، برهنوا على أن مقاومتهم ليست مجرد فعل عابر، بل هي حالة مستمرة تُعيد صياغة نفسها مع كل انتكاسة أو ظرف جديد.

الضفة الغربية، برغم قيودها وألمها، تبقى جزءًا أصيلًا من المشروع الوطني الفلسطيني. المشهد الحالي هو انعكاس لظروف قاسية، ولكنه ليس النهاية. فالضفة التي حملت الحجر يومًا قد تعود لتحمل الحلم، رغم كل القيود، لتصوغ مستقبلًا جديدًا في مسيرة الشعب الفلسطيني نحو الحرية والاستقلال، حيث السلوك المقاوم هو فعل تراكمي على مدار التاريخ يتطور حتى يصبح سلوكاً نوعياً، وهذا ما أثبتته التجربة وتحديداً سلوك المقاومة الفلسطينية، التي عاشت تجارب معقدة وصعبة ولكنها نهضت من بين أعواد المشانق، وعلى سبيل المثال يتحدث الكثير من جيل القدماء عن حالة الإحباط واليأس التي أصابت الجماهير الفلسطينية ما بعد نكسة عام 1967، ولكن بعد عام تقريبا جاءت معركة الكرامة في 21 مارس 1968 لتُعيد الروح للثورة الفلسطينية، وتُجدد الأمل بالانتصار من جديد.