دمشق - خاص قدس الإخبارية: لم يكد ثوار سوريا يدخلون دمشق ويحكمون سيطرتهم عليها بعد انهيار النظام السابق بزعامة بشار الأسد، حتى كانت "إسرائيل" تدفع بقواتها نحو احتلال مزيد من الأراضي السورية. في البداية بررت خطوتها هذه، بضرورة أمنية، وهو المبرر الذي ساقته لاحتلال الضفة الغربية، والذي قدمته لشرعنة احتلال أراض إضافية في الأراضي المحتلة عام 1948 بما يخالف قرار التقسيم. تصف "إسرائيل" هذه الأراضي بأنها ارتداد أمني لـ"أراضيها" والسيطرة عليها ضرورة لحمايتها من هجمات الأعداء.
وصل عدد القرى التي احتلها جيش الاحتلال في جنوب سوريا حتى الآن 9 قرى، بالإضافة لقمة جبل الشيخ الاستراتيجية والتي كانت قد انسحبت منها في إطار اتفاق فك الاشتباك عام 1973. وعلى بعد 20 - 30 كم تقف الدبابات الإسرائيلية تبني واقعا جديدا في المنطقة ككل، قد ينسحب على رؤيتها للانسحاب من جنوب لبنان وقطاع غزة. بينما تروّج عبر وسائل إعلامها أن "طوفان الأقصى" خلق لدى مؤسستها العسكرية عقيدة دفاعية جديدة؛ أحد ملامحها منع أي إمكانية لدى العدو للقتال على "أراضيها"، وقتل كل فرصة لهجوم سريع وفتاك كما في جرى في 7 أكتوبر 2023.
وتأتي هذه العملية البرية في داخل سوريا بالتوازي مع هجوم جوي هو الأوسع منذ عقود كما وصفته الصحافة الإسرائيلية، والذي يهدف إلى تدمير مقدرات الجيش السوري. والذي شمل تدمير آلاف الصواريخ الثقيلة، ومركز البحث العلمي في دمشق، الذي كان بمثابة غطاء لتطوير وإنتاج الصواريخ والقذائف، و30 طائرة من طراز ميغ 29، و150 طائرة مقاتلة وهجومية من طرازات ميج 21 وميج 23 وسوخوي 22، و18 طائرة هجومية من طراز سوخوي 24، وحوالي 50 طائرة من طراز Mi-17 لنقل القوات وحوالي 30 مروحية هجومية فرنسية من طراز Mi-24 وGazelle، وأكثر من 100 بطارية من صواريخ SA-5 وS300 بعيدة المدى وصواريخ BUK-M1/2 المتنقلة وFantasy ونماذج أخرى، و15 سفينة حاملة للصواريخ ونحو 20 سفينة حراسة وسفن إنزال.
كل هذه المتغيرات التي أحدثتها "إسرائيل" في سوريا تأتي في ظل انشغال الثوار في ترتيبات الحكم والحراك السياسي العالمي لفهم طبيعة المرحلة الجديدة في سوريا وآليات التعامل معها. ولعلمها بأن الحكام الجدد في دمشق ليس في مقدورهم في هذه المرحلة الرد على الهجمات الإسرائيلية، كثفت "إسرائيل" من خلق الوقائع على الأرض. لكن ثمة أسباب دفعتها بهذا الاتجاه، من بينها؛ قناعتها بأن النظام السابق حتى وإن كان نظريا في حالة عداء معها، إلا أنه ضبط كل إمكانية للعمل ضدها من ساحته، والحرب الأخيرة من أهم وأقرب الأمثلة للواقع. أما الفصائل السورية المعارضة والتي تتبنى أفكارا سياسية مختلفة، فقد يكون من الصعب التنبؤ بنظرتها لإسرائيل، ولهذا ومن منظور الاحتلال يجب إحباط عنصر المفاجأة الذي قد يكلفها كثيرا.
تعتقد النخب الإسرائيلية أن مفاجأة عام 1973 - التي لم تكن مفاجأة حقيقية - فرضت نفسها على العقيدة الأمنية، فلم يعدّ كافيا الاعتماد على المعلومات الاستخباراتية المباشرة لأنها قد لا تسعف المستوى الأمني في فهم الصورة كاملة. ولهذا فإنه من الأفضل التأهب لأسوأ السيناريوهات. لكن "هوس المفاجآت" لم يساعد "إسرائيل" في التعامل مع العقلية الأمنية للمقاومة الفلسطينية، فقد استطاعت كتائب القسام تنفيذ هجوم أكتوبر الذي يعدّ أول ضربة قاتلة لنظرية "الجيش الذي لا يقهر" وفق تعبير غادي أيزنكوت. ولهذا، فإنه من المتوقع أن تغرق كل المستويات الإسرائيلية في عقيدة "الهوس من المفاجأة" وسيترتب على ذلك اتخاذ كل التدابير العسكرية التي قد تحبط أي هجوم مفاجئ.
وعلى مدار العقود الماضية كانت "إسرائيل" تراقب بشكل أساسي تطور القدرات الصاروخية للمقاومة في مختلف الساحات، واعتبرتها هي التهديد الاستراتيجي القادم. حتى أن البعض في "إسرائيل" أطلق عليها "معضلة السماء القادمة". لم تكن الأرض هي المعضلة الأساس من وجهة نظر "إسرائيل" التي كانت تعتقد أن تفوقها الجوي والدفاعي التقني قادر على التعامل مع أي تهديد على الأرض. لكن هذه النظريات أيضا تبخرت مع "طوفان الأقصى"، وهو ما نرى آثاره وتبعاته في التعاطي الإسرائيلي مع الجغرافيا الفلسطينية والمحيطة بفلسطين في السنوات القادمة.
وليس من المستبعد أن تستغل "إسرائيل" الخلفية الفكرية لفصائل المعارضة السورية التي وصلت إلى الحكم، لشرعنة خطواتها العسكرية "الاستباقية" على الأراضي السورية، وقد تكون هذه هي اللغة التي سوف تسوقها في العالم. أما داخليا، يحاول بنيامين نتنياهو أن يتحدث بمنطق الإمبراطور، وكذلك وسائل الإعلام القريبة منه، فتجدها تشير لما يقوم به جيش الاحتلال في سوريا بالتاريخي وغير المسبوق مع نشر صور ومقاطع فيديو لجنود من وحدات عسكرية مختلفة على مشارف دمشق، وأيضا الحديث عن تفكيك المحور الإيراني في المنطقة.
ويشير بعض المراقبين إلى الرؤية التي يتبناها بعض أقطاب الحكومة لدى الاحتلال، وتحديدا؛ أحزاب الصهيونية الدينية، والذين تشير أدبياتهم إلى أن "أرض إسرائيل الكاملة" تضم أجزاء من سوريا ومصر ولبنان. لكن هذه النظريات غير قابلة للتحقيق في الوقت الحالي، ولا هي المحرك الأساسي لاحتلال الأراضي السورية. لكن ثمة طرح أكثر واقعية، هو أن هذا الاحتلال لهذه الأراضي هو بحد ذاته ورقة تفاوض وضغط سوف تستخدمها "إسرائيل" للمشاركة في هندسة الموقف السوري الجديد من القضية بل وهندسة التشكيل السياسي الجغرافي في سوريا وولائاته.