كان استشهاد رئيس المكتب السياسي لحركة حماس يحيى السنوار ملحميا ساهم في ترسيخ اسمه كأسطورة وأيقونة للنضال الفلسطيني من جهة، ومثّل بالتأكيد مرحلة جديدة في معركة طوفان الأقصى، لكن السؤال الأهم الذي طرح نفسه هو ما إذا كان غيابه عن المشهد قد يساهم في وقف الحرب على غزة قريبا.
هذا الادعاء أو هذه القراءة، أي توقف الحرب بسبب غياب "مهندس الطوفان" كما أطلق عليه، بُني على إحدى ثلاث فرضيات؛ الأولى، أن السنوار كان يرأس "التيار المتشدد" في حركة حماس بخصوص التفاوض وشروط وقف إطلاق النار، وبالتالي فغيابه عن قيادتها قد يمهد الطريق لقيادة أكثر مرونة قد تستطيع الوصول لاتفاق لوقف الحرب.
تتجاهل هذه الفرضية، عن عمد، أن السنوار كان جزءا من القيادة التي فاوضت الاحتلال بشكل غير مباشر عبر الوسطاء منذ بداية العدوان على غزة، وأنه كان جزءا رئيسا فيها كقائد للقطاع أولا ثم للحركة لاحقا، وأن القيادة التي هو جزء منها أعلنت في المرحلتين موافقتها على مبادرات لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، بينما رفضها الاحتلال. وتتجاهل هذه الفرضية، عن عمد كذلك، أنه لم يطرأ تغير في موقف حماس بعد اغتيال إسماعيل هنية واختيار السنوار لرئاسة مكتبها السياسي فيما يتعلق بالشروط التي تطالب بها للتوصل لاتفاق، وهي مطالب الحد الأدنى المتضمنة وقفا لإطلاق النار والخروج من القطاع وإدخال المساعدات وإعادة الإعمار وتبادل الأسرى.
ولذلك فمن اللافت أن هذا الادعاء ورد على ألسنة المسؤولين الأمريكيين (والأوروبيين) الداعمين لحكومة الاحتلال في حرب الإبادة التي تشنها على القطاع، وهم في تحميلهم مسؤولية الإخفاق في التوصل لاتفاق لحماس والسنوار تحديدا وإنكارهم رفض الاحتلال لها؛ إنما يستمرون في منح الأخير الغطاء السياسي للمضي في جرائمه، فضلا عن كونها رسائل للداخل الأمريكي توحي بإمكانية التوصل لاتفاق- إنجاز قبيل الانتخابات الرئاسية. وفي العموم، فتصريحات نتنياهو وباقي مسؤولي الاحتلال لا تدعم هذه الفرضية ولا تتحدث عن مسار تفاوض من الأصل.
وأما الفرضية الثانية المرتبطة بالأولى، فتدعي أن رحيل الرجل سيأتي بقيادة أوطأ سقفا منه وأقرب لتقديم تنازلات للاحتلال؛ ليس فقط في مسار التفاوض ولكن حتى ميدانيا. بكلمات أخرى، يرى أصحاب هذه الفرضية أن القائد الجديد لحماس سينظر لمقتل السنوار على أنه الحلقة الأخيرة في سلسلة اغتيال القيادات السياسية والعسكرية للمقاومة، إضافة للضربات والخسائر التي تعرضت لها الأخيرة على مدى عام من الحرب غير المتكافئة، فضلا عن الوضع الإنساني الكارثي للمدنيين في القطاع، فيتجه لقرار "عقلاني" بوقف الحرب من طرف المقاومة، أي الاستسلام ورفع الراية البيضاء بغض النظر عن كيفية تسويق قرار من هذا النوع.
يغيب عن هذه الفرضية أن موقف السنوار ليس مختلفا عن موقف القيادة الحالية لحركة حماس، وأن الأخيرة اختارته بالإجماع رئيسا لها بعد اغتيال هنية؛ ما فُهم على أنه غطاء سياسي للمعركة وتخندق كامل خلفه وخلفها. كما أنها تغفل الصعوبة البالغة في التراجع والاستسلام بعد كل التضحيات التي قدمها الشعب والمقاومة في غزة بما قد يجعلها -أي التضحيات- سدى وبلا ثمن أو مكسب، فضلا عن أن الموقف الميداني للمقاومة أبعد ما يكون عن الفشل والعدمية رغم ما تعرضت له من ضربات.
تتجه التيارات الثورية وحركات المقاومة عموما للثبات والصمود أكثر لدى تغييب قياداتها، فما بالك بالمشهد الأيقوني الأخير للسنوار الذي قد يستحيل معه التراجع عن مواقف الأخير وسقفه في المعركة، فكيف والسقف واحد أصلا كما سبق تفصيله؟! تكون القيادات الجديدة عادة أمام استحقاق إثبات الذات الذي يأتي بالثبات والإنجاز وليس التراجع والاستسلام، وأمانة الثبات على الموقف، ومسؤولية الثأر والانتقام للقائد السابق وكل الضحايا من شعبهم، وهذا ما أكدت عليه كلمات قيادات حماس في تأبين قائدها.
وأما الفرضية الثالثة، التي تستشرف إمكانية وقف الحرب بعد استشهاد السنوار، فهي أن تغييب الرجل هدف كبير يمكن لنتنياهو تقديمه كصورة نصر تمكنه من النزول عن شجرة الحرب، والتوجه لوقفها بادعاء تحقيق الأهداف وفي مقدمتها كسر قوة حركة حماس عبر سلسلة من "الإنجازات"؛ كان آخرها قتل السنوار الذي ارتبط الطوفان باسمه.
هذه الفرضية كانت تكررت أصلا مع اغتيال نائب رئيس المكتب السياسي لحماس صالح العاروري، ثم مع اغتيال رئيسه إسماعيل هنية، ثم مع اغتيال الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، وفي كل مرة أثبت الاحتلال أنه لن يكتفي بهذا "الصيد الثمين" وفق تعبيره لوقف الحرب.
صحيح أن ثمة اختلافا في حالة السنوار، لما يمثله رمزيا ومعنويا وفعليا كقائد لعملية الطوفان فكرة وتنفيذا، ورأس لحركة حماس في غزة ثم عموما، إضافة لقتله بعد عمليات الاغتيال المذكورة بما يمكن عدُّهُ ختما لسلسلة اغتيالات القيادة، إلا أن تصريحات الاحتلال لا تقول بذلك. إذ لم تشر التصريحات التي صدرت بعد إعلان مقتله إلى معنى تحقيق الهدف أو اقتراب نهاية الحرب، وإنما إلى نجاعة نهج القوة والقتل في تغييب قيادات حماس "ما يجعلنا أقرب لتحرير الأسرى" على ما ادعى نتنياهو.
من جهة ثانية، ما زال الاحتلال يهدد بضربة كبيرة لإيران، بل أعلن أن قرارها قد اتخذ بانتظار تحديد ساعة الصفر، وما زال غارقا في الجبهة اللبنانية دون القدرة على التقدم الواسع أو إعادة المستوطنين للشمال. وعليه، فإن الحرب مرجحة للتصعيد لا النهاية في الأفق المنظور، وفق تصريحات الاحتلال وإجراءاته والمعطيات الميدانية والسياسية.
وإذن، ختاما، لا يبدو أن استشهاد السنوار يعني قرب نهاية الحرب على غزة وفي المنطقة عموما، وإن شكل محطة مهمة وانعطافة كبيرة فيها، إذ المرجح أن تتجه الحرب للتوسع في هذه الفترة بانتظار قدوم إدارة أمريكية جديدة. فالغالب أن نتنياهو سيستغل ضعف قدرة بايدن -المغادر يقينا للمكتب البيضاوي- للضغط عليه، وكذلك تجنب هاريس أو ترامب مغامرة انتقاده مع اقتراب الانتخابات الرئاسية، وهو إلى ذلك يرى أن التصعيد في المنطقة يعزز من فرص ترامب الذي يفضّله رئيسا.
ولذا، فسيصر نتنياهو على استمرار الحرب وتوسيعها قدر الإمكان، إذ لا يرى أن وقفها في المرحلة الحالية يمكّنه من ادعاء النصر وتحقيق الأهداف وتأمين "دولة إسرائيل" من الأخطار رغم غياب/تغييب عدوّه الأبرز وقائد المعركة، أي يحيى السنوار.