كانت الانتفاضة الثانية عام 2000 بمثابة سنوات فارقة في تاريخ فصائل المقاومة الفلسطينية، فالاحتلال قام باغتيال عدد كبير من القيادات الميدانية، والعسكرية، وحتى السياسية التي كانت تقود تلك الفصائل، وبدء الاحتلال باغتيال الشهيد أبو علي مصطفى الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، بعد أن تم إطلاق صاروخين على مكتبة في رام لله بتاريخ 27 أغسطس/ آب 2001، ومن ثمَّ أنقطع الحبل الذي يُمسك حبات المسبحة بالنسبة للاحتلال، حيثُ الأخير قام باغتيال العديد من قيادات تلك الحركات سواء في الضفة أو غزة، وعلى رأس تلك الاغتيالات كان الشيخ أحمد ياسين، والذي اُغتيل في 22 مارس/آذار 2022، وبعد ما يُقارب 26 يوماً تم اغتيال الطبيب الثائر عبد العزيز الرنتيسي، وتحديداً في 17أبريل/ نيسان 2002، والأخير تم انتخابه رئيسا للمكتب السياسي لحركة حماس بعد اغتيال الشيخ أحمد ياسين، والذي كان بمثابة الآب الروحي للحركة.
في السياق، يُطرح السؤال التالي: إذا كان الاغتيال سيؤثر على حركات المقاومة، أو تتعرض هذه الحركات للاندثار، هل كان السنوار ذاته استمر في المقاومة؟، وأيضاً هل الاغتيالات تاريخياً تمكنت من تليين موقف الأحزاب والحركات الفلسطينية؟، وهنا يُمكن أن نأخذ على سبيل المثال لا الحصر موقف الجبهة الشعبية بعد اغتيال أمينها العام أبو علي مصطفى، حيثُ قامت الجبهة بالرد عبر اغتيال الوزير المتطرف "رحبعام زئيفي"، وأيضاً استمرت الجهاد الإسلامي رغم اغتيال أمينها العام فتحي الشقاقي، وهناك الكثير من الأمثلة في التاريخ الفلسطيني في سياق سياسة الاغتيالات تُثبت مدى فشل الاحتلال في هذا الجانب، وفي هذا السياق يقول الراحل أنيس النقاش منسّق شبكة الأمان للبحوث والدراسات: " سياسة الاغتيال نجحت فقط مع حركة فتح، ولكنها مع حماس والجهاد فشلت فشلاً كبير، حيثُ هذه الحركات تم تأسيسها على أرضية أيديولوجية، وعقيدة صلبة جداً".
تاريخياً إذن، استخدم الاحتلال أسلوب الاغتيالات في سياق الصراع، وحتى ما قبل النكبة عام 1948، وأيضاً منذ لائحة "غولدا مائير" المعروفة بلائحة "غضب الرب"، وجاءت هذه اللائحة ما بعد عملية ميونخ التي تمت خلال الألعاب الأولمبية في عام 1972، واستمرت هذه السياسة حتى يومنا هذا، والأهم أن المقاومة رغم هذه السياسية ما زالت مستمرة حتى اليوم، والدليل أن المقاومة قامت بعملية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 بعد تاريخ زاخر بعمليات الاغتيال بحق قيادات المقاومة. بالإضافة إلى ما سبق، بعد عام من طوفان الأقصى تمكن الاحتلال من اغتيال السنوار عن طريق الصدفة بحسب إعلام الاحتلال، وما زالت حماس تمتلك في جعبتها الكثير من القيادات، وهنا يبقى السؤال: كم عام يحتاج الكيان لإنهاء حماس؟، وأيضاً كم عام يحتاج إلى تصفية الفصائل الفلسطينية مثل الجهاد والجبهة الشعبية وغيرها من فصائل المقاومة؟
يأتي استشهاد السنوار في ظروف صعبة ومعقدة، ما بعد عملية "طوفان الأقصى"، ويتهم الاحتلال السنوار أنه العقل المًدبر لهذه العملية، والذي كان لافت ما بعد إعلان استشهاد السنوار، أن الإعلام العبري قام بمطالبة حرق جثمانه ونثر رماده في الهواء، وتناولت العديد من الصحف الأجنبية مثل واشنطن بوست، ونيويورك تايمز، وغيرها ظروف استشهاد السنوار وعنونت هذه الصحف في تعليقها على هذه الحادثة بالقول: " موت السنوار فرصة"، وكان هذا العنوان هو بمثابة تحويل الصدفة إلى فرصة بحسب هذه الصحف، ولكن في سياق هذه الصحف تم طرح سؤال مهماً، إذ يقول هذا السؤال: "هل السنوار وحدة العائق أمام إنجاز اتفاق لإنهاء الحرب، وهل نتنياهو ليس عائقا؟".
دحض استشهاد السنوار الرواية التي حاول الاحتلال تسويقها على مدار عملية "طوفان الأقصى"، فالاحتلال ومعه الأمريكي حاولوا توظيف هذه الرواية حتى ما بعد استشهاد السنوار، وذلك من أجل تمرير رواية إنجاز الصفقة المزعومة بخصوص إنهاء الحرب، وهذا دليل على هزيمة الرواية لا انتصارها، وإذا صدقت التصريحات الصادرة يمكن القول: الاحتلال في مأزق، ويحاول البحث عن مخرج لهزيمته، وذلك عبر تحويل صدفة استشهاد السنوار إلى فرصة لتمرير مشروعه المهزوم.
في سياق الرواية، حاول الاحتلال تمرير رسالة مهمة بعد اعلان استشهاد السنوار عبر الإعلام "الإسرائيلي"، وتقول هذه الرواية: أن لا جهد استخباري في هذه العملية، وأن من قام بالعملية هم جنود في فرقة غزة بحسب الصحفي "الإسرائيلي/ أميت سيجال"، ولكن جاءت الصورة بعكس ما تم توظيفه، وأصبحت صورة الصدفة، هي فرصة لنهاية رجل شجاع، وأكثر أعطت هذه الصدفة، صورة نصر لرئيس المكتب السياسي وهو يُقاتل في الميدان، والأهم في منطقة عمليات صعبة ومعقدة في حي تل السلطان.
إذن، هو الجندي المشتبك في خضم المعركة، هذا الجندي الذي ينطبق عليه ما قاله الشاعر الراحل مظفر النواب في قصيدته عبد الله الإرهابي، إذ يقول النواب: "وتشهد أنك قاتلت الغارات، وقاتلت البحر، وقاتلت طوابير الدبابات، وقاتلت خيانات الدبابات الأخرى، وصمدت صمود الأنواء، رشاشك كان وكالة أنباء الثوار، إذا كذبت فيك وكالات الأنباء"، وأيضاً هو الجندي صاحب الموقف، وأكثر جندي الفكرة النبيلة التي لم تمت من قبله رغم كل ما قام به الاحتلال، ولن تموت من بعده بطبيعة الحال، والأهم أن السنوار رغم كل الحزن على استشهاده هو ليس خسارة، حيثُ فلسطين لا تخضع لمبدأ التسعير، والقصد الشهيد لا يخضع لمبدأ الربح والخسارة، والأهم أن عند استشهاد مقاوم علينا ضبط أدرينالين الهزيمة، وعند تحقيق إنجاز علينا ضبط أدرينالين الانتصار، فالقضية هي صراع وجود في حساباتها الاستراتيجية، ولذلك يجب أن يكون الشهيد جدوى مستمرة، والسنوار شهيدا.