خاص - شبكة قُدس: وجه حزب الله ضربة نوعية لجيش الاحتلال بعد أن أغار بمسيرات انقضاضية، كما جاء في بلاغ عسكري، على قاعدة عسكرية في وادي عارة شمال فلسطين المحتلة، وقتل وأصاب عشرات الضباط والجنود.
تحمل العملية التي تأتي في خضم حرب استنزاف قاسية مستمرة، منذ عام، انطلاقاً من قطاع غزة وتطورت في الأسابيع الماضية إلى زخم أوسع وأعقد على جبهة لبنان، عدة دلالات قد تصلح للقراءة والتحليل.
إنجاز استخباري: "نسمع ونرى حيث لا يتوقع العدو"
حملت العملية إنجازاً استخباراتياً في سياق صراع العقول المعقد بين حزب الله وأجهزة أمن الاحتلال، من أبعاد متعددة بينها قدرة أمن وعسكر المقاومة على تحديد قاعدة عسكرية تابعة للواء يعتبر من النخبة "جولاني"، واختيار الزمان والتوقيت المناسب وهو خلال اجتماع الضباط والجنود في قاعة الطعام ثم توجيه ضربة دقيقة لها عن طريق الطائرات المسيَرة.
وهو ما قد يشير إلى امتلاك الحزب معلومات استخباراتية من مصادر متعددة، ربما أكثر من عمليات الاستخبار والتصوير التي ينفذها عبر طائرات الاستطلاع "الهدهد"، وقد أشار في بلاغه العسكري إلى أن القاعدة المستهدفة لا يعلم عنها كثير من المستوطنين.
العملية جاءت بعد ضربات قاسية تلقاها حزب الله بدأت مع الهجوم الإرهابي على أجهزة "البيجر" والاتصالات، ثم اغتيال طيف من قياداته العسكرية التاريخية، وصولاً إلى اغتيال الأمين العام السيد حسن نصر الله، وهي في الأصل تأتي من جهود استخباراتية تجسسية طويلة الأمد مارستها أجهزة الاحتلال، في ساحة لبنان، بالتعاون مع استخبارات من دول مختلفة على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، وقد استغل الاحتلال هذه العمليات في حرب نفسية للتهوين من قدرات أمن المقاومة على التصدي والهجوم، خاصة أنه أكد على أن الاغتيالات طالت قيادات تتولى ملفات أمنية واستخباراتية مثل الشيخ نبيل قاووق.
استخبارات الحزب أكدت على استعادة عمليات القيادة والسيطرة والانتقال من الدفاع في وجه الهجمة الإسرائيلية، إلى تنظيم هجوم في عمق فلسطين المحتلة، عبر عمليات الاستطلاع التي نفذتها عن طريق مسيَرة "الهدهد"، ثم تحديد قاعدة عسكرية على بعد نحو 65 كيلو عن الحدود الفلسطينية - اللبنانية وتوجيه ضربة دقيقة لها.
التنسيق العالي بين الأسلحة
غرفة عمليات المقاومة الإسلامية الجناح العسكري للحزب أكدت، في تصريحات، عقب العملية أنها أطلقت سرباً من المسيَرات الانقضاضية نحو القاعدة العسكرية تحت غطاء من الصواريخ التي أطلقتها بكثافة نحو حيفا وعكا ومواقع أخرى في شمال فلسطين المحتلة، لإعماء منظومات الدفاع الجوي الإسرائيلية المتعددة الطبقات.
تشير عملية الإعماء العملاني والاستخباري التي مارسها حزب الله لضرب القاعدة العسكرية، إلى تنسيق عال المستوى بين مختلف وحداته العسكرية، على مستوى المدفعية والصواريخ والطائرات المسيَرة والاستخبارات والعلاقة بين الميدان والقيادات العسكرية والأمنية، وهو ما يؤكد على استعادة التراتبية القيادية رغم قسوة الاغتيالات التي تعرض لها في الحملة العدوانية الإسرائيلية.
ويمكن الدلالة من العملية على الخبرة التي اكتسبها الحزب، في شهور القتال، وخلال سنوات من التطوير والتجارب في التملص من طبقات الدفاع الجوي التي نصبها جيش الاحتلال، وتطويره طائرات مسيَرة قادرة على الاختراق والوصول إلى الأهداف وضربها.
ضربة وقائية
الحزب قال إن الضباط والجنود الذين استهدفوا في العملية كانوا يستعدون للمشاركة في العدوان البري على لبنان وأن استهداف القاعدة أخرجهم من الخدمة.
تندرج عملية حزب الله في إطار حرب الاستنزاف المستمرة التي يتعرض لها جيش الاحتلال، بداية من عملية "طوفان الأقصى"، التي كان العنوان الأساسي فيها هو استهداف المواقع العسكرية والأمنية في نطاق "فرقة غزة" التي تقود العدوان على غزة، وقد قتل وأصيب لجيش الاحتلال مئات الضباط والجنود من مختلف المستويات والوحدات القتالية، ثم في القتال البري داخل القطاع، والعمليات العسكرية التي نفذها الحزب على الحدود الشمالية، في فترة الإسناد، وفي الأيام الماضية في القتال البري على الحافة الأمامية من الحدود الفلسطينية - اللبنانية، بالإضافة لعمليات قوى المقاومة من العراق واليمن التي استهدفت قواعد عسكرية في مختلف أنحاء البلاد.
هذه الضربة التي موضع حزب الله أحد أهدافها في سياق ضرب القوات قبل توجهها نحو العدوان تنسجم مع حملة القصف الصاروخي والمدفعي التي ينفذها على مواقع جيش الاحتلال الإسرائيلي وتجمعاته في المستوطنات الشمالية منذ بداية انطلاق العدوان البري.
وتحمل رسالة نفسية وهي أن الحزب لا يكتفي بالدفاع بل ينطلق في عمليات هجومية نحو عمق القواعد العسكرية.
ضربة نفسية: لا مكان آمن
كما كانت عملية "البيجر" وتفجير أجهزة الاتصالات ضربة وصدمة من المكان غير المتوقع، جاءت الطائرات المسيَرة اللبنانية لتضرب ضباط وجنود الاحتلال في المكان والزمان غير المتوقع.
ربما أراد الحزب مع العملية العسكرية توجيه ضربة نفسية لضباط وجنود الاحتلال من خلال ضربهم في المكان الذين لا يتوقعون (غرفة الطعام) في الوضع النفسي الذين كانوا يعتقدون أنهم فيه في أمان عال خلال تناول العشاء وما يحمله من أجواء بين الجنود يكونون فيها غارقين في تبادل النكات والكلام والحديث عن الحرب والجبهات.
وتحمل العملية أيضاً رسالة بانعدام الأمن الشخصي للضباط والجنود في مواقع يفترض أن تكون الأكثر أمناً وهي القواعد العسكرية التي عمل الاحتلال، طوال سنوات وجوده في فلسطين، على التأكيد أنها آمنة وحصينة في وجه أي محاولات من أعدائه للمس بهم.
لواء "جولاني" أضافت له هذه الضربة أزمة نفسية جديدة بعد أن فقد عدداً كبيراَ من ضباطه وجنود، في القتال البري، أمام فصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، وأصبحت فكرة أن هذا اللواء من "النخبة" موضع شك يدفع قادته باستمرار لمحاولة إعادة إحياء "الروح القتالية" بين أفراده.
وتؤكد العملية على ما بثه حزب الله، في عدة رسائل إعلامية، على قدرته تنفيذ ضربات في عمق القواعد العسكرية والأمنية واللوجستية لجيش واستخبارات الاحتلال، وهو ما بدأه منذ اغتيال قائد أركانه الشهيد فؤاد شكر من خلال استهداف قاعدة "جليلوت" التي تضم مقرات لوحدة "8200" التجسسية التابعة لجهاز الاستخبارات العسكرية وأخرى لـ"الموساد".
وسعى حزب الله عبر العملية لكسر "الغطرسة"، كما جاء في بيانه، وحالة النشوة التي أصابت دولة الاحتلال من رئيس الحكومة إلى المستوطنين، وهو ما حملهم على تهديد المنطقة كاملة بأن التغيير قادم لحملها على "الزمن الإسرائيلي"، حتى أصبح نتنياهو يهدد دولاً كبرى في الإقليم مثل إيران ويوجه رسائل لشعبها بأن "إسرائيل قادمة لتحريركم من النظام"، كما جاء في بيانه.
وفي هذا السياق، يأتي وصول طائرة مسيرة إلى قاعدة عسكرية وضربها مع المشاهد التي تسربت عبر وسائل الإعلام الإسرائيلية للجنود والضباط وهم في حالة ارتباك شديدة وصدمة والجرحى أمامهم على الأرض، لتوجيه هزة جديدة لفكرة قدرة منظومات الدفاع الجوي على حماية المستوطنين والجنود، خاصة بعد أيام من نجاح حزب الله في إطلاق سرب مسيرات نحو ضواحي "تل أبيب"، وكان لمشاهدها وهي تحلق فوق المباني تأثير نفسي كبير خاصة أن دولة الاحتلال بنت طوال سنوات وجودها في المنطقة نظرية نفسية تقول إن سلاح الطيران فيها هو وحده القادر على الضرب وتغطية رؤوس العرب والفلسطينيين بالقنابل والصواريخ وقتلهم في قلب بيوتهم ومزارعهم وأماكن عملهم وتدمير جيوشهم كما في حرب 1967.
وكانت الرسالة التي وجهها للمستوطنين بعدم الاقتراب من القواعد العسكرية لجيش الاحتلال، ذات أهداف متعددة في سياق الحرب النفسية والإعلامية، بعد أوامر الإخلاء القسري التي وجهها الاحتلال لأهالي جنوب لبنان والبقاع والضاحية، ورداً على حملة إعلامية إسرائيلية ومن وسائل إعلام عربية ولبنانية محلية معادية للمقاومة زعمت أن الحزب "حول المناطق المدنية إلى مخازن للسلاح"، وهو ما رد عليه الحزب بصور مسيرته الاستطلاعية "الهدهد" التي أظهرت استخدام جيش الاحتلال مؤسسات مدينة بينها جامعة حيفا في أعماله الحربية والعدوانية، وأكد في رسالته للمستوطنين على أن الاحتلال هو من يستخدم البنية التحتية المدنية في سياق عسكري، حيث لا شيء غير مرتبط بالحرب في "إسرائيل"، وربما حاول بث التوجس والخوف في نفوس الإسرائيليين من أن القواعد العسكرية لم تعد مصدر أمان لمجتمع يعيش الخوف العميق بعد السابع من أكتوبر، بل قد تكون سبباً في القتل أو الإصابة خلال عمليات المقاومة.
مقاومة تتعلم
ورغم الفوارق الهائلة على المستوى التكنولوجيا بين جيش الاحتلال الذي يقف على أبواب مخازن أقوى دولة في العالم وقوى المقاومة المحاصرة والملاحقة والمراقبة من عشرات أجهزة الاستخبارات، استطاعت باستخدام أدوات مثل الطائرات المسيَرة التي صارت أحد أسلحة المستقبل توجيه ضربات في العمق كانت لسنوات غير قادرة عليها لأسباب لوجستية وجغرافية وأمنية وعسكرية.
تشير تقديرات الاحتلال إلى أن الحزب استطاع بناء طريق جغرافي يمنح طائراته المسيَرة القدرة على التملص من أنظمة الرادار والدفاع الجوي الإسرائيلية والوصول بها إلى الهدف المقصود، وهو ما يؤكد على أن المقاومة تقف خلفها مؤسسة متكاملة تتعلم وتستفيد من الإنجازات والخيبات، ولديها قدرة على تحليل الميدان الجغرافي ودراسة جيش الاحتلال ومنظوماته الأمنية والعسكرية.
وتؤكد عمليات حزب الله، في الأيام الماضية، على مستوى المواجهة البرية وتكبيد جيش الاحتلال خسائر فادحة في الأفراد والمعدات خلال القتال في القرى الأمامية، وعمليات القصف الصاروخي تجاه عمق فلسطين المحتلة، واستهداف القاعدة العسكرية الليلة الماضية، على أن البناء التنظيمي الذي طوره خلال عقود من الصراع بالاستفادة من وجود أجيال من الرعيل الأول فيه واصلوا في العمل بعد مرحلة التحرير، منحه قدرة التشافي السريع نسبياً والاستمرار في نسق عسكري يحرم الاحتلال من الاستفادة القصوى من عمليات الاغتيال.
وتندرج العملية في سياق الاستراتيجية العامة التي تحكم العمل العسكري في الحزب، وهي العمل على بناء قدرات تتيح له توجيه ضربات نوعية للمنظومات العسكرية والأمنية والتنظيمية في جيش الاحتلال، بهدف إنهاك قواه وتهشيم قدراته على الإيذاء والعداون، في سياق أن المؤسسة العسكرية هي تمثل مركز الحياة الإسرائيلية، والإبقاء على خيار ضرب المستوطنين الذين يصنفهم العالم والإعلام على أنهم (مدنيون) إلى مرحلة أخرى من الحرب يكسر معها زخماً أكبر من العدوان، في ظل تقديراته أن الحرب طويلة وقد تستمر لأعوام.
ضربات تكتيكية في حرب استراتيجية
يحاول كل طرف في الحرب المستمرة في المنطقة توجيه ضربات تحقق له نتائج استراتيجية يستثمرها سياسياً على كل المستويات، في النهاية.
تسعى دولة الاحتلال إلى استغلال ضرباتها التي وجهتها لجسم المقاومة لإحداث تغيير استراتيجي على مستوى المنطقة، يخدم مشروع منع نهوض أي حركة عربية أو إسلامية على المستوى الشعبي أو الرسمي في المستقبل تسعى لتحرير فلسطين وتحقيق مشروع الاستقلال والتنمية عن الهيمنة الأمريكية والغربية.
وفي القلب من استراتيجية الاحتلال يأتي استهداف المدنيين والأطفال والنساء كأداة في حربها لتحطيم فكرة المقاومة، بالإضافة لتدمير الحياة الفلسطينية وتحويل المدن والمخيمات والقرى إلى "خرائب"، تخدم أحلام السياسيين الإسرائيليين من مختلف الأحزاب وعلى رأسها "الصهيونية الدينية" لــ"إسرائيل" أبعد من مساحة فلسطين إلى الدول العربية.
بدأت المقاومة الفلسطينية المعركة في سياق متعدد الطبقات: تحطيم الحصار على غزة، تحرير الأسرى، منع مشروع تدمير المسجد الأقصى، تثوير الحالة الفلسطينية في مواجهة الاستيطان ومخطط السيطرة على الضفة والقدس، إعادة القضية الفلسطينية حية في الأوساط العربية والإسلامية والدولية، دفع القوى العربية إلى الانخراط في المواجهة.
دخلت المقاومة اللبنانية ثم العراقية واليمنية المعركة تحت شعار الإسناد، وأعلن الأمين العام لحزب الله الشهيد نصر الله في خطابه بداية المعركة إن "سقوط المقاومة الفلسطينية في غزة والقضاء عليها غير مقبول"، ثم مع شهور القتال اندفع جيش الاحتلال نحو حملة عدوانية في الشمال تتجاوز الاشتباك الميداني المباشر الذي قد ينتهي بالتوصل إلى اتفاق تهدئة في غزة، إلى عناوين استراتيجية تتعلق بطموحات منع حزب الله كقوة مقاومة من الاستمرار في الوجود.
وفي المرحلة الجديدة هذه أعلن حزب الله أنه يستعد لحرب استنزاف طويلة تحرم الاحتلال من تحقيق أهدافه الاستراتيجية وتخدم المشروع الذي بدأته معركة طوفان الأقصى وهو تغيير وجه المنطقة لصالح المشروع التحرري العربي والإسلامي في تضاد ومواجهة مع الشعار الأمريكي - الإسرائيلي لمنطقة خاضعة.
وتأتي الضربات التكتيكية المتبادلة لتحقيق أهداف سياسية وأمنية ونفسية في سياق حرب استراتيجية واسعة قد تستمر لسنوات ويكون شكل المنطقة بعدها ليس كما كان قبلها.