لم يمضِ عام على عملية طوفان الأقصى وما تلاها من حرب على غزة، حتى اتسع العدوان الصهيوني ليشمل عدة دول في المنطقة، متجاوزًا كل الخطوط الحمراء في حرب الإبادة التي يشنها على الشعب الفلسطيني وداعميه. لم يميز هذا العدوان بين عسكريين ومدنيين، أو بين منشآت عسكرية ومدنية، مستهدفًا المقاتلين والقيادات السياسية، كان آخرهم الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، وعدة قيادات أخرى، في رسالة واضحة بانعدام الضوابط أو الخطوط الحمراء في حربه الدموية.
يتزامن ذلك مع انتشار البروباغندا الإسرائيلية التي تجد صدى لدى عديد من أعداء إسرائيل الذين يقاومون وجودها، كل لأسبابه الخاصة. لكن المشكلة تكمن في أن تكرار هذه الدعاية من قبل بعض النخب والمحللين والقيادات السياسية دون الانتباه لتأثيراتها السياسية والإعلامية، قد يخدم في النهاية الدعاية الإسرائيلية نفسها، ويسهم في تعزيز السردية الصهيونية التي تركز على فكرة أن إسرائيل هي الضحية، محاولين احتكار هذا الدور في الضمير العالمي، وفي الوقت نفسه تصوير الفلسطينيين والمسلمين كمعتدين متوحشين يشكلون تهديدًا لليهود وكيانهم.
الاحتلال إلى زوال حتمًا.. ولكن
لا يختلف المؤمنون بالحق الفلسطيني وعدالة قضية فلسطين على أن مصير الاحتلال حتمًا إلى زوال، وأنه لن يكون استثناء تاريخيًا، فهذه قاعدة لم تُخالف في أي من بلدان العالم، وباستثناء مناطق العالم الجديد الذي تمت فيه إبادة الشعوب الأصلية بشكل شبه كامل، كالولايات المتحدة الأميركية، لم يبقَ شعب على وجه الأرض يخضع للاحتلال بشكل دائم.
يضاف إلى ذلك أن هذا الاحتلال يفتقد للحق في الأرض التي يحتلها، وهو لا ينتمي للمنطقة ولا يربطه بها أي رابط حضاري أو فكري أو قومي، فجمهوره خليط من القوميات والثقافات والجنسيات المختلفة. كما أن موقف الشعب الفلسطيني القاطع في رفضه الاحتلالَ والإصرار على مقاومته، وخصوصية أرض فلسطين لدى الشعوب العربية والإسلامية، عاملٌ حاسمٌ في عدم وجود مستقبل للاحتلال على أرض فلسطين.
وقد فاقم سلوكه المتوحش منذ تأسيسه حتى اليوم حالة العداء له، ليس من قِبل الشعب الفلسطيني، فحسب وإنما من قبل كل شعوب المنطقة العربية والإسلامية، بل إن هذا العداء يتنامى اليوم، بفعل حرب الإبادة الجماعية التي ينفذها في قطاع غزة، بين شعوب دول كثيرة طالما دعمته وبالذات الدول الغربية.
ذلك لا يعني أن نغفل عن الأهداف الإسرائيلية من كثرة الحديث عن الخطر الوجودي الذي تتعرض له، فرغم ما قد يبدو أنه تعبير عن الشعور بعمق المأزق، والخوف الدائم على المستقبل، فإنه يهدف أيضًا إلى:
أولًا: ترسيخ فكرة المظلومية والاضطهاد: يحاول الكيان الصهيوني بخطابه الذي يركز على الخطر الوجودي احتكارَ صورة المضطهد في العالم، وربطها بما يسميه "الشعب اليهودي" وما تعرض له اليهود في ألمانيا على يد النازية، بل ويستذكر كل المحطات التاريخية التي تعرض فيها اليهود للاضطهاد، كالذي حدث في روسيا القيصرية، وإسبانيا، وغيرهما، ويركز على أن الكيان هو المكان الآمن الوحيد لليهود الذي يجب حمايته بكل السبل الممكنة، وأن على العالم أن يساعده على ذلك، وبالذات الجهات التي يتهمها بأنها ساهمت في هذا الاضطهاد، أو تؤمن بفكرة الخلاص.
ثانيًا: تبرير التوحش والجريمة: تستثمر إسرائيل وجيشها في بروباغندا الخطر الوجودي والمظلومية في تبرير التوحش الذي تمارسه، والجرائم التي ارتكبتها وما زالت، وكان آخرها حرب الإبادة الجماعية في غزة، وتحاول إعطاء الانطباع بأنها تفعل كل ذلك؛ لأن خطرًا وشيكًا على وجودها قائم، وأن من تمارس بحقهم كل هذا القتل والتدمير والإبادة يشكلون خطرًا عليها. وعليه فكل ما تقوم به مبرر؛ لأنها تدافع عن وجودها.
ثالثًا: صفرية الصراع؛ "وجود أو فناء": تتبنى إسرائيل، وبالذات حكومتها الحالية الفاشية، نظرية انعدام الحلول الوسط مع الفلسطينيين، وأنه لا خيار سوى تصفية الوجود المادي الفلسطيني على أرض فلسطين.
والحكومة الحالية، تعتقد بأن الوقت قد حان لـ "حسم الصراع"، وإنجاز ما لم يتم إنجازه في العام 1948 من خلال طرد أو إخضاع من بقي من الفلسطينيين داخل حدود فلسطين التاريخية، ويتم التنظير بأن هذه الجغرافيا "فلسطين"، لا يمكن أن تتسع سوى لطموح وطني لشعب واحد، وهو من وجهة نظرهم "الشعب اليهودي".
`وعليه لا بد من دفع الفلسطينيين لليأس من إمكانية تحقيق طموحاتهم الوطنية في فلسطين. وهم يحاولون ذلك بتكثيف الجرائم والقتل والتدمير، وصولًا إلى الإبادة الجماعية، ولتغطية كل ذلك يستخدم شبح الخطر الوجودي أيضًا.
رابعًا: استجلاب الدعم: يدرك قادة الكيان منذ تأسيسه أن المنطقة لن تسلّم بوجود كيانهم، وأن الشعب الفلسطيني لن يخضع لمخططات التهجير أو الخنوع، وسيستمر في المقاومة حتى نيل حقوقه، وعليه فالبيئة المحيطة بالكيان معادية دومًا، ولن ينعم بالأمن أو الاستقرار، ورغم التطبيع الرسمي لعدد من الدول العربية، فإن ذلك لم يغير شيئًا من نظرة الشعوب للكيان، ورفضها وجودَه، واعتباره خطرًا يتهدد مستقبلها، وهو ما تعبر عنه الشعوب في كل فرصة تسنح لها.
هذا الواقع يعني أن الكيان، ونظرًا لضعف قدراته الذاتية حتى وإن امتلك قنابل نووية، يحتاج للرعاية والدعم الخارجيَين الدائمين، وبالذات من الدول التي أنشأته ورعته كمشروع وظيفي خاص بها، مستخدمة جملة من الحجج والمقولات الزائفة؛ لتبرير هذه الرعاية، واعتبار الكيان الملاذ الآمن الوحيد لهم، وعليه فحمايته والحفاظ على وجوده أمر ليس ذا أهمية كبيرة فقط بل هو "أخلاقي" أيضًا. لذلك نجد هذه الدول تتسابق فيما بينها للتعبير عن دعمها ورعايتها للكيان المهدد، فيما يستمر هو في رسم صورة الضحية والحديث عن الخطر الوجودي.
خامسًا: تعزيز التضامن الداخلي: تستخدم الحكومات الإسرائيلية نظرية التخويف والفوبيا الدائمة من المستقبل؛ لتعزيز التضامن الداخلي في المجتمع الإسرائيلي من خلال الشعور الدائم بالمصير المشترك، وتستمر بتغذية خوفهم من المستقبل والخطر الوجودي الذي يتهددهم؛ لضمان استمرار هذا التضامن، والوقوف خلف سياسات الحكومة، لا سيما العدوانية منها.
تزداد هذه النظرية أو الإستراتيجية أهمية في مجتمع ممزق ويعاني من تنوع عرقي وقومي كبير، ويفتقد للمشتركات التاريخية والثقافية والحضارية، ولا يجمع أعضاءَه، بالإضافة لخرافاته التاريخية، سوى الخوف الذي رافقهم من الماضي، وما زال يسكنهم حتى اليوم.
يساند ذلك حقيقة أن الانتماء الوطني للجغرافيا التي يعيشون فيها غير حقيقي، ويتجلى ذلك في الهجرة العكسية كلما حدثت أزمة أو حرب، وكذلك عزوف غالبية اليهود عن الهجرة إلى فلسطين المحتلة، رغم مرور كل هذا الوقت على إقامة "إسرائيل"، فعدد اليهود في الولايات المتحدة وحدها يعادل اليهود في فلسطين المحتلة.
وعندما تضعف مغريات (أرض العسل واللبن) والحياة الرغيدة نتيجة الحروب والتحديات المستمرة، يعاد تضخيم فكرة الخطر الوجودي؛ لضمان استمرار التضامن والوحدة الداخلية.
آن الأوان أن (تُقلب)، وبشكل أدق أن تُعدّل، الرواية لتكون على حقيقتها، وأن يتم الحديث عنها بشكل واضح وصريح، بأن الشعب الفلسطيني هو المهدد وجوديًا، وهو الذي استهدف وجوده على أرضه منذ ما يزيد على مئة عام، وأن الاحتلال الصهيوني هو الخطر الوجودي الحقيقي، ليس على الفلسطينيين فحسب، بل وعلى العديد من شعوب ودول المنطقة
الخطر الوجودي.. مَن يهدد مَن؟
القراءة المتأنية للمشهدَين: الدولي والإقليمي وللمعطيات الخاصة بدولة الاحتلال وأعدائها، تشي بواقع مغاير لما يحاول الاحتلال الترويج له، كما أنها تنفي فكرة التهديد الوجودي للاحتلال في هذه المرحلة على الأقل، وتؤكد أن كل ما يدعيه الاحتلال يأتي في إطار البروباغندا والتضليل السياسي، وذلك للاعتبارات التالية:
الاستقرار النسبي في المشهد الدولي وموازين القوى فيه والتي ما زالت تلعب لصالح الاحتلال، وبالذات في مواجهته مع قوى المقاومة، إذ لا تكاد تجد قوة دولية وازنة تعارض بشكل جاد، ناهيك عن أن تكون معادية، سياسات الاحتلال الإجرامية بحق الفلسطينيين، ولا تزال الدول التي يعول عليها لتحدث توازنًا في المشهد الدولي، وبالذات روسيا والصين، مترددة أو تنأى بنفسها عن التدخل في الحرب الدائرة، لا بل إن بعضها يعتبر داعمًا بشكل أو بآخر للكيان.
استمرار الرعاية الغربية، وبالذات الأميركية، الكاملة وغير المشروطة للكيان، وتقديم كل الدعم اللازم له بمعزل عن بعض التباينات السياسية مع حكومته.
هذه الرعاية لا تقتصر على الدعم العسكري اللامحدود، والتعهد الدائم بحماية إسرائيل والدفاع عنها، بل تتعداهما إلى الإسناد السياسي ومساعدتها في إنجاز أهدافها من الحروب التي تخوضها، وتعويض ما لا تستطيع أن تنجزه عسكريًا بمنجزات سياسية تعمل الولايات المتحدة على فرضها على الأطراف المختلفة في المنطقة.
استمرار فاعلية الوظيفة التي أقيم الكيان من أجلها. فالقوى الاستعمارية التي أسست الكيان وحددت الجغرافيا التي ينبغي أن يقام عليها، وضمنت له الاستمرار والبقاء حتى اللحظة؛ لكي يخدم رؤيتها الاستعمارية والإمبريالية في المنطقة، ما زالت تتصرف كقوى استعمارية، وما زالت تنظر للمنطقة العربية والإسلامية بذات النظرة، وهي تعتقد بأن الكيان ما زال أداة استعمارية حيوية بالنسبة لها.
وعليه فالمحافظة عليه ودعمه وحمايته ضرورة ومحل اتفاق بين هذه القوى، إلى حد أن الدولة الكبرى والأهم بين هذه الدول، الولايات المتحدة الأميركية، ما زالت وفق ما جاء على لسان رئيسها الحالي جو بايدن، تعتقد بأنه لو لم تكن إسرائيل لكان عليها اختراع إسرائيل.
ضعف الموقف العربي والإسلامي الرسمي العام، مع التباين في مواقف الدول، سواء من الكيان الصهيوني بشكل عام أو من ممارساته وسياساته العدوانية.
فالدول العربية والإسلامية، باستثناء إيران ومجموعة من القوى والحركات ما دون الدولة، تلتزم منذ أمد بموقف سلبي تجاه الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي، وقد نأت معظم هذه الدول بنفسها عن التدخل المباشر في الصراع، وحافظت على مواقف سياسية غير مؤثرة على مسار الصراع.
ومما يزيد الموقف ضعفًا التسارع الكبير في التطبيع الرسمي، وبالذات العربي، مع دولة الاحتلال، وكذلك انهيار عدد من الدول العربية الوازنة بعد أن غرقت في حروب داخلية مزقت فيها الجغرافيا والشعوب.
التفوق العسكري النوعي، حيث تتفرد دولة الاحتلال بامتلاك أحدث الأسلحة المصنعة غربيًا، الأميركية منها بالذات، بالإضافة لترسانة نووية كبيرة لا يعلم أحد حجمها الحقيقي.
إذ لم تكتفِ الدول الغربية بتوفير الحماية للكيان بل زوّدته بكل أسباب القوة العسكرية وأدواتها، فقامت فرنسا ببناء مفاعل نووي للكيان مكّنه من تصنيع عدد غير معلوم من القنابل النووية، واستمرت الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية في تزويده بأحدث الطائرات والصواريخ والمعدات العسكرية، فضلًا عن الدعم الأمني والاستخباري اللامحدود.
بناء على كل ما سبق، لا ينبغي أن ينطلي على الفلسطينيين، وكل من يساندهم ويدعمهم، الدعاية الإسرائيلية حول الخطر الوجودي، ولا بد من وضع الأمور في نصابها الصحيح، فالفلسطيني هو المهدد وهو المظلوم وهو ضحية للاستعمار القديم والحديث، ووجوده على أرضه في خطر حقيقي، وهو من هُجّر ما يزيد على نصفه من أرضه، ولا يزال نصفه الآخر يتعرض لخطر التهجير، أي الخطر الوجودي، في ظل التهديد العلني والمتكرر من الحكومة الفاشية للاحتلال بذلك.
آن الأوان أن (تُقلب)، وبشكل أدق أن تُعدّل، الرواية لتكون على حقيقتها، وأن يتم الحديث عنها بشكل واضح وصريح، بأن الشعب الفلسطيني هو المهدد وجوديًا، وهو الذي استهدف وجوده على أرضه منذ ما يزيد على مئة عام، وأن الاحتلال الصهيوني هو الخطر الوجودي الحقيقي، ليس على الفلسطينيين فحسب، بل وعلى العديد من شعوب ودول المنطقة