خاص - شبكة قدس الإخبارية: تشهد منطقة شمال الضفة المحتلة حملة عسكرية إسرائيلية تستهدف مدنها ومخيماتها وأريافها، بعد سلسلة من التحريضات الإسرائيلية ضدها باعتبراها نقطة تمركز العمل العسكري المقاوم في الضفة، والذي تصاعد بها منذ عام 2021 حتى يومنا هذا دون انقطاع أو توقف.
وجيش الاحتلال الذي يعيث في هذه المنطقة فساداً اليوم، على دراية تامة بطبيعة هذه المنطقة وما تحمله من إرث نضالي، وقد خبره عن قرب قبل أكثر من 22 عاماً في أضخم اجتياح عسكري للضفة والذي يُعرف باسم "السور الواقي"، حيث واجه جيش الاحتلال في حينها قتالاً ضارياً في جنين ومخيمها والبلدة القديمة في نابلس ومخيم بلاطة، إضافةً لمحافظة طولكرم.
وقبل أن يُطلق على الضفة الغربية هذا المسمى، وقبل سيطرة الاحتلال الإسرائيلي عليها، عُرف عن هذه المنطقة (شمال الضفة) مقاومتها العنيفة لأفراج الغُزاة على مدار التاريخ، وإصرار سُكانها على القتال والتصدي، وأُطلق مصطلح الضفة الغربية على المنطقة الوسطى من فلسطين، بعد الاحتلال الإسرائيلي عام 1948 وبقاء هذه المنطقة تحت الحكم الأردني وهو مصطلح سياسي، نُسلط الضوء في هذه المادة على التاريخ النضالي لهذه المنطقة منذ القرن التاسع عشر حتى يومنا هذا.
جبال النار
بعد تُقدم نابليون بونبارت على رأس الحملة الفرنسية والتي اجتاحت مصر واستكملت طريقها إلى فلسطين، أشعل سكان جنين ونابلس النيران بالأحراش الكثيفة المترامية على سفوح الجبال المترامية هناك، لصد تقدم الجيش الفرنسي، ثم اشترك سكان المدينتين مع جنود الدولة العثمانية بالانقضاض على الجيش الفرنسي حتى دارت معارك عنيفة في تلك المنطقة، انتهت بسيطرة جيش نابليون الذي أمر بحرق مدينة جنين ونهبها وقتل أكبر عدد من السكان، كذلك مدينة نابلس وريفها، ومنذ ذلك الحين أُطلق على سلسلة الجبال الواقعة بين نابلس وجنين اسم جبال النار.
وعلى الرغم من انتصار الحملة الفرنسية في المنطقة الوسطى من فلسطين، ثم انكسارها على أسوار مدينة عكا، حمل الفلسطينيون في هذه المنطقة لواء المقاومة منذ ذلك الحين، فكان لهم السبق في تنظيم أولى المجموعات السرية التي تنبهت لخطورة الانتداب البريطاني بعد فرضه على فلسطين عام 1918، ثم التدرج بمواجهة المشروع الصهيوني وقتال الإنجليز.
قبلة القسام بالجهاد والاستشهاد
بعد السيطرة البريطانية على فلسطين، ارتحل العالم الأزهري والشيخ عز الدين القسام إلى فلسطين، وبدأ بمسيرته الدعوية في كافة أرجاء فلسطين إلى جانب مكوثه بمدينة حيفا، والتردد باستمرار على منطقة جنين، والذي لقي بها القبول من سكانها ونسج مع العديد منهم علاقات صداقة، ستكون وقود الثورة القادمة.
بدأ الشيخ القسام بتوعية الناس في أمورهم الدينية والاجتماعية، ثم تنبيههم إلى خطورة المشروع الصهيوني الذي يُحاك في فلسطين، فبدأ بانشاء خلايا عسكرية قام بتدريبها وتزويدها بما استطاع من السلاح وكان ذلك في عشرينيات القرن الماضي، وكان الوجود الأبرز لهذه المجموعات في ريف مدينة جنين، وبدأت هذه المجموعات بشن هجمات على المستعمرات اليهودية وتخريبها، ومهاجمة مصالح حكومة الانتداب البريطاني وتخريب مخططاها، إضافةً إلى ملاحقة وإعدام العملاء وسماسرة الأراضي ومسربيها إلى الحركة الصهيونية، غير أن خطوط التنظيم السري الذي أنشأه القسام قد كُشف بعد إحدى العمليات عام 1935، وتعرض الشيخ وعصبته لرحلة مُطاردة، إلى حين حصاره في أحراش قرية يعبد قرب جنين من قبل الجيش البريطاني، وقد دارت معركة عنيفة هناك أدت لاستشهاد الشيخ ورفاقه هناك.
شرارة الثورة الفلسطينية الكبرى
كان الشيخ فرحان السعدي من قرية المزار قضاء جنين الذراع الأيمن للقسام، وقد عكف على الاستمرار ما بدأ به مع رفيقه الشهيد، وبعد حادثة استشهاد القسام بشهور، نفذ السعدي عملية إطلاق نار بتاريخ 15 نيسان 1935 على طريق نابلس – طولكرم قرب قرية بلعا، وقد أدت لمقتل اثنين من المستوطنين اليهود، وكانت هذه العملية بمثابة الشرارة الأولى للثورة الفلسطينية الكبرى، التي انطلقت من المنطقة التي تٌسمى الآن "شمال الضفة".
وبعد هذه العملية بشهر واحد، نفذ الثوار كمين محكم ضد قافلة للجيش البريطاني بين منطقة نور شمس (مخيم نور شمس حالياً) وبلدة عنبتا، وقد قُتل بالمعركة 9 من الجنود الإنجليز، فيما كان بداية تنظيم الإضراب الكبير من مدينة نابلس وامتد منها إلى كافة المدن الفلسطينية.
فيما كان لمدينة طولكرم النصيب بالمعركة الثانية من معارك الثورة وهي معركة عنبتا في حزيران 1936، والتي اشترك بها ثوار منطقة طولكرم وقد أصابوا 3 طائرات من طائرات الجيش البريطاني المشاركة بالمعركة وقد هبطت اضطراراً بعد إصابتها فيما أصيب العديد من الجنود الانجليز.
فيما دارت معركة عزون قرب قلقيلية شمال الضفة ومعركة عصيرة الشمالية قرب نابلس، ومعركة قرية جبع في أيلول 1936 قضاء جنين والتي أحرق بها الثوار طائرة انجليزية ودمرت عدة مصفحات واستمرت المعركة 6 ساعات متواصلة.
تعكس هذه المعارك وغيرها الثقل النضالي التي شكلته منطقة شمال الضفة أبان فترة الاحتلال البريطاني وشراسة المعارك التي دارت في المنطقة، وفي عام 1938 تم اغتيال أحد الضباط الانجليز في مكتبه بمدينة جنين، على إثر ذلك شن الجيش البريطاني حملة عقوبات جماعية ضد المدينة، نُسف بها رُبع بيوت المدينة بالمتفجرات، إضافة لقصف وتدمير مساحة واسعة من المدينة في معارك النكبة عام 1948 والتي فشلت بها العصابات الصهيونية من احتلال المدينة بعد قتال عنيف مع سكانها والجيش العراقي.
شمال الضفة وقتال الاحتلال الإسرائيلي
بعد سيطرة الاحتلال الإسرائيلي على الضفة المحتلة، بدأت أولى محاولات مقاومة الاحتلال من هذه المنطقة، بعد تنظيم العديد من الخلايا العسكرية لحركة فتح والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وقد وصف رئيس جهاز الشاباك السابق يعقوب بيري، والذي حمل رتبة الضابط المسؤول عن منطقة نابلس عام 1968 بأنها كانت المنطقة الأشد خطورة بسبب انتشار الخلايا العسكرية التي استهدفت دوريات الاحتلال بالقنابل محلية الصنع في مدينة نابلس، وانتشار هذه المجموعات في البلدة القديمة في نابلس، إضافة لمكوث المجموعات الفدائية التي تسللت من الأردن في قرية بيت فوريك شرق المدينة.
ووصف بيري صعوبة تلك الفترة بانتشار خلايا الفدائيين من نابلس إلى باقي منطقة شمال الضفة في طولكرم وقلقيلية وجنين، إضافة للمحاولات المستمرة بتنظيم الاحتجاجات والعصيان المدني ضد الاحتلال.
ودارت في هذه المنطقة العديد من المعارك بين جيش الاحتلال والفدائيين أبرزها معارك بيت فوريك الثلاثة بين عامين 1968 – 1970، ومعركة النقار التي وقعت في عام 1969 بين قريتي جماعين وإسكاكا قرب سلفيت شمال الضفة.
شمال الضفة والانتفاضتين
لم تمضي ساعات على اندلاع أحداث الانتفاضة الأولى في مخيم جباليا بقطاع غزة يوم 8 كانون أول 1987، حتى انطلقت شرارتها في الضفة من أزقة مخيم بلاطة شرق نابلس ثم انتشار أحداثها في نابلس والمناطق المجاورة.
ودارت أعنف أحداث الانتفاضة في منطقة شمال الضفة، في حين كان السبق لهذه المنطقة بتأسيس الأذرع العسكرية للفصائل كالفهد الأسود وكتائب القسام والنسر الأحمر، وشهدت المنطقة مرحلة "عسكرة الانتفاضة" مطلع التسعينيات في حين طورت هذه الأذرع من عملياتها ضد الاحتلال وتصفية العملاء.
وشهد شمال الضفة الروافد الأولى لتأسيس العمل العسكري المقام من مختلف الفصائل على يد ثلة من الشهداء منهم يحيى عياش وناصر البوز وعصام براهمة، فيما خرجت أولى العمليات الاستشهادية لكتائب من هذه المنطقة كعملية الشهيد ساهر التمام عام 1993، وعملية الشهيد صالح زكارنة عام 1994.
أما انتفاضة الأقصى فقد اعتبر الاحتلال منطقة شمال الضفة المنطقة الأخطر في حين أطلق عليها اسم "مثلث النار"، وقد ألقت هذه المنطقة بثقلها العسكري والجماهيري منذ الأيام الأولى للانتفاضة وباشرت بالمواجهة العسكرية ضد الاحتلال، كمعركة تحرير قبر يوسف شرق نابلس في الأسابيع الأولى للانتفاضة، ومئات عمليات إطلاق النار التي نُفذت في محافظتي طولكرم وجنين، وتطوير صناعة المتفجرات والعبوات الناسفة.
واتسمت منطقة شمال الضفة بإخراج العديد من العمليات الاستشهادية التي نُفذت في عمق الأراضي الفلسطينية المحتلة كعمليات فندق بارك والخضيرة وملهى الدولفين وعدة عمليات في مدينة حيفا.
عقب ذلك أصدر رئيس وزراء الاحتلال آنذاك ارائيل شارون بشن حملة عسكرية واسعة على الضفة الغربية وأطلق عليها اسم "السور الواقي"، والتي بدأت أوخر شهر آذار 2002 وبلغت ذروتها في نيسان من العام ذاته، في حين تركزت الحملة على مدن شمال الضفة التي ارتكبت بها المجازر وعمليات التدمير والهدم في المخيمات والمدن هناك، فيما أشرف شارون على عملية اجتياح نابلس ومخيم بلاطة بنفسه وراقبها من أعلى جبال المدينة.
الأثر الممتد عبر الزمن
ورغم تنفيذ مئات عمليات الاغتيال في منطقة شمال الضفة وانهاكاها بالاقتحامات المستمرة والحواجز العسكرية حتى عام 2008، كانت هذه المنطقة المحرك الأول للواقع النضالي الجديد في الضفة منذ عام 2021، والتي بدأ من مدينة جنين وانتقل تدريجياً إلى نابلس ثم طولكرم ثم طوباس ثم قلقيلية، حتى بات شمال الضفة معقلاً لخلايا المقاومة التي يحاربها جيش الاحتلال منذ 3 أعوام دون توقف.
وليست الحملة العسكرية الحالية الأولى من نوعها ولكنها الأضخم منذ عام 2002، فقد شهدت مدينة جنين ومخيمها العشرات من الاجتياحات الدموية والمدمرة منذ عام 2022 كذلك مدينة طولكرم ومخيماتها على مدار العام الماضي حتى يومنا هذا، إضافة لطوباس ونابلس، ضمن الإطار التاريخي المقاوم لهذه المناطق.