أقدَم الاحتلالُ الإسرائيليُّ على تنفيذ عملية اغتيال غادرة لرئيس المكتب السياسي لحركة "حماس"، إسماعيل هنية، في طهران فجر يوم الـ299 لحرب الإبادة على قطاع غزة، مستكمِلًا بذلك تدشينَ مرحلة جديدة من التصعيد بدأت باغتيال القيادي في "حزب الله" اللبناني، فؤاد شكر، في الضاحية الجنوبية في بيروت، وتنفيذ ضربات جوية "مجهولة المصدر" على قوى المقاومة العراقية في إطار زمني متقارب بين العمليات الثلاث.
يَرفع "رئيس وزراء الاحتلال، "بنيامين نتنياهو"، من مستوى المواجهة بجرأة كبيرة جدًّا، بعد أن نال دفعة معنوية كبيرة جدًّا في زيارته الأخيرة للولايات المتحدة، التي أتبعها بتعنُّت جديد وفرض اشتراطات جديدة يعي أن من شأنها أن تنسِف أيَّ تقدُّم يُعوَّل عليه في مفاوضات الصفقة في قطاع غزة، ومن الواضح أن خروج الرئيس الأمريكي الحالي، "جو بايدن"، من السباق الرئاسي قد خفَّض الضغطَ الذي كان قابعًا على عاتق "نتنياهو" والذي كان يكبح جماح تصعيده، فيما بات واضحًا أن الأخير قد حصل على التطمينات اللازمة من أن الولايات المتحدة ستكون حاضرة بدورها في الدفاع عن الإسرائيلي في حال تدهوُر الأوضاع في الشرق الأوسط.
يلجأ "نتنياهو" إلى مستويات جديدة من الاستهداف وتوسيع دائرة الاغتيالات ودوائر العدوان، للظفر بصورة "النصر المُطلَق" التي يبحث عنها ويكرِّر الحديث حولها، ويقع في قلبها الادعاء بنجاحه في تصفية قيادة حركة "حماس" الأُولى، ويُعَدُّ اغتيال إسماعيل هنية الأبرزَ فيها بعد النجاح في اغتيال نائبه الشيخ صالح العاروري والادعاء بالنجاح في اغتيال القائد العام لكتائب القسام، محمد الضيف، ما يعزِّز من إمكانية ادعائه بتحقيق سياسته العدوانية لنجاحات باتت تتراكم بفعل "الضغط العسكري"، ما بات يرى انعكاسه على استطلاعات الرأي الذي تحسنت فيه أسهمه، ما يؤكِّد أن رهانه على إطالة أمد العدوان إلى أن ينجح في تحسين أسهمه الانتخابية ويحصِّن مستقبله السياسي ويخفِّض من حجم الفشل في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 بات يؤتي ثماره لـ"نتنياهو" ويضيف له بُعدًا جديدًا من أبعاد الثقة والمضي قدمًا في السياسة العدوانية.
اتَّخذَت دولة الاحتلال أن تخطو خطوتها الإجرامية وأن تَرفع مستوى المواجهة في المنطقة، من منطلق تقديرٍ من الواضح أنه بات مرُجَّحًا لديها بأن حسابات إيران و"حزب الله" اللبناني ستبقى مقيَّدةً ولن تذهب إلى ردود كبرى تتعدى ما تستطيع "إسرائيلُ" استيعابه، أمام حجم الأهداف التي ظفرت بها، سواءٌ على صعيد اغتيال القائد العسكري الأول في الحزب، أو رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس"، إسماعيل هنية، وبالتالي فإن المجازفة الإسرائيلية بُنِيَت في الأساس على الحاجة لتسجيل نقاط أكثر نوعية في إطار الاشتباك الحالي بينها وبين قوى المقاومة.
سيسهم نجاح الاحتلال في ألَّا يُدفع ثمن هذه الاعتداءات وألَّا يحصل تجاوز كبير في تعزيز محاولة "إسرائيل" ترميمَ ردعها في المنطقة، وخدمة دعوات "بنيامين نتنياهو" لإنشاء حلف دفاعي مشترك مع ما يسميها "دول الاعتدال" في المنطقة في مواجهة النفوذ الإيراني وحضور محور المقاومة.
على المَقلَب الآخَر، فإن محور المقاومة، وإيران و"حزب الله" اللبناني على نحو التحديد، أمام منعطف مهم سيعكس نفسه على المحور ودوره في المنطقة وقدرته على مواجهة العدوان الإسرائيلي وفرض معادلات الاشتباك والردع في المنطقة، ما يفرض على قوى المقاومة فيها وعلى الجمهورية الإسلامية في إيران اتخاذ خطوات عملياتية باترة لا تسمح بأن يستعيد الاحتلال قدرته على استباحة كل الساحات والأجواء دون رادع حقيقي وفاعل، وإلا فإن كل ما راكمه محور المقاومة على مدار السنوات الماضية سيَفقِد تأثيره ويتراجع بعد أن سجَّل نجاحاتٍ مهمةً على مدار أشهر في إدارة جبهات إسنادية متعددة تَستَهدِف الاحتلالَ تكلَّلت بالاستهداف الأول المباشر من الجمهورية الإسلامية في إيران لعمق الأراضي الفلسطينية المحتلة في منتصف أبريل/نيسان الماضي.
فلسطينيًّا، تعي حركة "حماس" تمامًا أنها في معركة مفتوحة مع الاحتلال لن يتقيد فيها الاحتلال بأي خطوط حمراء أو روادع في إطار البحث عن تحقيق أهدافها، وفي القلب منها عمليات الاغتيال التي تطال الصف القيادي الأول. وعلى الرغم من كون "حماس"، والفصائل الفلسطينية عمومًا، قد تجاوزت مرحلة تأثير الاغتيالات النوعي على عملها وأنجزت بناءً مؤسسيًّا متماسكًا يُمكِّنها من التعامل مع الاغتيالات وارتداداتها، فإن ثمة تحدياتٍ عديدةً ناشئةً عن غياب إسماعيل هنية عن المشهد القيادي للحركة ارتباطًا بالديناميكية الوطنية التي مثَّلها وقدرته على جمع العديد من الأوراق وتجاوُز العديد من العقبات التي كانت ماثلةً أمام الحركة وطنيًّا وإقليميًّا، ناهيك عن الإدارة التكاملية لملف المفاوضات حزبيًّا ووطنيًّا، ما يَفرض على "حماس" تحديًّا جديدًا لن يكون من الصعب عليها تجاوزه وضمان ألَّا يتأثر عمل الحركة ومؤسساتها القيادية بفعل الاغتيال.
التقدير المُرجَّح أن محور المقاومة لن يسمح بأن يثبِّت الاحتلالُ قواعدَه الجديدةَ التي يوسِّع فيها من انتهاكاته وجرائمه في المنطقة ويسجِّل عبرها النقاط بعد عجزه عن تحقيق "صورة الانتصار" ميدانيًّا في قطاع غزة، ما يعزِّز التصريحاتِ الواضحةَ والصريحةَ من المرشد الإيراني، السيد علي خامنئي، الذي حَسمَ بلا جدل أن إيران سترد مباشرةً على عملية الاغتيال وأنها لن تقبل هذا الانتهاك، والأمر سواءٌ في تصريحات الحرس الثوري والرئيس الإيراني الجديد، وفي الإطار ذاته فإن "حزب الله" اللبناني أيضًا لن يتهاون مع استباحة الاحتلال للضاحية الجنوبية، ولن يقبل استمرار استثمار الاحتلال لحرص الحزب على تجنُّب الخوض في حرب واسعة لتحقيق نقاط تفوق نوعية في إطار الاشتباك الحالي مع الحزب اللبناني واستنفاد كل ما يمكن من بنك الأهداف الإسرائيلي، خصوصًا تصفية العديد من الحسابات مع شخصيات عسكرية تاريخية في "حزب الله".
مبدئيًّا، من الصعب الحسم بأن المنطقة ستكون مقبلة على حرب إقليمية، إلا أن التصعيد سيكون سيد الموقف في خلال الأيام القادمة، ما قد يَحمل في طياته أحداثًا ذات بُعد درامتيكي متدحرج يمكن أن تصل إلى حد الاشتباك المفتوح في المنطقة، على الرغم من حرص كل الأطراف على تجنُّب الوصول إلى هذا المصير.