الموقف منكشف تماما الآن بعد خطاب الرئيس الأمريكي بايدن عن مقترح إسرائيلي لصفقة تبادل أسرى بين الاحتلال وحركة حماس. صحيح أنّ خطاب الرئيس الأمريكي تعبّأ بالمفارقات المثيرة واتسم بالالتباس وألقى بظلال من الحيرة، إلا أنّ هذا بالضبط ما ينبغي أن يجعل الموقف منكشفا، أو أن يمعن في كشفه لكلّ بصيرة انكشف فيها من قبل.
المفارقة باختصار أنّ الرئيس الأمريكي أعلن عن مقترح إسرائيلي ثمّ طالب (أي بايدن) الإسرائيليين بالموافقة عليه. في غير هذا الخَطب الفادح يمكن القول إنّها نكتة، ثمّ كانت المسافة بين خطاب بايدن والمقترح الإسرائيلي ما أثار الغموض والالتباس في الموقف، والمفارقة في ذلك، أنّ هذا الغموض والالتباس هو ما يمعن في كشف الموقف.
تعِب الرئيس الأمريكي من الإسرائيليين، ولكنه بوضوح عاجز إزاءهم، فاختار أن يأخذ مقترحهم ويعلن عنه ليصعّب عليهم التراجع عنه والتنصّل منه، فهو معلن على لسان رئيس الولايات المتحدة الأمريكية. ماذا يعني أن يعلن رئيس دولة مقترحا مقدّما من دولة أخرى لا تعلن هي عن مقترحها، ويطالب تلك الدولة بالموافقة عليه؟! ليس ثمّة معنى سوى أنّ هذا الرئيس هو جزء من تلك الدولة، بايدن هنا إسرائيلي بالكامل، وصهيوني بامتياز، إنّها ألاعيب داخل البيت الصهيوني الوسيع!
المقترح الإسرائيلي هو تعديل إسرائيلي على مقترح سابق قدمه الوسطاء لحركة حماس، خاصة الوسيط المصري، ووافقت عليه حماس في 6 أيار/ مايو، بعدما قيل إنّ الإسرائيلي وافق عليه، وبدا أنّ الأمر كلّه تمّ بعلم رئيس وليام بيرنز رئيس الـ"CIA"، إلا أن الإسرائيلي تنصّل منه وادّعى أنّه تضمن أفكارا كُتِبت لاحقا من المصريين لصالح حركة حماس.
بالضبط هذه لعبة نتنياهو، يرسل مقترحا، ويبقيه خفيّا، ولا يعبّر عن موقف واضح من مقترح محدّد. يستثمر في هذه اللعبة لشراء الوقت، ويغطي بذلك الحرب واستمرارها، ويرفع عن نفسه الضغط الداخلي، ويرضي كلّ طرف إسرائيلي بما يحب أن يسمعه من كلام، إلا أنّ ألاعيبه هذه وإن كانت مكشوفة، فإنّها كانت تساهم بالاستفادة من اختلال موازين القوى، في زيادة الضغط على حماس؛ بالادعاء أنّ ثمّة فرصة تضيّعها الحركة!
لم يقل الأمريكي شيئا ضدّ نتنياهو حينما تنصّل من المقترح المصري، بل سانده في لعبته هذه، إلا أنّ هذا الأمريكي في معرفة منه بألاعيب نتنياهو أعلن عن مقترح نتنياهو ليمنع نتنياهو من التنصّل منه! كم هو الأمر متعب وأشبه بالأحاجي!
ما قاله نتنياهو إنّ خطاب بايدن مجرد خطوط عريضة فيها قدر من الاختلاف عن المقترح الإسرائيلي. وهذا حقيقي، فقد حاول بايدن الإيحاء بأنّ هذا المقترح من شأنه أن ينتهي إلى وقف إطلاق النار، بينما صيغ المقترح الإسرائيلي بطريقة تضمن للإسرائيلي إنجاز المرحلة الأولى منه بحيث يستعيد عددا من أسراه بذلك، ثمّ يفجّر المفاوضات ويستأنف الحرب. حماس تريد صفقة لوقف إطلاق النار، والإسرائيلي يريد صفقة لاستعادة أسراه فحسب.
لا تختلف مساعي بايدن لوقف الحرب بمثل هذه الألاعيب التي تنمّ عن عجزه إزاء "إسرائيل" عن حالته في شهور الحرب الأولى، حينما غطّى استمرار حرب الإبادة الجماعية. كان أقطاب الإدارة الأمريكية يصرّحون بوضوح بأنّهم ضدّ وقف دائم لإطلاق النار، وأفشلت الولايات المتحدة مشاريع وقف إطلاق النار في مجلس الأمن، وتبنّى بايدن كلّ الأكاذيب الإسرائيلية حول وقائع الحرب، وهو ما ظلّ قائما في خطابه الأخير بتضمينه أكذوبة العنف الجنسي ضدّ الإسرائيليين، بينما كان ينكر صراحة أو ضمنا أعداد الضحايا الفلسطينيين.
ثمّة مؤشّرات أنّ هذه الإدارة الأمريكية وبالرغم من اندفاعتها الهائلة لدعم الإسرائيلي في حرب الإبادة، كانت تُفَضِّل شكلا للحرب أقلّ كثافة وزخما، ولكنها تبعت الإسرائيلي في رؤيته لحربه، وهي الآن مُتعَبة من هذه الرؤية الإسرائيلية، لا تجد إلا هذه اللعبة لمحاولة إقناعه بالمضيّ في مفاوضات هذه الصفقة، إلا أنّ هذه الضغوط والألاعيب مرّة أخرى، إنّما تجري داخل البيت الواحد، بحيث يمكنك أن تضع مكان اسم بايدن أيّ اسم إسرائيلي آخر من الساسة الإسرائيليين؛ لابيد، غانتس، حتى بن غفير!
إذا كان هذا هو الواقع الإسرائيلي/ الأمريكي، فمن هذا الذي يمكنه منّا أن يتوقع مسارات أيّ مقترح معروض على حماس؟ يحب مقدّمو نشرات الأخبار سؤالنا عن توقعاتنا في حرب مختلفة في كلّ شيء، بما في ذلك احتمالات الصفقة والهدنة، وما ينبغي علينا أن نفعله هو أن نحيلهم للطرف العدوّ وهو يدير ألاعيبه الداخلية بهذه الصورة، ونضفي كلّ شكّ وريبة على خطاباته ومواقفه ومقترحاته!
أخيرا.. هذا هو الحال الإسرائيلي وهكذا تتبعه أمريكا آخر الأمر (لماذا تتبعه بهذا العجز المفضوح؟ هذا موضوع كبير يستحق أن يناقش منفردا)، وهذه هي حماس، والمقاومة، وسكان قطاع غزّة، والشعب الفلسطيني؛ وحدهم (باستثناء من يقاتل إسنادا لهم). هذا هو الحال الثابت الدائم من قبل، والذي لا يمكن رؤية غيره من كلّ حيل الألاعيب القائمة؛ ألاعيب تُطالب حماس بالموافقة عليها. أليست هذه مهزلة في حقّ الجنس البشري أصلا؟!