جاءت الحرب على غزّة في لحظة اختلال أخلاقي عالمي غير مسبوق، فأن يبقى العالم يراوح مكانه بين العجز والبلادة إزاء إبادة جماعية تُبثّ بالصوت والصورة على مدار الساعة، وتستهدف شعبا قليل العدد في جغرافيا صغيرة للغاية بعد حصار سنوات طويلة؛ لا تفسير له إلا بغلبة الفساد على هذا العالم، فساد يتجلّى في الاختلال الفادح في موازين القوى، والغياب الظاهر للتدافع القيمي والأخلاقي والفكري والأيديولوجي، بعدما بدا أن التاريخ دخل نهاياته الأبدية مع انتصار الرأسمالية الغربية المحمولة على قوّة غير مسبوقة في التاريخ هي الولايات المتحدة الأمريكية.
هذا الاختلال حاصل في الإقليم العربي كذلك بنحو لم يكن بالإمكان تخيّله من قبل. فمن هذا الذي أمكن في أزمنة ماضية أن يرد على خياله أنّه سيأتي زمان على العرب تمنع فيه دول عربية مواطنيها من إظهار التعاطف مع الفلسطينيين؟ يمكن ملاحظة أنه يمكن لمواطني دولة عربية على منصة X مثلا؛ إدانة المقاومة الفلسطينية والهجوم عليها، ومن قبل السابع من تشرين الأول/ أكتوبر إثارة الكراهية ضدّ الشعب الفلسطيني كلّه وتشويه قضيته، بينما لا تكاد تُرى تغريدة واحدة تدين الكيان الإسرائيلي، وهو ما ينسجم مع الخطّ الإعلامي لقناة كقناة العربية مثلا.
لا يعني ذلك أنّ شعب هذا البلد أو ذاك قد تغير نحو الأسوأ، ولكن عملية التحطيم الثقافي والمعنوي لشعوب بلاد بعض البلاد العربية تمضي بلا رحمة، من صورها تبنّي السردية الصهيونية بالكامل في بعض الأحيان من بعض الكتاب والإعلاميين والنشطاء الذين تحرّكهم الأجهزة الحكومية وإدرات اللجان الإلكترونية، في حين يتصرف ما تبقى من النظام الإقليمي العربي وكأنه لا شيء يحصل في غزّة. وقد قيل الكثير عن صور العجز إزاءة مذبحة الإبادة والتجويع والتدمير الممنهج لقطاع غزّة مما ينبغي أن يفقد كلّ عربيّ احترامه لنفسه، فليس ثمّة حاجة للعودة إلى بيان هذا العجز الذي يصل إلى درجة التواطؤ المؤكد في بعض الحالات.
في هذه الظروف كانت عملية "طوفان الأقصى" والحرب الإسرائيلية على غزّة، ولأنّ هذا هو الواقع بعد تجريف العالم العربي وتحطيم قواه الاجتماعية والشعبية الفاعلة والإطباق الأمني عليه وتمزيقه وإنهاك مجتمعاته، والاشتغال اللحوح من أنظمة ما تبقى من بلاد لم تضربها الحروب الأهلية والتمزق الاجتماعي على غسيل وعي مجتمعاتها وعزلها تماما عن قضايا الأمة وقضايا التحرر السياسي والعدالة الاجتماعية.. لأنّ هذا هو الواقع؛ فلا ينبغي أن تكون حالة العجز والشلل والتيه وانعدام الحيلة مفاجئة.
لكن في واقع كهذا، ومع حرب كهذه؛ فإنّ من شأن هذه الحرب أن تخلخل هذا النموذج السائد، نموذج انتصار الانحطاط القيمي والأخلاقي العالمي، ونموذج الرداءة غير المسبوقة عربيّا، بما يصحبه من شلّ لقدرات الأفراد والمجتمعات على المدافعة لصالح قيم أخرى غير تلك السائدة، لأن ميزان القوى وإطباق الهيمنة فادح وتكاد تستحيل مقاومته، ومن ثمّ يكون للحرب في غزة فعل التوعية والتبصير والتثوير والتنوير والتعبئة والدفع نحو اكتشاف هذا النظام العالمي المختلّ وتغييره.
يُضاف إلى ذلك، الدور الهائل لهذه الحرب في كشف السردية الصهيونية في العالم، وخاصة في المجال الغربي، وبنحو أخصّ في الولايات المتحدة. يمكن الآن للجميع أن يفهم أنّ هذه الإدارة الأمريكية لمّا دعمت حرب الإبادة بكلّ ما يمكن؛ لم يخطر على بال أيّ من أركانها أنّ الحرب سترتد ضدّها وضدّ الكيان الإسرائيلي في الداخل الأمريكي، فالجمهور الأمريكي لا يتطلع إلى القضايا خارج حدوده، والانحياز لـ"إسرائيل" محسوم، وطلاب الجامعات لن تشغلهم قضايا عالمية على حساب قضايا المنح والتخرّج والتوظف بعد ذلك. هذه التحولات في الرأي العام الأمريكي وشرائحه الشابة وقطاعاته الطلابية كانت مفاجئة وصادمة.
ما سبق قوله من نتائج لهذه الحرب على مستوى مدافعة الفساد العالمي، وإعادة إحياء المجتمعات العربية، وكشف السردية الصهيونية في الغرب ومزاحمتها؛ هو أهمّ ما تفضي إليه هذه الحرب، التي دفع فيها أهل غزّة ثمنا باهظا لا يمكن وصفه ويستحيل تصوّره، وما كان ينبغي أن ينحصر الثمن فيهم لتغيير هذا العالم الفاسد وإحياء هذه المجتمعات الميتة وفضح السردية الصهيونية التي هيمنت على العقل الغربي عقودا طويلة ممتدة، لكن هذا الذي حصل على أيّ حال.
ماذا يفعل بعض العرب والفلسطينيين، من خصوم حماس، إزاء هذا المكتسب للعالم والمنطقة والقضية الفلسطينية؟! تفريغه من مضمونه، بتركيز النقد والهجوم على حركة حماس، بتبرئة ضمنية أو صريحة للاحتلال، وجعل جريمته مجرد رد فعل على عملية حركة حماس، بالرغم من أنّ النقاش كلّه من بعد السابع من أكتوبر تركز في العودة إلى جذور القضية الفلسطينية وأصلها وإلى عموم ممارسات الاحتلال.
لقد بات يُرد على دعاية أن المشكلة في عملية 7 أكتوبر، بأن عمر القضية 75 عاما، والتذكير بمسار المجازر والتطهير العرقي الإسرائيلي، والانحياز الغربي المطلق لصالح جريمة إزاحة شعب عن أرضه وإحلال آخرين مكانه، والتنويه الدائم إلى الممارسة الإسرائيلية الاستيطانية والعنفية في الضفة الغربية التي تتفق في النوع مع ممارسة الإبادة في غزّة رغم اختلاف الدرجات والأشكال.
لقد باتت هذه التفاصيل حاضرة في الميديا الغربية الجديدة والتقليدية، وفي الفعاليات الطلابية والثقافية، وبما ينجم عنها من وعي بأساليب الهيمنة بالاقتصاد السياسي والمال الفاسد. هناك من بات يفهم أن تحرير فلسطين شرط لتحرره هو!
يتحول بعض العرب، ومنهم فلسطينيون، على الضد من هذه المكاسب، التي يفترض أنها مكاسب عالمية، ومكاسب استراتيجية، وذلك بتركيز النقد والهجوم على حركة حماس، هذا بالرغم من كون الهجوم على الطرف الضعيف المعتدى عليه الذي يقاوم الحرب الإسرائيلية هو انحطاط أخلاقي بمجرّده، مهما كان للبعض خلاف مع حماس سياسيّا أو أيديولوجيّا أو حتى كان له نقد على تقديرها السياسي بخصوص عملية طوفان الأقصى، فهذا كلّه له مقامه وحينه وآنه، ولكن بقطع النظر عن هذا الانحطاط الأخلاقي الأساسي، فإنّه كما سلف قوله، موقف مضاد لمصلحة عموم العالم والمنطقة ومستقبل فلسطين، مما ينمّ عن أنانيات غريزية عمياء، ومصالح مشبوهة فاسدة.
قول كلّ ما سلف عن نتائج لهذه الحرب هو قاس؛ لأنّ ثمنه هذه الآلام غير المتصوّرة للغزيين، إذ ما كان يجب أن يدفعوا الثمن وحدهم، لكن المشكلة، والحالة هذه والحديث عن الاختلال العالمي والرداءة العربية، فيمن حال دون إسنادهم ودون نصرتهم ودون الانخراط الكثيف إلى جانبهم، في حرب من شأنها أن تغيّر العالم.