شبكة قدس الإخبارية

"محور نيتساريم".. ما بين التفاوض ومعادلات الاستنزاف

"محور نيتساريم".. ما بين التفاوض ومعادلات الاستنزاف
أحمد الطناني

على الرغم من إتمام سيطرة الاحتلال على محور "نيتساريم" منذ الشهر الأول للغزو البري، فإن ضربات المقاومة لم تتوقّف في الأحياء الملاصقة لشريط تمركز الاحتلال، خاصةً في حيَّي جحر الديك والمغراقة. 

شكّل محور "نيتساريم" العنوان الأبرز في خلال الشهر الأخير، وحظي بتركيز كبير، كونه البقعة الجغرافية الوحيدة التي لا يزال "جيش" الاحتلال يتمركز فيها، ويعمل فيها على استحداث إنشاءات عسكرية ونقاط تمركز، كما أنه المحور الفاصل ما بين شمالي القطاع وجنوبيّه والمنوط به منع عودة أهالي الشمال النازحين في جنوبي القطاع إلى أماكن سكنهم.

الانسحاب من محور "نيستاريم" وعودة النازحين يمثِّلان حجرَي العثرة الرئيسَين في مفاوضات التهدئة التي عادت إلى التحرّك بفاعلية بعد فترة جمود قاربت الشهر، منذ تسليم حركة "حماس" ردَّها في منتصف نيسان/أبريل المنصرم. 

وبين مطالبة المقاومة بالانسحاب الكامل لـ "جيش" الاحتلال، وإصرار الاحتلال على إبقاء تمركزه في محور "نيستاريم"، حظيت إنشاءات وتجهيزات الاحتلال بتركيز إعلامي كبير حمل في سياقه "بروبغندا" إسرائيلية أظهرَت صوراً للجنود وهم في داخل المحور يحتفلون بعيد الفصح اليهودي، تبعه نشر صور جوية تُظهِر حجم أعمال التسوية والتوسعة في المحور، وربطه بإنشاءات الممر البحري الذي يُشرِف عليه الجيش الأميركي.

"نيتساريم" والمسارعة لخلق المنطقة الفاصلة

منذ الأيام الأولى للغزو البري لـ "جيش" الاحتلال لأراضي قطاع غزة، أوْلى "جيش" الاحتلال أهمية كبرى للتوغّل نحو الأراضي الممتدة ما بين منطقة المغراقة جنوباً، وصولاً إلى مشارف حيّ الشيخ عجلين شمالاً، وحي جحر الديك ومشارف حي الزيتون شرقاً، والتي كانت تتوسّطها مستوطنة "نيتساريم" التي فُكِّكَت إبَّان الانسحاب الإسرائيلي أحادي الجانب من أراضي القطاع في آب/أغسطس 2005. 

وشكَّل إتمام التوغّل في محور "نيتساريم" الخطوة الرئيسة في فصل شمالي القطاع عن جنوبيّه، وضمان قَطعِ الطريقَين الرئيسَين شارعَي صلاح الدين والرشيد، إضافةً إلى إنشاء رؤوس جسور للقوات للانطلاق منها لإتمام الانقضاض على منطقة غربي غزة عبر شارع الرشيد، ضمن عمليات المرحلة الأولى التي استَهدَفَت الوصول إلى حي الرمال ومجمّع الشفاء الطبي.

لوحظ للعيان إنشاء الاحتلال تجهيزاتٍ لوجستيةً متعددةَ المهام، كان أبرزها التجهيزات اللازمة لتحويل شارعَي صلاح الدين والرشيد إلى حواجز مُزوَّدة بأدوات التحصين والرقابة والمتابعة، بهدف إخضاع النازحين من شمالي القطاع إلى جنوبيّه للتفتيش والتدقيق في هوياتهم، ومنع كل محاولات العودة من جنوبيّ القطاع إلى شماليّه. 

وفي أواخر شباط/فبراير المنصرم، كشفت صحيفة "وول ستريت جورنال" نقلاً عن مسؤولِين عسكريِّين قولهم إن "جيش" الاحتلال يعمل على توسيع طريق وسط قطاع غزة لتسهيل العملية العسكرية وليشكّل حزاماً عسكريّاً يمنع عودة نحو مليون نازح فلسطيني.

وهو الطريق الذي تحدّثت عنه القناة الـ 14 العبرية، إذ كانت قد كشفت عن بدء "الجيش" في إقامة طريق مرصوف من شرقيّ القطاع إلى غربيّه، بهدف فصل شماليّه عن بقية أجزائه. ووفقاً للقناة ذاتها، يبدأ الطريق العرضي "794" من منطقة مستوطنة "نحال عوز" في غلاف غزة، ويمتد غرباً إلى داخل القطاع حتى البحر المتوسط تقريباً، وهو يقطع أواصر القطاع.

اندفع "جيش" الاحتلال لتنفيذ عملية عسكرية خاصة في مناطق شمالي النصيرات، خاصةً أحياء المغراقة والزهراء وصولاً إلى مشارف مخيم النصيرات، بهدف تثبيت عُمق تأميني لمواقع تمركز "الجيش" في أراضي محرَّرة "نيتساريم"، خصوصاً بعدما أتمَّ "الجيش" الانسحاب من غالبية المناطق المأهولة في القطاع على أثر إنهائه عمليته العسكرية في خان يونس بعد أربعة شهور من القتال، ما يجعل منطقة "نيتساريم" المحطة الوحيدة التي كان لا يزال يتمركز فيها لواء "ناحال" الذي حلت محله فيما بعد الفرقة "99" من "جيش" الاحتلال.

ضربات لا تتوقّف.. والاستنزاف في الأفق

على الرغم من إتمام سيطرة الاحتلال على محور "نيتساريم" منذ الشهر الأول للغزو البري، فإن ضربات المقاومة لم تتوقّف في الأحياء الملاصقة لشريط تمركز الاحتلال، خاصةً في حيَّي جحر الديك والمغراقة، إذ نفَّذَت المقاومة فيها عدداً كبيراً من الكمائن والهجمات التي استَهدَفَت جنودَ الاحتلال وآلياتِهم، وكان لافتاً تمكُّن المقاومة من توجيه ضربات مماثلة في حي الزهراء السكني الذي دمّرت غالبيته طائرات الاحتلال الحربية في إطار التمهيد لتمركز "الجيش" في المحور المذكور.

شكّل الحاجز المُقام على شارع صلاح الدين ضمن محور "نيتساريم" الهدف الأول الذي هاجمته المقاومة بالقذائف والمُسيَّرات الانتحارية فور انهيار التهدئة المؤقتة بين المقاومة والاحتلال في أواخر كانون الأول/ديسمبر الماضي، فيما حافظت المقاومة على وتيرة متصلة في استهداف الآليات واستدراج قوات الاحتلال لكمائن وفتحات أنفاق مفخَّخة، واستهداف المباني التي يتحصّنون فيها، خصوصاً في مناطق المغراقة وجحر الديك.

وعلى الرغم من تنفيذ الاحتلال عمليته الخاصة شماليّ النصيرات لتأمين محور التمركز لـ "جيشه"، نجحت المقاومة في استهداف قوات الاحتلال بكمائن داخل المنطقة، استَهدَفَت في خلالها القواتِ المنسحبةَ من عملية شماليّ النصيرات بحقول من العبوات الناسفة، فيما كان الكمين الأنجح استهداف المقاومة قوةً مؤللةً استُدرِجَت في منطقة المغراقة، وفُجِّرَت بالعبوات الناسفة، وصواريخ أطلقتها الطائرات الحربية الإسرائيلية ولم تنفجر، وأعادت المقاومة استخدامها وتفجيرها بالجهود الهندسية المناسبة في القوة المُستدرَجة، التي وقعت ما بين قتيل وجريح.

دشَّنَت المقاومة مرحلة الاستنزاف الأقصى للقوات المتمركزة في محور "نيتساريم"، إذ كثّفت عمليات الاستهداف بوسائط نيران متعددة، كان أبرزها مفارز الهاون الموجودة لدى المقاومة بعيارات ومديات متنوّعة، أبرزها الهاون من عيار 120 ملم الذي يستطيع أن يصل إلى مديات ما بين 6 إلى 8 كلم، مع وجود قدرات متقدّمة لدى المقاومة لتحقيق دقة الإصابة، إضافةً إلى القذائف الصاروخية من طراز جراد 107 التي تستطيع الإصابة للمديات ذاتها تقريباً، وقد يصل بعضها -وقد طُوِّر في القطاع- إلى مسافة 12 كلم، وكلّ الخيارات فعَّالة جداً في استهداف التحصينات وخطوط الإمداد ومواقع التمركز، ناهيك عن الكمائن الهندسية وحقول الألغام والعبوات الناسفة التي تُستدرَج إليها قوات الاحتلال.

المأزق العملياتي بالتمركز في منطقة بينية

أحاط الاحتلال عملية السيطرة على محور "نيتساريم" بعملية دعاية كبرى، قدَّم "جيشُه" في خلالها إتمامَ السيطرة وتوسيع وتعزيز البنية التحتية اللازمة لتمركزه وخطوط الإمداد فيه على أنها إنجاز استراتيجي، ووفقاً لتوصيف صحيفة "هآرتس" العبرية، وصف "جيش" الاحتلال التجهيزاتِ في "ممر نيتساريم" بـ "الإنجاز طويل الأجل"، وأكَّد أن "الممر شُيِّد ليبقى".

أثارت الإنشاءات والتجهيزات اللوجستية القلقَ لدى العديد من المتابِعِين والمهتمِّين، خصوصاً مع تبيان اتصال محور "نيتساريم" جغرافيّاً مع قاعدة الممر البحري الذي يُشرِف "الجيش" الأميركي على إنشائه ما بين قبرص وقطاع غزة، ويُفترض أن يكون ميناؤه على شواطئ المنطقة الساحلية الواقعة بين جنوبي محافظة غزة وشمالي المحافظة الوسطى، ما يتوازى مع المنطقة التي يُسيطر عليها "جيش" الاحتلال الذي سيؤمِّن الميناء على الأرض، وفقاً للمتحدّثين الأميركيّين.

إلا أن الواقع العملياتي لمنطقة "نيتساريم" مغاير تماماً، فالمنطقة تُصنَّف بأنها منطقة بينية، تقع ما بين مواقع تمركز ثلاث كتائب للمقاومة تتمركز في جنوبي محافظة غزة (منطقة الشيخ عجلين وتل الهوا)، وجنوبي شرقي غزة (حي الزيتون)، وكتيبة النصيرات، ما يوضح أن عمليات استهداف المحور واستنزافه من قبل المقاومة من مختلف المحاور ستكون مهمة غير معقَّدة عملياتيّاً ولوجستيّاً بالنسبة للمقاومة، التي أثبتَت ميدانيّاً زيفَ ادعاءات الاحتلال بنجاحه بتفكيك كتيبتين من أصل ثلاث من المحيطة بالمنطقة الفاصلة بين شماليّ القطاع وجنوبيّه.

وبالعودة إلى تاريخ مستوطنة "نيتساريم"، فإن أرَقَ الاستنزاف ومعضلات تأمينها سببه موقعها الذي يتوسّط أحياء ذات كثافة سكانية، فإن المستوطنة التي أُنشِئت في العام 1977 على مساحة تقدَّر بـ2325 دونماً كانت تحتاج إلى إجمالي مساحة كان الاحتلال يسيطر عليها لتأمين المستوطنين بنحو 4300 دونم. 

ومع بداية انتفاضة الأقصى، وفي خلال سنواتها الثلاث الأولى، شكّل عنوان الانسحاب من "نيتساريم" أحد المطالب التي نوقشت مبكراً في لجنة الخارجية والأمن في الكنيست، تحت عنوان "الثمن الدموي من البقاء في "نيتساريم"، على أثر ضربات المقاومة والعمليات الفدائية في المستوطنة في خلال سنوات الانتفاضة التي وصلت في المحصّلة إلى اتخاذ صاحب مقولة أن "نيتساريم" بأهمية "تل أبيب"، المجرم "أرئيل شارون"، قراراً بالانسحاب أحادي الجانب من مستوطنات القطاع، وفي مقدّمتها "نيتساريم".

الرهانات وحسابات الربح والخسارة

آنيّاً، راهن الاحتلال على أن استنزاف المقاومة في قتال على مدار أكثر من نصف العام كفيلٌ بأن "يُصفِّر" القدرات التسليحية للمقاومة ما سيصعِّب عمليات استهداف محور "نيتساريم"، وبالتالي فإن الأهمية الاستراتيجية لوجود منطقة فاصلة مؤمَّنة وخطوط يسيرة للإمداد وتحرُّك "للجيش" تتيح العمل بنمط عمليات "المرحلة الثالثة" بأريحية، والتي تشمل عمليات إغارة مستمرة على مناطق القطاع لاستنزاف المقاومة وتفكيك بنيتها التحتية.

لم ينجح رهان الاحتلال على الاستنزاف، خصوصاً أن المقاومة التي كانت تُقدِّم خطاباً عدَّه الكثيرون "دعائيّاً" كانت تدفع بأنها قادرة على الاستمرار في القتال لمدة ستة شهور متواصلة، إلا أن الواقع قد أثبت أن قدرات المقاومة التسليحية وعمق بنيتها التحتية أكبر بكثير مما قدَّمته في خطابها الدعائي، ناهيك عن الإدارة الذكية للنيران والمشهد العملياتي ارتباطاً بتقدير تحرّكات "الجيش" وخططه وأهدافه. 

هذا إضافةً إلى التوازي مع الخط السياسي، ما يجعل من عملية استنزاف محور "نيتساريم" في هذا التوقيت بالذات مرتبطاً بدرجة مباشرة بوتيرة المفاوضات حول اتفاق التهدئة، التي يبرز فيها عنوانا انسحاب "الجيش" والسماح غير المشروط بعودة أهالي الشمال إلى مناطق سكنهم.

إن المقاومة تعمل فعليّاً على تحفيز قادة الاحتلال حول شكل المستقبل الذي ينتظر قواته المتمركزة داخل المحور في حال الإصرار على إبقائهم فيه، والاستمرار في الرهان على أن هذا الفاصل استراتيجي في إطار تحقيق أهداف الحرب، التي باتت الواقعية في التفكير تُثبت أنها بعيدة جدّاً عن أيّ احتمالية للتحقّق، وبالتالي فإن الخيارات تكون إما الانسحاب بالتفاوض، وإما الانسحاب تحت الضربات وبفعل الاستنزاف الذي سيُشكِّل مشهده وابلاتٌ لا تتوقّف من قذائف الهاون والمقذوفات الصاروخية، إضافةً إلى إمكانيات واسعة لامتلاك المقاومة مفاجآتٍ أخرى في إطار المعركة المستمرة.