دخلت معركة التفاوض عبر الوسطاء بين المقاومة والاحتلال عنقَ الزجاجة منذ أشهر، إذ انتقل جوهر العملية التفاوضية تدريجيًّا من كونه تفاوضًا على الأسرى إلى التفاوض حول نقطتين باتتا الأكثر جوهرية الآن: الأولى مرتبطة بعودة سكان شمالي قطاع غزة إلى أماكن سكنهم؛ والثانية مرتبطة بانسحاب جيش الاحتلال من المناطق المأهولة في القطاع (أي تمركزها في محيط السياج الفاصل شرقًا وشمالًا) تمهيدًا للانسحاب الكامل من القطاع، وفي خلفية هذين المطلبين المطلب الأساسي بوقف شامل وكامل لإطلاق النار ولجم آلة القتل الصهيونية.
تمترست المقاومة بشدة في إطار التصميم منقطع النظير على تحقيق هذين المطلبين، ما واجهه الاحتلال بتمترس مقابِل رافض، ما شكَّل العقدة التي لم يستطِع الطرفان تجاوزَها على الرغم من مرور نصف العام على حرب الإبادة المستمرة في قطاع غزة، كانت كفيلة بإحداث تغييرات كبيرة في العالم وصولًا إلى التغيرات في الموقف حتى لشريك الاحتلال في حربه على المقاومة الولايات المتحدة، وسط معادلات جديدة تداخلت في المنطقة والعالم شكَّلتها ارتداداتُ "طوفان الأقصى".
موقف المقاومة.. ما بين المرونة والتصلب
مرَّ الموقف التفاوضي للمقاومة بعدة مراحل، شملت في محصلتها تنازلًا ضمنيًّا من المقاومة عن مبدأ "الكل مقابل الكل" في ملف الأسرى، قابلته بتصلُّبٍ في ربط القضايا بعضها ببعض بعد إنهاء التهدئة الأولى التي شملت تبادلًا جزئيًّا للأسرى من فئة النساء "المدنيات" والأطفال، ولم تشهد التزامًا نموذجيًّا من الاحتلال في بنودها، إذ استمر في اختراقها على مدار أيامها الثمانية، ليعود ويشن عدوانه بشكل أوسع وأشرس بعد انتهائها، مدشنًا مرحلة خان يونس والمناورة البرية الواسعة فيها مع بداية كانون الأول/ديسمبر 2023، ما قابلته المقاومة بالإعلانِ الشهيرِ للشهيد صالح العاروري، الرابطِ بين أية عملية تبادل قادمة بإيقاف كامل لإطلاق النار.
أبْدَت المقاومةُ مرونةً كبيرةً في ملف الأسرى، وحتى القبول بنقاش مبدأ تجزيء الاتفاق والمرحلية في التنفيذ، انطلاقًا من كون الذخر الاستراتيجي للمقاومة في عملية تبادل الأسرى والوصول إلى اتفاق يلبي طموحات الشعب الفلسطيني مرتبطًا بالصفقة الكبرى بشأن تبادل الجنود الأسرى، ما يعني أن المراحل اللاحقة يمكن أن يُنجَز في خلالها ما تبحث عنه المقاومة في صفقة نوعية من حيث الكم والنوع للأسرى.
على المقلب الآخر، تصلَّب موقفُ المقاومةِ بشدة في عناوين عودةِ النازحين من شمالي قطاع غزة إلى منازلهم دون قيد أو شرط، وانسحابِ آليات الاحتلال من داخل المدن والمناطق المأهولة في القطاع، وسط قبول بمرحلية وقف إطلاق النار في حال وجود التزام من كل الوسطاء والولايات المتحدة بكون مسار التهدئة مسارًا جديًّا لوقف شامل ومستدام لإطلاق النار.
لا يرتبط موقفُ المقاومةِ بشأن التصميم على عودة أهالي الشمال إلى مناطق سكنهم بالبعد الإنساني فحسب، وإيقاف مسلسل النزوح والتشتت لأكثر من مليون فلسطيني من سكان محافظة غزة وشمالها، بل إنه مرتبط جوهريًّا بإفشال أهداف العدوان الهادفة إلى تفريغ محافظة غزة والشمال من أهلها وتحويلها إلى منطقة عازلة، وإدخال تغييرات ديمغرافية واسعة على بنية القطاع وتركيبته السكانية والحضرية بما يتلاءم مع الأهداف الأمنية للاحتلال، وبحثه عن هندسة جديدة للقطاع تُسهِّل سيطرتَه عليه.
فيما يُشكِّل انسحابُ آليات جيش الاحتلال من مدن وأحياء قطاع غزة الباترَ الرئيسَ لأوهام عودة الاحتلال العسكري ولو جزئيًّا للقطاع، أو تحويل وجود جزء من القوات على أراضي القطاع إلى أمر واقع يُسهِّل طموحاتِ الاحتلال في خوض عمليات مطاردة ساخنة واقتحامات للقطاع متى استدعت الضرورة ذلك، ويعيد الاحتلال ليكون جزءًا من الحياة اليومية لسكان القطاع.
خان يونس والشريك المحلي في قلب رهانات الاحتلال الفاشلة
شهور أربع راهن فيها الاحتلال على استنزاف المقاومة ودفعها أو دفع المجتمع في قطاع غزة إلى الانهيار نتيجة القوة الغاشمة والمذابح المتصاعدة، فيما كان الرهان الأبرز على تحقيق عملية خان يونس نتائجَ جوهريةً تَقلب المشهد التفاوضي وتضع المقاومة في الزاوية، خاصةً الرهان على الوصول إلى جزء من أسرى الاحتلال لدى المقاومة أحياءً أو أمواتًا، أو التمكن من اغتيال/اعتقال قادة من الصف الأول للمقاومة أو دوائرهم الرئيسية، دون أن تفلح العملية طوال هذه المدة في تحقيق أية نتائج جوهرية، سوى الدمار الواسع لخان يونس التي نُسِفَت غالبية أحيائها.
في الإطار ذاته، حاول الاحتلال عبر سلسلة طويلة من الخطوات إلى هندسة أمر واقع جديد في قطاع غزة، ينشأ عنه واقع جديد تتشكل وفقه إدارة محلية لبعض مناطق شمالي قطاع غزة تتعاون مع الاحتلال من مدخل الحاجة الإنسانية وتجاوز الفوضى، ما استدعى شنَّ الاحتلالِ عملياتِ استهدافٍ موسَّعةً للطواقم الأمنية ولجان تأمين المساعدات، وسط فتح خطوط اتصال غير مباشرة مع عدد من العشائر وبعض اللاعبين الآخرين بهدف خلق أنظمة بديلة، اصطدمت كلها بحائط الفشل والتمترس الواسع الرافض لأي تعاون مع الاحتلال، ومتانة وعمق البنية التحتية لفصائل المقاومة على امتداد قطاع غزة.
فشل الرهانات على عملية خان يونس وبناء شريك محلي، والصمود الأسطوري للمقاومة التي تقاتِل بشراسة ودون أية ملامح على التقهقر أو قرب الانهيار على مدار نصف عام، إضافةً إلى ضَجِّ العالم باستمرار حرب الإبادة ومشاهد القتل المستمرة بلا حساب لأهالي قطاع غزة والحراك الواسع في الشوارع الغربية، خصوصًا مع جريمتَي الاحتلال بحق الباحثِين عن المساعدات في مفترق النابلسي في شارع الرشيد في أوائل آذار/مارس الماضي، واستهداف طواقم المطبخ المركزي العالمي "WCK" في بداية نيسان/أبريل، لتقلب المشهد التفاوضي لصالح المقاومة، إذ باتت الضغوطات الدولية مضاعفةً وكبيرةً جدًّا على الاحتلال، فيما تجاوَز مفاوضو المقاومة المرحلةَ الأصعبَ من عمر الحرب بثبات منقطع النظير.
المعادلة التفاوضية والجبهات الإسنادية
فرضت المقاومةُ معادلةً تفاوضيةً عبر الصمود والصبر الاستراتيجي والكفاءة الكبيرة في صياغة الردود على المقترحات التفاوضية التي نقلت "إطار باريس" من كونه إطارًا ينظِّم رغباتِ الاحتلال بصفقة تبادل وهدوء جزئي إلى نقاش تفصيلي في القضايا الجوهرية، التي أعادت وفقها المقاومةُ صياغةَ الإطارِ ليناقِش الانسحابَ وعودةَ أهالي شمالي قطاع غزة وخطوات إعادة الإعمار وتأهيل المستشفيات والبنية التحتية، وتدشين مسار جدي لوقف شامل لإطلاق النار.
انسجمت مع هذه المعادلةِ تحركاتُ محور المقاومة والجبهات الإسنادية، التي رفعت من وتيرة ضرباتها، وأغلقت كل الأبواب في وجه الوساطات الساعية إلى تحييد جبهات الإسناد بصفقات جزئية مرتبطة بمطالب محلية لكل جبهة، فيما أعاد التعامل الإيراني مع العدوان على القنصلية الإيرانية في دمشق ورقةَ الحرب الإقليمية على الطاولة، ما عزَّز موقفَ المقاومةِ التفاوضيَّ وكثَّف الضغطَ الأمريكيَّ على الاحتلال.
استثمرت المقاومةُ جيدًا في تكامُل المشهد والالتزام المبدئي للجبهات الإسنادية وقوى المقاومة، التي وضعت كل مستقبل المواجهة والاشتباك في يد المفاوض الفلسطيني، ما خلق جبهة تفاوض متينة مبنية على فعلٍ مشتبِك على الأرض، خاطبت مصالحَ القوى الحليفة للاحتلال والأسئلة حول جدوى تهديد هذه المصالح مقابل استمرار حرب أصبح من الواضح أنها لن تنجح في تحقيق أهدافها وتحولت إلى ورقة مرتبطة بمستقبل "نتنياهو" السياسي.
التفاوض على مستقبل الحرب
تتجاوز حساسيةُ عنوانَي عودةِ النازحين إلى شمالي قطاع غزة، وانسحابِ الآليات من المناطق المأهولة في القطاع، الأهدافَ الآنيةَ والجوهريةَ لكلٍّ من العناوين، وصولًا إلى كونهما يمسا مباشرةً مآلاتِ الحرب واحتمالاتِ عودة العدوان الواسع على القطاع، وقطع الطريق أمام أهداف الاحتلال.
إن كلًّا من عودة أهالي شمالي قطاع غزة بِحرِّية إلى أماكن سكنهم، وإجبار جيش الاحتلال على سحب آلياته من القطاع، يضرب جوهريًّا أهدافَ الاحتلالِ من الحرب، ويقضي على كل الآمال الطامحة لحكومة الحرب الصهيونية بإعادة هندسة القطاع ديمغرافيًّا وجغرافيًّا من جانب، ومن جانب آخر تبديد كل طموحات تشكيل نظام محلي بديل حليف للاحتلال وتفكيك البنى السلطوية القائمة في القطاع، إضافةً إلى ادعاءات تفكيك البنى التحتية للمقاومة في المناطق التي شن الاحتلال عملياتِه العسكريةَ فيها.
يجري التفاوض فعليًّا على مستقبل الحرب، وعلى احتمالات عودة القتال بشكله الواسع في حال انتهاء ملف التبادل أو جزء منه، إذ تسعى المقاومة إلى تجريد الاحتلال من كل المسهِّلات التي تمكِّنه من عودة القتال من حيث انتهى بعد أن يتمكن من تسكين جبهته الداخلية وتخفيف ضغوطات أهالي الأسرى، إضافةً إلى تأمين مساحة جديدة من التفويض الدولي لاستمرار الحرب بعد فترة من الهدوء الجزئي الكفيلة بتهدئة الحراكات المساندة للشعب الفلسطيني، والتخفيف من حجم الضغط الداخلي في الحزب الديمقراطي الأمريكي المقبل على موسم انتخابي باتت الحرب على غزة تُلقِي بظلالها عليه.
وكخلاصة، فإن الضغط الحالي متعدد المستويات على الاحتلال من أجل الوصول إلى اتفاق لتبادل الأسرى يريده الاحتلال جزئيًّا ومؤقتًا وبلا آثار عملياتية على الأرض، وتريده المقاومة اتفاقًا جوهريًّا يفضي إلى وقف شامل للعدوان وإفشال واضح وصريح لأهداف الحرب، يضع المفاوضات في ذروتها في خلال الأيام القادمة، فيما ستحدِّد نتيجتُه مستقبلَ الحربِ كما المستقبل السياسي لـ"نتنياهو" و"بايدن"، والعديد من معادلات المنطقة المتفجرة.