حاز النقاش المستمر عن سيناريوهات “اليوم التالي” في قطاع غزة على المساحة الأوسع من نقاش الدول ذات العلاقة، إقليمياً ودوليا، في إطار محاولات مستميتة لهندسة كل طرف لهذا الاستحقاق بما يتلاءم مع متطلباته وتوجهاته الاستراتيجية في معالجة الملف الفلسطيني، في الوقت الذي يتجاوز فيه الجميع حقّ الشعب الفلسطيني في اختيار من يمثِّله، والحكم المسبق بأنّ هزيمة المقاومة (التي تقاتل منذ ستة شهور بصلابة) باتت محسومة.
في إطار البحث المستمر عن هندسات متعددة لمستقبل الشعب الفلسطيني وقيادته، برزت أطروحات مختلفة تنوعت ما بين تجديد السلطة الفلسطينية أو خيارات الوحدة الوطنية، وما بين العودة إلى الأصل وترتيب منظمة التحرير، وليس انتهاءً بتوجهات اليمين الصهيوني بالسيطرة الكاملة على القطاع وإعادة الاستيطان، وما بينها من سيناريوهات وأفكار متعددة منها ما هو واقعي ومنها ما لا يتعدى كونه شعارات وأضغاث أحلام، إلا أنّ الجامع الأكبر بينها انعدام الإدراك الحقيقي للبيئة المعقَّدة في قطاع غزة.
رؤية نتنياهو: خطاب دعائي ووصفة لاستدامة الحرب
بينما ظلَّ رئيس وزراء الاحتلال، “بنيامين نتنياهو”، متردداً في طرح رؤيته لليوم التالي في القطاع، أطلّ وقدّم رؤيته في وثيقة قصيرة، مؤلّفة من صفحة وربع الصفحة، قائمة بالدرجة الأساسية على إعادة احتلال القطاع وفرض السيطرة الأمنية “الإسرائيلية” عليه، والعمل تالياً مع مكونات محلية لفرض حكم مدني موالٍ للاحتلال، في ما تحتفظ “إسرائيل” بسيطرتها الأمنية على القطاع، كما ستتولى السيطرة بشكل أكبر على الحدود الجنوبية لغزة، بالتعاون مع مصر “قدر الإمكان”، وسوف تقيم مناطق عازلة على الحدود لمنع التهريب وضمان عدم وقوع المزيد من الهجمات.
رؤية “نتنياهو”، التي سبق وأن اختزلها بأنّه لن يسمح بأن يكون في قطاع غزة “حماستان، ولا فتحستان”، تتركز بالدرجة الأساسية على فكرة تفكيك أي منظومات حكم فلسطيني، واستبدالها وفقاً للوثيقة بأن يقوم “مسؤولون محليون” لديهم “خبرة إدارية” وغير مرتبطين بـ”دول أو كيانات تدعم الإرهاب” بإدارة الشؤون المدنية في غزة، في ما تجنّبت الوثيقة تقديم أي إشارة لأي دور للسلطة الفلسطينية في القطاع.
كان من الواضح أنّ خطة “نتنياهو” لليوم التالي غير مرتبطة بدرجة أساسية برؤية حقيقية موجودة لدى رئيس وزراء الاحتلال وموجَّهة للعالم، لا في شكل إخراجها وإعلانها للرأي العام في “إسرائيل” ولا في مضمونها، بل إنّها مرتبطة بشكل أو بآخر بخطاب دعائي لليمين الصهيوني، مصمَّمة وفق متطلبات حلفاء “نتنياهو” في الائتلاف الحكومي، “بن غفير” و”سموتريتش” للحفاظ على شريان الحياة لائتلافه الحكومي، ووصفة لإطالة أمد الحرب واستكمالاً للأهداف الهلامية التي لا يمكن تحقيقها ولا يوجد أداة لقياسها.
البحث عن حليف يُمرَّر على الدماء والجوع
بحث جيش الاحتلال مطولاً في قطاع غزة عن حليف يتولى ولو شكلياً عملية توزيع المساعدات، ليقدّم نموذجاً عن إمكانية إيجاد حلفاء محليين يعملون مع الاحتلال، ولو شكليا، للحصول على مظهر دعائي يمكن أن يخلق أرضية للحديث عن واقعية الخيارات المطروحة.
كان الخيار الأساسي في عمليات البحث التحالف مع العشائر والحمولات العائلية، والاستثمار في العلاقة معها، لتحويلها إلى أداة مدنية تعمل لصالح خدمة أهداف الاحتلال وتتولى مبدئياً توزيع المساعدات، وتنخرط تدريجياً في عملية تلبية الاحتياجات المدنية للسكان تحت مسؤولية جيش الاحتلال.
في الإطار ذاته، عمل جيش الاحتلال على تكثيف استهداف كل القدرات الأمنية والحكومية لمنع أي شكل من أشكال العمل الرسمي من النشاط في مناطق شمال القطاع بالتحديد، وحوّل عملية الحصول على المساعدات إلى رحلة موت باستهداف جموع الجائعين المنتظرين وصول شاحنات الإغاثة على شارع الرشيد جنوب غرب مدينة غزة، بهدف إعدام كل فرص الحصول على مقومات الحياة بالطريقة المعتادة، وتسهيل إمكانية تمرير أي وكلاء محليين والقبول الشعبي بالتعامل معهم، من بوابة حصر خيار الحصول على مقومات الحياة الرئيسية عبر هذا المسار، فيكون الخيار إما القبول به وإما الموت جوعا، أو النزوح جنوبا.
أغلق جيش الاحتلال كل طرق الحياة، وسهّل وسمح -ولربما شغل- مَن يثير أجواء الفوضى والبلطجة لتسييد عقلية الغاب، وفي سياقه ضرب كل مقومات الأمن والنظام، لكن على الرغم من كل ذلك، بقيَت حلقة أساسية ناقصة، ألا وهي الأداة على الأرض: مَن يستجيب لمخططات الاحتلال، ويؤدي الدور المطلوب لخلق نظام بديل.
البيئة المعقّدة لقطاع غزة
كان الموقف المبدئي للعشائر في غزة، الرافض للاندماج في أي مسارات مشابهة هادفة لخلق بيئة مدنية متعاونة مع الاحتلال، ورفض غالبية عشائر غزة المطلَق لأي نوع من أنواع التواصل مع الاحتلال، واصطدام كل المحاولات حتى عبر وسطاء تحت ستار بعض المؤسسات الدولية لأداء الدور المطلوب، موقفاً مهماً ومحوريا، إلا أنّه ليس بالعامل الحاسم فقط.
على الرغم من الحضور والوزن العشائري في القطاع، فإنّ طبيعة تركيبة مستويات النفوذ وصنع القرار والتأثير في القطاع لا ترتبط ارتباطاً وثيقاً بهيمنة العشائر على المجتمع، ولا بقدرتها على فرض سطوتها العشائرية ضمن هرم التأثير بالقطاع.
في التوزيع الديمغرافي في قطاع غزة، 66% من سكان القطاع من اللاجئين، موزعين على ثمانية مخيّمات للاجئين منتشرة في محافظات القطاع الخمس، ما يخلق معادلة من الصعب فيها سيادة السطوة العشائرية أو النزعات العصبوية، بينما لا توجد أي عشيرة في القطاع يفوق نفوذها الحي الذي تقطنه، مثل عشائر أحياء الشجاعية أو الزيتون أو الصبرة، أو بيت حانون وبيت لاهيا، وخان يونس ورفح.
في المقابل، بيئة القطاع بيئة منظَّمة، سمحت سنوات طويلة من النشاط الفصائلي والحزبي المرتاح نسبيا، والذي توسّع بعد الانسحاب من قطاع غزة، بأن تبني القوى الوطنية والإسلامية قواعد متينة وصلبة على امتداد القطاع، يسود فيها الحضور التنظيمي كل تجمع سكاني في قطاع غزة، بما فيها التجمعات العشائرية الكبرى، ما يجعل جمهور القطاع في غالبيته الكبرى جمهوراً منظّماً يحظى بصلات تنظيمية وفصائلية مباشرة أو غير مباشرة، ويقع ضمن حدود تأثيرها.
في السياق ذاته، وعلى الرغم من هول عمليات كي الوعي المستمرة منذ ستة شهور ضد أهالي قطاع غزة، بهدف تأليب الحاضنة الشعبية على المقاومة، وتخليق بيئة معادية للمقاومة، فإنّ جمهور القطاع يمتاز بصلابة انتمائه، وتمسّكه بأرضه وحقّه في الحياة، وحقّه أيضاً في المقاومة، ومن تمسّك ببقائه في منزله، ومن يزحف تحت النيران يومياً لرفض مخططات التهجير، لن يقبل بأن تُمرَّر اليوم المؤامرات بفعل ضغط التجويع.
على الرغم من المحاولات المحمومة، بالترهيب والترغيب، وباستخدام كل أساليب الدعاية، لم ينجح الاحتلال -ولن ينجح- في خلق صيغ مدنية من داخل القطاع تقبل التعامل مع الاحتلال، وتُشكّل مساراً يمكن لحكومة الحرب الصهيونية الاتكاء عليه بكون سيناريوهات خلق إدارات بديلة تتبع الاحتلال وتؤدي أدواره سيناريوهات واقعية، ما يُثبته عدم نجاح هذا الخيار على الرغم من شهور ستة من القتل والدمار المستمر بحقّ أهالي القطاع، والتجويع والحصار بحقّ أهالي الشمال المنكوبين، دون أن تفلح هذه السياسات في خلق واقع بديل يقبل بالاحتلال.
ومن المهم الإدراك أنّ بيئة قطاع غزة ليست بيئة سلسة لتمرير مخططات خبيثة، ولا بيئة يمكن فيها تمرير صيغة تُصنَع في غرف المخابرات، أو الاجتماعات الإقليمية، أو بحث “نتنياهو” عن إعادة الحياة لمستقبله السياسي، فبيئة قطاع غزة منيعة، وطابعها الرئيس هو الرفض والعزة والكرامة.