نشر موقع "ميدل إيست آي" البريطاني، مقالا لرئيس تحريره الكاتب دافيد هيرست، يتحدث فيه عن العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وتداعياته في الدول المحيطة، لا سيما الأردن.
وأوضح هيرست في مقاله اأن الأردن شهد زلزالا عنيفا بسبب محاولات الاحتلال الإسرائيلي تفريغ قطاع غزة من سكانه.
وتاليا الترجمة الكاملة للتقرير:
من أطلال كنيسة ودير، يعودان إلى القرن الرابع الميلادي، على رأس جبل نيبو – الذي بحسب ما ورد في سفر التثنية هو الذي أمر الرب موسى بأن يصعد إليه ليلقي نظرة على أرض الميعاد قبيل وفاته – تنفرش فلسطين أمامك كالبساط.
مباشرة أمامك يقع وادي الأردن، وفي الوسط منه تقع مدينة أريحا. وفي الأفق تتلألأ أنوار القدس.
إنها البقعة التي اختارها زعماء المسيحية رمزاً للسلام. ففي عام 2000، غرس البابا جون بول الثاني شجرة زيتون بجوار الكنيسة البيزنطية. وأما البابا بنديكت فزار المكان بعد ذلك ببضعة سنين.
تقع أقرب نقطة عبور على الحدود الأردنية على مسافة من الطرف الجنوبي لمدينة تل أبيب تساوي نفس المسافة التي بين هذا الطرف وقطاع غزة. يحسن بزعماء إسرائيل وبشعبها أن يتذكر هذه الحقيقة البسيطة – إذ أن ما ينبغي أن يولوا وجوههم نحوه للحكم على تداعيات هذه الحرب ليس مصر ولا لبنان، وإنما شرقاً تجاه الأردن.
لقد تزلزلت المملكة من رأسها إلى أساسها بسبب محاولات إسرائيل المعلنة والفعلية لتفريغ غزة من سكانها.
من قمة هرم، اتهمت الملكة رانيا، زوجة الملك الفلسطينية، الزعماء الغربيين بممارسة المعايير المزدوجة بشكل سافر لإخفاقهم في التنديد بقتل المدنيين في القصف الإسرائيلي.
وقال رئيس الوزراء بشر الخصاونة إن تهجير الفلسطينيين خط أحمر بالنسبة للأردن، وهو انتهاك جوهري لمعاهدة السلام بين بلده وإسرائيل، بينما قال وزير الخارجية أيمن الصفدي إن ذلك يمكن أن يعتبر بمثابة ”إعلان حرب“.
ومن القاعدة، تحتدم المشاعر وما تزال. وما أن دعا أبو عبيدة، المتحدث باسم كتائب القسام، الأردنيين إلى التحرك، حتى جاء الرد سريعاً.
هتف أحد الزعماء القبليين في المزار قائلاً: ”تحية طيبة مباركة من هنا، لمن؟ لأبي عبيدة. الشخص الوحيد الذي ذكر فضل الأردن. أول مرة نسمعها أن الأردن كابوس عند الصهاينة. فلسطين عندنا، عند الأردنيين، ليست حجارة وطين، فلسطين عند الأردنيين ليست تين وزيتون، فلسطين عند الأردن عقيدة ودين. من المزار الأبية لأبي عبيدة تحية. من الكرك الأبية، لغزة تحية.“
معاهدة السلام رهن المراجعة
كما لا ينبغي أن نختزل إلى مجرد كلام ذلك الارتفاع الملحوظ في تأييد الأردنيين لحركة حماس، التي تصنف منظمة إرهابية من قبل إسرائيل وغيرها من الدول، بما في ذلك بريطانيا، ولكن ليس من قبل الأردن.
كان الخصاونة محقاً. فإن أي تهجير للفلسطينيين من أي جزء من فلسطين يمكن أن يدفع الأردن نحو تمزيق معاهدة سلامه مع إسرائيل، بعد أن ظلت صامدة هناك لعقود على الرغم من استمرار هذا الصراع.
بادئ ذي بدء، هذه الحقيقة مدونة في الوثيقة، تنص المادة 2.6 من المعاهدة التي وقعها الملك حسين مع رئيس الوزراء الإسرائيلي حينذاك إسحق رابين، على أنه ”لا ينبغي السماح بالتهجير القسري للأشخاص بشكل يمكن أن يهدد أمن أي من الطرفين.“
ولذلك، لا ينبغي التقليل من أهمية مبادرة البرلمان الأردني بمراجعة المعاهدة، ولا من أهمية رفض الأردن التوقيع على صفقة برعاية الإمارات العربية المتحدة يقوم الأردن بموجبها بتزويد إسرائيل بالكهرباء مقابل الحصول منها على المياه.
يعتبر مروان المعشر، نائب رئيس الدراسات في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، مستودعاً للتقلبات التي تطرأ على علاقات الأردن مع إسرائيل. كان المعشر هو من افتتح أول سفارة أردنية في إسرائيل، كما لعب من خلال منصبه كوزير للخارجية دوراً مركزياً في تطوير مبادرة السلام العربية التي أعلن عنها في عام 2002، والتي ثبت أنها كانت آخر فرصة حقيقية لحل الدولتين انطلاقاً من حدود إسرائيل عام 1967. فلو كان هناك من يؤمن بصيغة الأرض مقابل السلام، فإنه مروان المعشر.
أما اليوم، فإن ما يقوله لا يبعث على التفاؤل، وهو الذي يشير محقاً إلى أن قصف إسرائيل لغزة بعث من جديد مخاوف قديمة لدى الأردنيين من أن إسرائيل قد تسعى لإيجاد أو استخدام ظروف الحرب من أجل الدفع بعدد ضخم من الفلسطينيين من غزة إلى مصر ومن الضفة الغربية المحتلة إلى الأردن.
لم يعد سراً أن إسرائيل لديها الرغبة فعلاً في فعل ذلك. فمن الناحية الأيديولوجية، لم يفتأ حزب الليكود، منذ مناحيم بيغن وحتى الآن، يرى في الأردن باستمرار وطناً بديلاً للفلسطينيين. ولا أدل على ذلك من أن وزيرين في الحكومة - على يمين الليكود - يصرحان علانية بأن الفلسطينيين ليس لهم الحق في العيش داخل الضفة الغربية. أحد هذين الوزيرين، وهو وزير المالية بيزاليل سموتريتش، هو أول وزير في الحكومة يكلف بمهمة الإشراف على الحياة المدنية في الأراضي المحتلة.
في تحليل أخير له في مؤسسة كارنيغي، كتب مروان المعشر يقول: ”من وجهة نظر الأردن، لقد بات التهجير الجماعي إمكانية واقعية، وليس مجرد كلام نظري. إذا كانت إسرائيل لا تريد لا دولة فلسطينية ولا أغلبية فلسطينية، فإن البديل الوحيد في هذه الحالة هو محاولة تنفيذ تهجير جماعي لأكبر عدد ممكن من الفلسطينيين …. حتى الآن، تنطبق ظروف الحرب فقط على غزة، ولكن الأردن يساوره القلق من أن غزة قد تشكل سابقة لتصعيد مشابه في الضفة الغربية.“
وأضاف: ”ها هي مجموعات المستوطنين تداهم القرى الفلسطينية يومياً بدعم من الجيش الإسرائيلي، وتهجر الفلسطينيين من ديارهم. وهذا يعطي الانطباع بأن المتطرفين داخل الحكومة الإسرائيلية يرون بأن الحرب الحالية في غزة هي فرصة سانحة من أجل تنفيذ التطهير العرقي في الضفة الغربية.“
مخاوف من الحرب المقدسة
لم ينجح الملك حسين إطلاقاً في تكرار العلاقة الدافئة التي كانت له مع رابين مع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الرجل الذي أمر بتنفيذ محاولة اغتيال القيادي في حماس خالد مشعل، والذي أجبر من قبل الملك حسين على توفير المصل المضاد للسم الذي حقنه عملاء الموساد في هدفهم.
ولم يكن حظ الملك عبد الله أفضل من حظ والده، وذلك على الرغم من أنه خريج كلية ساندهيرست ولديه ميولات أطلسية. بسلوك المنتصر اللامبالي، لم تزل إسرائيل، وباستمرار، تستخدم الأردن، في أحسن الأحوال، كمنطقة عازلة. ولم يغب عن الهاشميين أن المحفز الأساسي من وراء الدفع باتجاه تطبيع العلاقات مع المملكة العربية السعودية كان خطة لدى إسرائيل بهدف استبدال الدور الأردني التاريخي كوصي على الأماكن المقدسة في القدس. ولقد صدرت من مقربين من العائلة الملكية في الأردن أصوات تحذر من أن التغييرات التي تسعى إسرائيل لإحداثها في الوضع القائم في المسجد الأقصى يمكن أن تشعل نار حرب مقدسة مع العالم الإسلامي قاطبة.
في أسوأ الأحوال، تنظر إسرائيل إلى الأردن باعتباره كياناً غير مريح لابد من تجاوزه، مثله في ذلك مثل الفلسطينيين، عبر إبرام صفقات تجارية متألقة مع دول الخليج الثرية بالنفط والغاز. لم يزل ذلك كله يتراكم في أذهان الأردنيين قبل وقت طويل من لحظة تلويح نتنياهو بخارطة إسرائيل التي صممها بحيث لم يبق لفلسطين فيها وجود، وذلك في ظهور أخير له أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة.
ومع ذلك ثمة سبب أعمق للفزع الأردني، ولليقين بأنه لا ينبغي أن يسمح لإسرائيل بالنجاح في غزة.
منذ سبعينيات القرن الماضي وحتى الآن، لم يزل الفلسطينيون - الذين يشكلون ما يقرب من ستين بالمائة من تعداد السكان في الأردن ويحملون الجنسية الأردنية - باستثناء اللاجئين الذين ينحدرون من قطاع غزة - يرون في أنفسهم مجرد جمهور من المتفرجين كلما اندلعت حرب. بعد أن انتهت الحرب الأهلية بطرد منظمة التحرير الفلسطينية، فقد الفلسطينيون في الأردن كل إحساس بأنهم شركاء بأي شكل من الأشكال في الصراع، وخاصة أن الملك لم يسمح لأي من فصائل منظمة التحرير الفلسطينية بأن يكون لها وجود جماهيري داخل الأردن.
ثم عندما أصبحت حماس مهيمنة في الشتات الفلسطيني، تعرضت هي الأخرى للطرد. أما جماعة الإخوان المسلمين في الأردن، وكما يقول أحد الأعضاء البارزين في الجماعة، فقد غدت علاقتها مع حماس ”معقدة ومثيرة للجدل“ منذ أن نقلت حماس قيادتها من الأردن إلى سوريا في عام 1999.
ما لبث أن هدأ الشجار بينهما حينما اتفق الطرفان على التعايش. إلا أن الحركة الإسلامية ابتليت بالانشقاقات، وبشكل أساسي حول ما إذا كانت الأولوية قد منحت للقضية الفلسطينية على حساب الأجندة الأردنية المحلية. على عكس ما عليه الوضع في لبنان أو سوريا، لا يوجد لدى حماس في الأردن أعضاء أو تنظيم جماهيري، بل الإسلاميون في الأردن جزء من تنظيم جماعة الإخوان المسلمين.
مخاطر ومجازفات
بات جل ذلك اليوم من الماضي، وصارت الحوارات في عمان بين الفلسطينيين تتجه في خطوط مختلفة تماماً.
قال لي أحد الفلسطينيين في عمان: ”نحن في الأردن، فلسطينين وأردنيين، لدينا ارتباطات أوثق مع فلسطين من حسن نصر الله (زعيم حزب الله في لبنان). فنحن سنة، وننتمي إلى نفس العشائر. فكيف لنا أن نلوم حزب الله على عدم القيام بما هو أكثر بينما نحن لا نشارك إلا في المظاهرات؟ لا يمكن لهذا الأمر أن يستمر.“
والحقيقة التي لا مراء فيها هي أن انبعاث الهوية الفلسطينية، والذي أشعل حركة الاضطراب المدني في المدن المختلطة داخل إسرائيل في عام 2021 في أوساط المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل، يحدث الآن في الأردن.
ولسوف يكون لذلك تداعياته الكبيرة، حيث سيفتح أمام الجماعات المسلحة الفلسطينية مخزوناً ضخماً من المجندين المحتملين، ومن التمويل، بل والتسليح.
ما تحظى به حماس من دعم داخل الأردن يتجاوز الانقسامات العرقية، ولا يقل التزام الأردنيين الشرقيين عن غيرهم في الرد على إسرائيل. في حديث مع أحد الصحفيين المحليين، قال طراد الفايز، وهو من الزعماء القبليين المهمين وينتمي إلى عشيرة الفايز من قبيلة بني صخر: ”كلنا ندعم حماس والمقاومة. الأردنيون والفلسطينيون موحدون ضد إسرائيل.“
ولكن لا تحتاج حماس إلى الترويج لنفسها في الأردن، ويكفيها ما يمارسه المستوطنون والجيش الإسرائيلي، الذي بات الآن تحت قيادة المستوطنين، داخل الضفة الغربية المحتلة.
قبل تسعة أيام ظهرت صفحة على منصة الفيسبوك تحمل الرسالة التالية: ”إلى أهل جنين: تسعة أيام. غادروا الآن … هاجروا إلى الأردن.“ رافق الرسالة مقطع فيديو تظهر فيه الطريق التي ينبغي أن يسلكها الفلسطينيون في جنين باتجاه إربد في شمال الأردن. لم يلبث فيسبوك أن حذف الصفحة بعد أن انهمر عليه وابل من الشكاوى.
بعد تسعة أيام بالضبط، أعلن الجيش الإسرائيلي جنين منطقة عسكرية مغلقة، في عملية ماتزال مستمرة حتى الآن.
كما لاحظ السيناتور الأمريكي مارك وارنر، رئيس لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ، فإن معظم الاحتياطي الذي استدعي من قبل الجيش الإسرائيلي ينتمي أفراده إلى عائلات المستوطنين. ولذلك من الحماقة انتظار أن يبادر الجيش الإسرائيلي إلى منع الهجمات التي يشنها المستوطنون على البلدات الفلسطينية في الضفة الغربية المحتلة، إذ لم يعد ثمة ما يميز هؤلاء عن أولئك، وكل ما في الأمر أنهم يتبادلون الزي، لا أكثر.
يفعل الأردن ما في وسعه. لقد أغلق الحدود وشدد الحراسة عليها للحيلولة دون أن يقوم المستوطنون بدفع الفلسطينيين باتجاهه، كما أقام مستشفى ميداني في نابلس.
ومع كل يوم يمر على الحرب في غزة، تتزايد المخاطر المحدقة بالمنطقة. في هذه الأثناء ترتكب واشنطن خطأ جسيماً حين تظن أن فلسطين يمكن أن تهدأ من خلال استئناف نفس العملية، التي كان المعشر واحداً ممن سخروا أنفسهم مهنياً لإنجازها، ولم يفلحوا.
المستوطنون ماضون في مسيرتهم، والأرض التي يرغبون في انتزاعها لن تبقى مجالاً لقيام دولة فلسطينية إلى الأبد. والمزاج المهيمن في إسرائيل مزاج عنف وقسوة. تريد إسرائيل نزالاً حتى النهاية، وكأنما يحدثون أنفسهم قائلين ”إما نحن أو هم“. ولن يحول وقف إطلاق النار في غزة دون ذلك.
قد لا يعلمون أن إسرائيل بتدميرها غزة إنما تفتح جبهة عريضة على حدودها الشرقية - وهي جبهة لم تزل هادئة منذ ما يزيد عن خمسين عاماً.
لن تبقى هادئة بعد الآن.