بعد 30 يوماً من الحرب العدوانية على قطاع غزة، لا زال جيش الاحتلال يبحث عن الانتقام الأكثر دموية في التاريخ العدواني الصهيوني، مدفوعاً برغبته في ترميم صورته التي حطّمها المقاومون الفلسطينيين في الضربة الأكبر لجيش الاحتلال ومنظومات الأمن والاستخبارات والتحصينات التي تهشّمت في السابع من أكتوبر بالعبور الكبير إلى مستوطنات ما يُسمى “غلاف غزة” وإسقاط المقاومة لـ”فرقة غزة” في جيش الاحتلال وإخراجها من الخدمة.
إجهاض نتائج عملية طوفان الأقصى
يتحرك جيش الاحتلال من منطلق أساسي، أنّ السماح بانتصار المقاومة في هذه المعركة، يعني القبول بالتحوّل الاستراتيجي الذي أحدثته ضربة المقاومة المدوية في غلاف غزة، وبالتالي تحويل الضربات الكبرى بهذا الحجم إلى نمط عمليات قد يغلب مستقبلاً على الضربات الهجومية للمقاومة التي باتت أقوى وأكثر حضوراً في جبهات مختلفة وعلى حدود فلسطين المحتلة من جنوبها إلى شمالها، وسط توسّع في حجم التنسيق والتكامل ما بين مكونات محور المقاومة والجبهات المتداخلة، إضافة لتصاعد المقاومة المُسلحة في الضفة الغربية.
هذا التحول الاستراتيجي الذي لا يريد جيش الاحتلال تمريره، يشاركه في تشخيصه المستوى السياسي ومجلس الحرب على اختلاف توجهاته، حيث يُقدّر قادة الاحتلال أنّ تمرير هذا الانتصار بدون رد صارخ ومجنون، سيعني أنّ المرحلة الجديدة من معارك الاحتلال مع المقاومة ستشمل عمليات مشابهة وربما أكبر (حزب الله منذ سنوات رفع شعار تحرير الجليل) وهو ما يجعل من مثل هذه الشعارات، شعارات واقعية يمكن تنفيذها وإسقاط تحصينات الاحتلال ونقل المعركة إلى الأراضي المحتلة.
حسابات مختلفة
نقطة الفرق ما بين المستوى السياسي والمستوى العسكري في كيان الاحتلال ترتبط بدرجة أساسية بكون الجيش لا يمتلك حسابات انتخابية، إنّما يندفع من منطلق ترميم الصورة واستعادة ثقة الجمهور به، ومحاولة إعادة الحياة لمفهوم “الردع” والقدرات “القاهرة” لجيش الاحتلال.
أما حسابات المستوى السياسي فهي مختلفة، وتدخل ضمنها الاعتبارات الانتخابية لرموز مجلس الحرب وبشكل أساسي رئيس الوزراء “بنيامين نتنياهو” ورئيس حزب المعسكر الوطني “بني غانتس” الذي يتصدر استطلاعات الرأي، حيث يأخذ كلاهما بعين الاعتبار الترتيبات الانتخابية والمستقبل السياسي في تقييمهم وتعاملهم مع ملف الحرب الحالية على غزة.
“نتنياهو” يعي أنّ مستقبله السياسي بات على المحك بشكل جدي هذه المرة، إلا أنّه وكعادته سيبقى يناور للحظة الأخيرة في محاولة البحث عن نقطة هروب من الأزمة الخانقة الحالية لضمان موقعه في رئاسة الوزراء ومستقبله السياسي، وهذا ما يؤكده تنصّله من تحمل المسؤولية، وتحامله على المسؤولية وقادة الجيش والاستخبارات الذين تحملوا المسؤولية علانية، وبالتالي فإنّ صورة فاقعة للنصر في قطاع غزة وإطالة أمد العملية العسكرية لحين وضوح ملامح أفضل سياسياً وتراجع صورة الهزيمة من عقل الناخب الصهيوني، هي الشكل الأمثل لبحث نتنياهو عن مدخل لإنقاذ مستقبله السياسي.
على المقلب الآخر، ومنذ أزمة التعديلات القضائية، قدّم غانتس نفسه باعتباره الجنرال الحكيم، رجل الجيش الوطني الذي يضع المصالح العليا نصب عينه، وهو ما دفع غانتس منذ البداية إلى التمايز في مواقفه وسلوكه السياسي عن زعيم المعارضة “يائير لابيد” الذي لا يحمل خلفية عسكرية، ومدفوعاً بالعداء المباشر لنتنياهو أكثر من حمله لأفق سياسي حقيقي، وفي ذات السياق نبع موقف غانتس بقبول المشاركة في مجلس الحرب الذي يقود الحرب على غزة الآن، ليحافظ على صورة وشعار أنّ المصلحة العليا بالنسبة له هي الأولوية عن التناقضات السياسية، بينما سلوكه السياسي مغاير فهو حريص على إظهار خطاب متمايز عن نتنياهو في إدارة الحرب، ويعكس خطاباً أكثر انفتاحاً على أهالي الأسرى لدى المقاومة، ويقدّم نفسه كجنرال صاحب خبرة سيمثّل دوره في إدارة الحرب إضافة نوعية في وجه كابينت نتنياهو وشركائه عديمي الخبرة (بن غفير وسموتريتش).
في ما يحمل المكون الثالث من الفريق الثلاثي الأساسي في مجلس الحرب، وزير الحرب “غالانت” موقف الجيش بشكل كامل، ويتبنى توجهاته، ولا يبحث عن مستقبله السياسي بقدر ما يبحث عن عدم خروجه من المعترك السياسي الصهيوني بوصمة أنّه وزير الحرب الذي تلقّت “إسرائيل” في عهده الضربة الأكبر في حياتها، والتي شكّلت التحول الاستراتيجي ونقلت الصراع إلى مستويات يتلقى فيها الكيان ضربات نوعية بهذا الحجم، وبالتالي يحمل “غالانت” ذات الموقف المندفع الذي يحمل قادة المؤسسة العسكرية في الكيان.
هذه الحسابات المُعقدة تجعل من الحرب على غزة مادة للسعار الصهيوني الذي لا يتوقف، ولا يكتفي من كمية الدماء والجرائم بحقّ المدنيين العُزل في القطاع، والتي وصلت إلى حد غير مسبوق من المذابح والقتل الجماعي لأهالي القطاع، والخوض في حرب بلا هوادة لا تحمل أهدافاً قابلة للتحقق أصلا، وحالة التيه السياسي والخوف من التعامل الجدي مع قضية الأسرى لكي لا يتحمل أي أحد تعبات الأمر، سواء أكان مصير الأسرى القتل بسبب العمليات القتالية في غزة، أو الوصول لصفقة أسرى كبرى، في حين يدرك الجميع أنّ خيار تحرير هؤلاء الأسرى بالعمليات الحربية هو غير منطقي ولا واقعي وللمقاومة تاريخ كبير في القدرة على الحفاظ على أسراها.
الولايات المتحدة، الشريك الرئيسي في الحرب على غزة، والتي أمّنت التفويض الدولي اللازم ليستمر العدوان الهجمي على القطاع، إلا أنّ استمرار العمليات العسكرية بهذه الوتيرة، وحجم المذابح الكبرى بحقّ المدنيين أمام مرأى ومسمع وسائل الاعلام، وارتفاع وتيرة الحراكات الجماهيرية في دول العالم الرافضة للعدوان على قطاع غزة، إضافة للتهديد الجدي الذي بدأ يلحق بالمصالح الأمريكية في المنطقة نتيجة ضربات قوى وفصائل المقاومة وبشكل خاص العراقية، والاحتمالات الواسعة التي فتحها خطاب السيد حسن نصر الله عن احتمالية توسع المواجهة لحدود المواجهة الإقليمية، جعلت الحسابات الأمريكية تختلف، وهو ما دفعها إلى البحث عن إطروحات “التهدئات الإنسانية” التي كانت ترفضها سابقاً وباتت اليوم ترى فيها خياراً مهماً وحيويا.
الموقف الأمريكي وحدود التأثير
وزير خارجية الولايات المتحدة، أنتوني بلينكن الذي جاء إلى المنطقة في رسالة دعم للكيان الصهيوني تزامناً مع خطاب أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله، حمل معه أطروحات متعددة للهدن الإنسانية وإدخال الوقود والمساعدات للقطاع، تشمل في طياتها حتى البحث في إنهاء ملف الأسرى الأجانب لدى المقاومة، الذين تعهدت بإطلاق سراحهم، وقد لاقت هذه الأفكار في البداية تجاوباً من المستوى السياسي في الكيان وهذا ما نقلت وسائل إعلام عبرية عن مكتب نتنياهو، إلا أنّ المتحدث باسم الجيش قد قطع هذا الحديث وأكد أنّه لا مجال للحديث عن تهدئات أو إدخال للوقود، وهو ما يعكس إصرار الجيش على قطع الطريق أمام المستوى السياسي والاستمرار في الاندفاعة بالعملية العسكرية، وما انعكس في ما بعد على موقف نتنياهو الذي آثر الاستمرار بذات المسار ورفض مقترحات التهدئة وإدخال الوقود للقطاع.
بلينكن الذي التقى مع قادة الدول العربية ذات الاحتكاك المباشر بالملف الفلسطيني في الأردن، يبدو أنّه حمل معه رزمة من المقترحات لما يُسمى بـ”اليوم التالي” بعد انتهاء الحرب، والذي يتمحور حول رؤية من يحكم غزة، إلا أنّه من الواضح أنّ هذه الأطروحات ليست أرضية إقليمية حقيقية يمكن أن تتوافق عليها الدول ذات العلاقة، إضافة لإدراك العديد من هذه الأنظمة منطقية أن يقبل أي طرف أن يأتي لحكم القطاع على ظهر دبابة صهيونية، ناهيك أنّ مجريات الميدان تحسم بما لا يدع مجالاً للشك أنّ الحرب العدوانية على غزة لم تنجح في تحقيق أهداف عملياتية حقيقية.
بالرغم من التراجع الجزئي في الموقف الأمريكي وتصاعد الخطاب والرأي العام العالمي الرافض لاستمرار الحرب على قطاع غزة، وهو ما عّبر عنه وزير الخارجية الأمريكية باعتباره أنّ “وقف إطلاق النار مهم من أجل الرأي العام العالمي” إلا أنّ الحسابات المُعقدة داخل الكيان، والموقف المتصلب للمؤسسة العسكرية، إضافة لعدم تحقيق أي نتائج حقيقية أو ظهور ملامح تقهقر في بنى وهياكل فصائل المقاومة، ستجعل من خيار وقف إطلاق النار خياراً بعيدًا في الأيام المنظورة القريبة، ولن يساهم أي عامل في تحويله إلى خيار مطروح بإستنثاء مجريات الميدان ونتائج العملية البرية وخسائر جيش الاحتلال فيها، إضافة لوتيرة الاشتباك والمواجهة في الساحات الأخرى وتحولها لساحات استنزاف جدية للاحتلال تدفعه لحساب أولوياته بشكل أكثر عقلانية.