رام الله - خاص قدس الإخبارية: قبل بدئها، اتكأت معركة "طوفان الأقصى" في مرحلة الإعداد على عناصر السريّة التامة، والتعمية الاستخباراتية، والخداع والتضليل السياسي-الاستراتيجي للاحتلال، الأمر الذي مكنّ المقاومة من إحقاق المفاجأة وإيقاع الصدمة في اللحظة التي تحولت فيها المعركة حقيقةً على الأرض.
لطالما استند "الأمن القومي الإسرائيلي"، نظرياً، على 3 مبادئ؛ الحسم السريع، والحرب خارج "أراضي كيان الاحتلال"، وردع الخصوم. ومن المعروف أن هذه المبادئ تزعزعت في العقدين الماضيين بفضل تطوير بنية مقاومة مسلّحة عمادها غزة وجنوب لبنان.
المدهش هذه المرة أن كتائب القسام لم تنسف المبادئ الثلاث في غضون ساعات فحسب؛ بل حققت اختراقاً في ما هو غير مطروح أصلاً ضمن سيناريوهات الاحتلال، نتحدث هنا عن تمّكن المقاومين من اختراق "الحدود" ومباغتة الجنود في قواعدهم العسكرية وأسر وقتل عدد كبير منهم، والتجول داخل المستوطنات واقتحام البيوت.
لو كان خبر "تسلل المقاومين إلى داخل المستوطنات" أذيع من دون أن يُبّث بالفيديو، لكان قد نشر الرعب والهلع في نفوس المستوطنين والقادة الأمنيين، فكيف إذن بخبرٍ ملحقٍ بمشاهد غير مسبوقة وفيديوهات وتوثيقات متتالية لكتائب القسام في الساعات الأولى من العملية، هذا ما سيُخلّف ندوباً غير قابلة للشفاء في الوعي والتكوين النفسيّ الجماعيّ داخل المجتمع الصهيوني.
المقاومة في جبهة الحرب النفسية
مع مراكمة التجربة العسكرية، تزايد إدراك المقاومة الفلسطينية لمبادئ الحرب النفسية، وأهمها؛ بناء شبكة مصداقية بين الفاعل العسكري والمتلقي، من خلال صحة الرسائل والحقائق والمعلومات التي يبثّها دون مبالغة أو كذب. وقد بدا واضحاً أن كتائب القسام اعتنت بالتحضير للتوثيق والتصوير وتنظيم النشر بنفس مقدار اعتنائها بالتحضير الدقيق لتنفيذ العملية على الأرض.
وتوظف الحرب النفسية، خاصةً في الحروب اللامتكافئة، رسائل ضمنية ترّكز على خلق وتعزيز مشاعر الذنب والخوف وانعدام الأمن لدى جمهور الاحتلال، وزرع الشك وعدم الولاء بين صفوف قواته العسكرية، وهو ما أتقنته كتائب القسام هذه المرّة.
في مقابل ما أظهرته المشاهد المُصوّرة من تمكّنٍ عالٍ لدى عناصر القسام، برزت حالة الخوف والعجز في صفوف الجنود الذين أصيبوا على ما يبدو بالشلل في الساعات الأولى، بسبب ضرب الصفوف القيادية وأهمها "فرقة غزة"، الأمر الذي عجّل كثيراً من بروز أصوات إسرائيلية حول اختراق حركة حماس لجيش الاحتلال والاستخبارات، في تعبيرٍ صارخ عن حجم الصدمة مما حدث.
تلك الأصوات دفعت القنوات التلفزيونية الإسرائيلية لتخصيص جهدٍ دعائيٍّ تعبويٍّ في بدايات المعركة، لنفي تصريحاتٍ يتم تداولها على نطاقٍ واسع عبر مواقع التواصل الاجتماعي في أوساط الاحتلال، وتبنّاها بعض المشاهير الإسرائيليين والجنود السابقين، تقوم على ادعاء أن خيانةً ما كانت السبب في سقوط الخط الدفاعي للجيش.
ورأينا تصريحات من محللين عسكريين وضباطٍ في جيش الاحتلال من قبيل: "هل اخترقت حماس جيشنا واستخباراتنا؟ لقد كان طائر واحد يمرّ عبر السياج كفيلا بإيقاظ كلّ الجنود المكلفين بالبقاء وعيونهم متسمّرة أمام الشاشات."
لم يعتد الجمهور الصهيونيّ على مثل هذا الخطاب الذي من شأنه أن يترك أثراً في وعيه ويغيّر نظرته اتجاه جيشه وقياداته الأمنية والسياسية. ويُعدّ هذا من أهم النتائج التي يمكن أن تحققها الحرب النفسية.
ومما يزيد من وقع هذا التأثير، أن جزءاً من حيثيات المعركة أثبت صدق المقاومة في مقابل كذب المنظومة الإعلامية للاحتلال. ففي اليوم الثاني للمعركة، 8 أكتوبر\تشرين الأول 2023، فنّدت كتائب القسام ادّعاء جيش الاحتلال (بأنه أفشل الإنزال البحري لعناصرها)، من خلال نشر مشاهد من عملية إنزالٍ بحريّ نفذته قوة من "الكوماندوز" ضد قاعدة زيكيم، في بداية عملية "طوفان الأقصى".
وأظهر المقطع المصور عدداً من جنود جيش الاحتلال القتلى في مواقع مختلفة بالقاعدة برصاص المقاومين، ثم وظهر مقاتلو القسام وهم يتجولون براحة داخل القاعدة العسكرية، وقد اغتنموا عدة قطع سلاح. وذلك بعكس ما نشر الاحتلال فيما سبق.
من أهم أهداف الحرب النفسية أيضاً، إجبار الاحتلال على إعادة النظر في الأخطار الناجمة عن الحرب وإمكانية إهدار موارده البشرية والعسكرية والمالية، عدا عن هزّ ثقته بنفسه من أجل ردعه فيما بعد.
على المستوى النظري، يمكننا القول إن القسام قد يكون حقق هذا الهدف عبر تمكّنه لأول مرةٍ وبشكلٍ غير مسبوق من إيقاع عدد لم يكن يتصوره الاحتلال من الأسرى والقتلى، تحديدًا في صفوف الجنود والضباط.
فيما يبدو، واقعياً، أن المعركة التي تضمنت مشاهد (هروب المستوطنين، واختباء الجنود، وأسر الجنود، وتوثيق عملية اقتياد الجنود إلى غزة، وتصوير القتلى الجنود) ستترك آثاراً نفسية جمعيّة قد تنعكس نتائجها بشكلٍ ملموس على طبيعة الاستيطان والعيش في المستوطنات التي اخترقت حدودها "المانعة" المقاومةُ الفلسطينية في محيط قطاع غزة، تلك المستوطنات التي قد تتحول إلى مجرّد مناطق عسكرية خالية من السكان.
التأثيرات النفسية لطوفان الأقصى على المستوطنين
السؤال الذي يطرح نفسه أمام هذا كلّه؛ ما هي طبيعة التأثيرات النفسية المباشرة لكل هذه المشاهد على المستوطنين، وما هي تأثيراتها في المدى البعيد كعلامة فارقة في التكوين النفسيّ للمستوطن الإسرائيلي في فلسطين المحتلة؟ وبما أن كتائب القسام صنعت مشهداً مختلفاً هذه المرة، فهل هذا يعني أن انتصار المقاومة في الحرب النفسية أمرٌ تحصيل حاصل؟
يرى الباحث المقدسي خالد عودة الله أنه من الناحية الموضوعية "يمكننا الحديث عن عمليتين متزامنتين على المستوى النفسي صهيونياً؛ الأولى: الصدمة والشعور بالعجز واللايقين والتي ستبقى محفورةً بالنار في الوعي الصهيوني الجمعي."، مضيفًا في حديث لـ "شبكة قدس"، أن مدى عمق هذه الصدمة يتفاوت ما بين الذين عاشوها وما بين الذين تعرضوا لها من خلال وسائل الإعلام المتنوعة.
وعن المظاهر الملموسة قريبة المدى لمثل هذه الصدمة النفسية الجمعيّة، يقول عودة الله "إنها تمثلت بموجة من الانهيارات العصبية، والتشوّش الذهني في إدراك ما يجري وفهمه وتفسيره، بالإضافة إلى تعاظم الشعور بالخطر الوجوديّ الجمعيّ، وبروز ميكانيزمات الدفاع النفسيّ باللجوء إلى التفسير المؤامراتيّ لعقلنة ما حدث، والارتداد الديني بسبب معجزة النجاة (العودة الى الله)، واستحضار التاريخ الطويل لاضطهاد اليهود ونجاتهم لاستعادة الثقة، واستعادة حرب تشرين في الأذهان"
أما العملية النفسية الثانية التي تسير بشكل متزامن ومتناقض مع الأولى، فإنها "تتعلق بتوجيه هذه الصدمة والخوف نحو عملٍ منتج: استعادة الروح القتالية بسبب الشعور بالخطر الوجوديّ المحدق، والانتقام والتطوع في الأعمال المجتمعية المساندة"، حسب عودة الله.
من هنا، يرى الباحث خالد عودة الله أنه من الضروري التفريق ما بين فهم الحالة موضوعياً، وما بين استثمارها في الحرب النفسية على المدى البعيد. مضيفاً أن إدامة فاعلية الحرب النفسية يتطلب "أن تُبنى على الواقع الموضوعي وفهمه بتعقيداته ومكوناته المختلفة، كما يجب قياس تأثير رسائلها والحذر من مسألة الإغراق بالصور والرسائل التي تصيب المستهدَف بعد فترة بالبلادة التأثير العكسي كذلك".