سعت الأمانة العامة لنقابة الصحفيين الفلسطينيين نحو شرعنة نظام داخلي جديد في مؤتمرها الاستثنائي الذي عقد في 29 من يناير/ كانون الثاني 2023، وذلك من خلال إرساء دعائم مفصّلة على المقاس، حيث تم التصويت على بنود مقترحة في جدول أعمال الاستثنائي، وأخرى لم تكن أصلا، كتلك التي باغتت الجميع منسقة، إذ اقترح عضو في الأمانة العامة الذهاب بالنقابة الى اتحاد، أي إدراجها ضمن منظمة التحرير الفلسطينية. الأنكى من ذلك أنه قد تم التصويت على المقترح غير المدرج أصلا في جدول الأعمال، في مخالفة مبينة وواضحة للنظام الداخلي، حيث ينص البند 9 من المادة 20 حول المؤتمر الاستثنائي في النظام الداخلي لنقابة الصحفيين للعام 2011، والذي كان أساس المؤتمر الاستثنائي:" لا يجوز النظر في أية أمور غير مدرجة على جدول أعمال المؤتمر الاستثنائي، كما لا يجوز له اتخاذ قرار بحل النقابة أو دمجها أو إنشاء جسم مواز لها أو حجب الثقة عن النقيب أو أي من أعضاء الأمانة العامة المنتخبين"، ما يؤكد عدم صلاحية اتخاذ هكذا قرار إبّان سير المؤتمر استثنائي.
الانخراط في "اتحاد" هو استنساخ فعلي لأزمة المعلمين وترحيلها لدى الصحفيين/ات
ما ذكر آنفا يعكس الجانب التقني والفني من عدم جواز التصويت على بند لم يكن موجودا على جدول الأعمال، لكن إن أردنا تحليل جوهره، فهو استنساخ فعلي لما يحدث حاليا من أزمة عند المعلمين، تلك التي أضربوا على إثرها أكثر من شهرين ونيف، وترحيل المشكلة القائمة بعينها وزرعها عند الجسم الصحفي. فبينما يناضل المعلمين/ات رافعين/ات شعار وجوب دمقرطة نقابة معلمين تعبر عنهم وتحمل همومهم، بعيدا عن اتحاد معلمين غير منتخب؛ يدفع البعض المتنور من الجسم الصحفي، والمتمثل في الأمانة العامة، نقابة الصحفيين للذهاب نحو اتحاد، وإمعان الخلط بين شعبان ورمضان، وبين جبلة النقابة والاتحاد، حيث يكرس الأخير مبدأ "المحاصصة المقيتة" من جديد، بدلاً من إرساء قواعد التعددية كأحد مرتكزات العملية الديمقراطية بين الأطراف المتنافسة، ناهيك عن جرف مخصصات من منظمة التحرير لصالح الاتحاد، الأمر الذي يشكل مدخلا لتحكم لاعبين آخرين في المواقف العامة، وترك الباب مفتوحا أمام سطوة النظام السياسي لضمان موالاة رؤساء الاتحادات، وبالتالي إفراغ العملية الانتخابية من مضمونها. والجدير ذكره هنا حول الاتحادات، وجود رزمة من الاشتراطات السياسية لقبول العضوية في كنفها، والتي تميل الى إشراك لون سياسي واحد، قد تقبل عضوية ألوان أخرى بعد التدقيق فيها وفحص مدى فاهيتها من قتامتها، في حين تُقصى ألوان أخرى، الأمر الذي ينعكس بطبيعة الحال على الأعضاء والمرشحين والناخبين، مع استبعاد لأية توجهات مغايرة، بدلا من فتح المجال أمام كل التوجهات للانخراط في النقابة لتحقيق التنوع في عضويتها.
يتقاطع الحديث هنا مع الصورة التي تناقلها الإعلام الرسمي وموقع النقابة وصفحتها الرسمية على وسائل التوصل الاجتماعي البارحة، كونها لا تنمّ للعمل النقابي بأي صلة، وإنما تُمعِنُ في مأسسة الذهاب نحو اتحاد، وهذا ما تجلّى تماما في من حَضَرَ وجَلَسَ في الصف الأول، على اختلاف مسمياتهم، وكأنها رسالة مسلّم بها للصحفيين/ات، بأن النقابة أصبحت هيكيليا تنضوي تحت منظمة التحرير الفلسطينية.
الخلط بين النقابة والاتحاد
تاريخياً، نشأت الاتحادات في أماكن اللجوء خارج فلسطين، وارتبطت هذه الأجسام بخلفيات سياسية ذات علاقات فصائلية جبهوية مكونة للثورة الفلسطينية المعاصرة، وأصبحت هذه الأجسام المشكلة على أسس وطنية تمثيلية (أكثر من كونها نقابية) مكوناً عضويا من مكونات منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها، وذراعا أدواتيا قبل قيام السلطة، حيث تركز عملها في دعم وتعزيز الهوية والرواية الفلسطينية في المحافل والمؤسسات الدولية، وتم تمثيلهم بنسب محددة بالاستناد الى قاعدة المحاصصة في مؤسسات المنظمة، وبعد قيام السلطة الوطنية وانتقال مركز قيادة الشعب الفلسطيني الى الوطن، تبدلت الأدوات، وغلب الدور النقابي والمهني للدفاع عن مصالح المنتسبين، لذا من المنطق أن تبقى النقابة نقابة، بل أن تبذل الجهود لصياغة قانونها الخاص، إذا افترضنا جدلا، وعلى سبيل التمنّي أيضا، أن النقابة مسجلة كنقابة وليس كجمعية خيرية. أما أن تصبح النقابة اتحادا، يعني استخدامها ساحة إضافية للتنافس بين القوى والفصائل الفلسطينية للسيطرة على سدتها، وإمكانية تجيير مواقف كاملة خدمة للمصالح الحزبية، وتعميق الولاءات وتغليبها على العمل النقابي.
خالِف تُعرَف.. "الأخ الأكبر" سيقطع عنك مخصصاتك
يعاني الصحفي، لحسن حظه وسوئه أيضا، من ذاكرة فيل، ويستطيع أن يكيل عبر التاريخ العديد من الأمثلة التي لوّح بها من يمسك زمام صناعة القرار من السلطة التنفيذية، وهم أفراد قلة بالمناسبة، كرت المخصصات الأحمر لدى المخالفين/ات، ما اضطر البعض المشاركة في جلسات أو مؤتمرات غير راضين عن ثمارها العثة أصلا. ومن هنا، نستطيع قياس ما حدث في مؤتمر نقابة الصحفيين على كل موقف مستقبلي فيما بعد داخل "اتحاد نقابة الصحفيين الفلسطينيين" على اعتبار ما سيكون. فَـ"الأخ الأكبر"، وهو اصطلاح أطلقه جورج أوريل في رواية (1984) ترجمة للسلطة الحاكمة، سيظل يباغتك ويراقبك في كل شاردة وواردة في حياتك، وسيقوم بكل ما أوتي به من قصد، بتحديد كل صغيرة وكبيرة من مأكل أو ملبس أو قراءات أو مشاهدات. لذا، سيلجأ البعض لتأمين حسن ختام نضالاتهم من خلال تحصيل حصة في كعكة الضمان الاجتماعي ومكانة اعتبارية، وتوفير ما يستطيع له سبيلا من شيخوخة صالحة عبر حجز مقعد في الأمجاد الأرضية، خاصة بعد تعثر ضمان اجتماعي فاعل في فلسطين، وأزمة الثقة المدوية بين الحكومة والمواطنين.
هل سنقول "وداعا" لانتخابات نقابة الصحفيين؟
انتزع الصحفيون/ات حق انتخاب أمانتهم العامة آخر مرة في 2012، ومنذ عام 2016، تم تكليف نقيب الصحفيين الحالي خلفاً للراحل الصحفي عبد الناصر النجار، وما حصل البارحة هو ببساطة: إعادة تكليف نقيب الصحفيين السابق بتزكية قائمة واحدة يتيمة لا غير، في حين لم تشارك أية كتلة أخرى في المسرحية، خاصة بعد تغيير النظام الداخلي المعتمد في عام 2011 مرورا بما أسموه "المؤتمر الاستثنائي"، وشطب مواد حينا، ووضعها مفصلة، كحصر الترشح لشغل عضوية الأمانة العامة في ثلاث فترات متتالية، وشطب جملة "مدة تزيد عن 9 سنوات" كما كان منصوصا عليه في المادة 42 في نظام 2011. إضافة لذلك، حُذف بند أساسي في النظام الداخلي، والمتمثل في حفظ حق الصحفي كعضو في النقابة الاطلاع على سجلات العضوية في أي وقت، والغريب أن ذلك يأتي بعد الجدل الذي حصل قبيل المؤتمر الاستثنائي حول نشر سجلات العضوية، ورفض الأمانة العامة لذلك.
منذ عقد آخر انتخابات، أي قبل ما يزيد عن عشر سنوات؛ لم تمارس أجيال كثيرة من خريجي/ات الصحافة حق الانتخاب. ويطغى الآن تساؤل مهم: هل سيتيح لنا شكل النقابة الجديد، إذا ما كُرّسَ أنه اتحادا، إجراء انتخابات دورية بعد أربع سنوات؟
تمثيلية الاتحاد.. مع سبق الإصرار والترصد
في البيان الصادر عن نقابة الصحفيين، والذي سبق عقد المؤتمر الاستثنائي، وتحديدا بتاريخ 28 يناير/ كانون الثاني 2023، جاءت فقرة غامضة تقول: "إن جدول أعمال المؤتمر الاستثنائي ينحصر في البنود المحددة مسبقاً، والتي تتضمن بالإضافة الى تعديلات النظام وتحديد موعد المؤتمر الانتخابي، البحث في التوجه نحو إعداد مسودة قانون ناظم لعمل النقابة يتيح تشكيل فروع لها داخل فلسطين وخارجها، لضمان تمثيل كافة الصحفيين الفلسطينيين في بلدان الشتات، والتحول لاحقاً لآلية مؤتمر مندوبي الفروع المنتخبين في كل فرع على حدة." وأكمل البيان أن النقابة تشير: "أن أي قرار بهذا الشأن لن يعمل به في الانتخابات القادمة، بل في الدورة التي تليها بعد عدة سنوات، حيث سيصبح متعذراً عقد مؤتمر عام لكافة الأعضاء الذين يتوقع أن يصل عددهم الى بضعة آلاف."
تأتي هذه الفقرة الرمادية، والتي لم نفهمها حينها، ولكننا ندركها الآن، لتضع آخر قطعة "بازيل" في مكانها في لوحة مآلات النقابة كاتحاد، والذي خيّل للصحفيين/ات حينها، أو هكذا شُبّه لهم، أنه اقتراح عفوي جدا من عضو في الأمانة العامة، بل تم التصويت عليه، بالرغم من عدم إدراجه على جدول الأعمال آنذاك، ما يترجم الآن أنه توجه خفيّ كان مدروسا مسبقا، ومرتّب له أن يُدَسّ في تمثيلية الاستثاني، إلى أن يتحقق تدريجيا، وأن الانتخابات كانت مجرد مسرحية صورية لتجديد شرعية ذات الأشخاص من خلال عملية يطلقون عليها نعوتاً تشبه "الديمقراطية" ومرادفاتها.
بهذه الطريقة، أصبحت النقابة مرتعاً للاستحواذ الحزبي، ما بين إضفاء بدعة التنوع داخلها، إلا أنها في الحقيقة تستخدمها كديكورات لتحقيق تطلعات فردية ضيقة على حساب التطلعات الجمعية التي تحاكي المصلحة العامة الفضلى، ناهيك عن تدخل أطراف سياسية بغية السطوة عليها، واستخدامها بوقاً رسمياً من أبواق السلطة الحاكمة، ما يجعل الممارسات الملتوية مركّبة وترقى لشكل من أشكال الفساد السياسي.
"القلم سلاحي الوحيد"
بالرغم مما حصل في مؤتمر نقابة الصحفيين، واختطافها حفاظا على مصالح أشخاص بعينهم، سيبقى الصحفيون/ات المستقلون/ات يناضلون من أجل إصلاح وضع النقابة من الداخل، واستعادة البوصلة نحو عمل نقابي بحت في إطار مهني جامع ديمقراطي يحتضن جموع الصحفيين/ات كافة، ولا يثقل كفة جهة على حساب أخرى.
أختم في رواية شبيهة، عندما هجم جنود الجنرال بيونشيه على بيت الشاعر التشيلي بابلو نيرودا، بعد إطاحتهم بالحكومة الاشتراكية المنتخبة ديمقراطيا، وقتلهم الرئيس سلفادور أليندي؛ أعاثوا في البيت فسادا تحت ذريعة البحث عن سلاح، فأجابهم نيرودا: "الشعر هو سلاحي الوحيد". أسوة بالتشيلي البديع، أكرر كصحفية مستقلة أن رأس مالي الكلمة الحرة غير المؤطرة وأن "النضال بالقلم سيبقى سلاحي الوحيد".