فلسطين المحتلة - خاص قُدس الإخبارية: "القلق الوجودي" صفة ملازمة لكيان الاحتلال الإسرائيلي، منذ البدايات، ويتطور مع السنوات خاصة مع تنامي الانقاسامات الاجتماعية التي كان تطورها الأكبر في هذه الفترة هو في الاحتجاجات على خطة "التعديلات القضائية" التي صاغتها حكومة بنيامين نتنياهو، وحملت معها صورة عن طبيعة التناقضات التي يعيش عليها مجتمع المستوطنين.
في الأيام الماضية، أصبح مصطلح "الحرب الأهلية" لازمة في وسائل الإعلام الإسرائيلية وتصريحات قادة حاليين وسابقين في المؤسسات العسكرية والأمنية في دولة الاحتلال، في ظل التحذيرات من اندفاع الاحتجاجات على "التعديلات القضائية" التي ترى فيها فئات في مجتمع المستوطنين مساساً بما تسميه "الديمقراطية الإسرائيلية" ومصالحها الاقتصادية والاجتماعية، وتهديداً في الوقت ذاته لضباط في مختلف الوحدات العسكرية لجيش الاحتلال بالملاحقة الدولية، نتيجة أن القانون الدولي يتيح محاكمتهم على جرائم حرب بعد "ضعف القضاء الإسرائيلي"، إلى اقتتال داخلي مع فئات أخرى تدافع عن الانقلاب على المحكمة العليا وتقييد صلاحياتها.
"سيناريو الرعب"
صحف إسرائيلية ذهبت في تحليلها للوضع الراهن إلى سيناريوهات أكثر "تطرفاً"، "هآرتس" نقلت عن خبراء إسرائيليين بحثهم إمكانية أن تنقسم دولة الاحتلال إلى "أقاليم" نتيجة الصراع الحالي بين مختلف طبقات مجتمع المستوطنين، بينما كتبت "معاريف" عن ما أسمته سيناريو "الرعب" في حال أقرَ الكنيست بالقراءة الثانية والثالثة قانون "التعديلات القضائية"، بعد أسبوعين.
"معاريف" طرحت سيناريو يقوم على رفض محكمة الاحتلال العليا القانون والدخول في "أزمة دستورية عميقة"، وتفكك الأجهزة الرئيسية "الجيش، والشاباك، والموساد، والشرطة"، وازدياد أعداد الرافضين للخدمة العسكرية، واندلاع حرب على أكثر من جبهة، تزامناً مع اضطرابات واشتباكات داخلية بين المستوطنين.
الأزمة الحالية انعكست على أهم مؤسسات "الصهر الاجتماعي" في دولة الاحتلال "الجيش"، وهو ما حذر منه ضباط وجنرالات سابقون، وأكد عليه الرئيس السابق لجهاز المخابرات "الشاباك"، نداف أرغمان، في تصريحات صحفية يوم أمس إذ حذر من "تفكك الأجهزة الأمنية" بسبب خطة "الانقلاب القضائي".
نار الاحتجاجات وصلت إلى الجيش منذ أسابيع، بعد أن أعلن مجندون وضباط احتياط في وحدات استراتيجية مثل سلاح الطيران والاستخبارات و"السايبر" انضمامهم إلى المحتجين على خطة الانقلاب على القضاء، كما يسمونها، وتهديدهم بالامتناع عن الخدمة العسكرية، وهو ما يعزز مخاوف قادة المستويات العسكرية والأمنية في دولة الاحتلال من تفكك الجيش، الذي "لولاه لا يوجد إسرائيل"، حسب وصف بنيامين نتنياهو.
استطلاع رأي عرضته "تايمز أوف إسرائيل" حول هل يجب على الأجهزة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية اتباع قرارات المحكمة العليا أو الحكومة، في حال حدوث "أزمة دستورية"، يظهر أن 40% من المستوطنين قالوا إن قادة الجيش وباقي الأجهزة الأمنية يجب أن يمتثلوا لقرارات المحكمة العليا، بينما اعتبر 40% أن عليهم الانصياع لأوامر الحكومة، وهذا مؤشر على الانقسام الاجتماعي في دولة الاحتلال على قضايا مركزية ومصيرية.
تاريخ من التناقضات الاجتماعية
تاريخيا، عرفت دولة الاحتلال حركات احتجاج اجتماعية من طبقات بقيت ترزح تحت سياسات "التهميش" من قبل الطبقات المتنفذة في "الدولة العميقة"، كما يفضل مختصون وباحثون وصفها.
بعد تطهيره من أصحابه الفلسطينيين، جلب الاحتلال مستوطنين يهود هاجروا من المغرب إلى حي واد الصليب، في مدينة حيفا المحتلة. مع السنوات نتيجة سياسات "التمييز" بين يهود غربيين وآخرين شرقيين، تحول المكان إلى رمز للفقر. في 9 تموز/ يوليو 1959 اندلعت احتجاجات في الحي بعد إطلاق عنصرين من شرطة الاحتلال النار على أحد سكانه.
أحرق المستوطنون المشاركون في الاحتجاجات مقرات لأحزاب صهيونية وأخرى للجيش والشرطة، وواجهت دولة الاحتلال الحركة الاحتجاجية بالقمع، وكشفت التحقيقات عن تكتل للمستوطنين المهاجرين من شمال إفريقيا بقيادة "ديفيد بن هروش" الذي حاول الدخول لاحقاً في "الكنيست" لكنه فشل، وبقيت هذه الاحتجاجات علامة في التفكك الاجتماعي الذي يميز مجتمع المستوطنين.
وفي السبعينات، ظهرت حركة اجتماعية أخرى من أحياء "تل أبيب" والقدس المحتلة، هي "الفهود السود"، التي طالبت بتصفية مؤسسات الدولة وتحقيق "المساواة" بين فئات المجتمع الصهيوني، واصطدمت مع الأجهزة الأمنية في دولة الاحتلال، إلا أنها تفككت مع مرور الوقت.
ما الذي منع الحرب الأهلية سابقاً؟
قد يكون ترداد خيار "الحرب الأهلية" خياراً تكتيكاً لدى قادة الاحتلال لدفع الأمور "نحو التسوية"، الباحث في الشؤون الاجتماعية والعسكرية، خالد عودة، يرى أن خيار "التسوية" بين أطراف المجتمع الصهيوني مطروح خلال الأيام المقبلة، خاصة مع مساعي رئيس الكيان هرتسوغ للتوصل إلى حل وسط، في ظل "انغلاق الخيارات أمام الطرفين".
ويشير عودة في لقاء مع "شبكة قدس" إلى أن توصيف "الحرب الأهلية" حاضر في الأدبيات الصهيونية، أو ما يعبَر عنه بــ"حرب الإخوة"، ويقول: المسألة ليست مجرد تخويف بل حاضر في تاريخهم، من خلال الحديث عن "الخراب الثالث" الذي قد يتسبب به الخلاف اليهودي الداخلي، كما جرى في تجارب سابقة في وعيهم التاريخي.
ويرى أن توصيف "الحرب الأهلية" في السياق الصهيوني له أبعاد تاريخية تتعلق بــ"التاريخ اليهودي"، وليس بالضرورة المعنى المتعارف عليه، في الأدبيات الاجتماعية والسياسية.
وعن ما منع خيار الاقتتال الداخلي في مجتمع المستوطنين حتى اليوم، يشير إلى عوامل مختلفة بينها مؤسسة الجيش رغم التحولات التي طرأت عليها في السنوات الماضية، وما تعرف باسم "دولة المؤسسات" التي تشكل أحد عناوين الصراع على إرث مؤسس دولة الاحتلال ديفيد بن غوريون، حسب وصفه.
من بين العوامل التي يتحدث عنها عودة "الرفاه الاقتصادي"، ويوضح: الصراع ليس فقط بين نخب على هوية الدولة، بل على الرفاه الاقتصادي، وهي المسألة التي شكلت كابحاً لمنع الصراعات، وقد يكون عاملاً للتوصل إلى تسوية في الأزمة الحالية.
ويقول إن استحضار مقولة "الخراب" في "التاريخ اليهودي" أحد عوامل كبح الصراع الداخلي في مجتمع المستوطنين.
العمليات الفدائية التي نفذها مقاومون في الضفة والقدس وعمق دولة الاحتلال زادت من نقمة فئات مختلفة، في مجتمع المستوطنين، على رموز الصهيونية الدينية وعلى رأسهم إيتمار بن غبير الذي تولى للمرة الأولى منصباً هاماً في الحكومة، بعد أن اعتبروا أن "سلوكه أحد أسباب تصاعد الحراك الثوري الفلسطيني".
كي لا نكتفي بالمراقبة والتحليل
عن دور العمليات في تأجيج الصراع الداخلي في المجتمع الصهيوني، يقول عودة الله: حضور العمليات في أكثر من مستوى، لكن نطاق العمليات المحصورة نسبياً في الضفة يعزز حضور المعسكر الاستيطاني في الحياة السياسية الإسرائيلية، ونرى تمظهراته في قانون العودة إلى المستوطنات التي أخليت في عام 2005، بدون أن يصل الصراع إلى قلب التجمعات التي لها تأثير في المستويات الاقتصادية العليا فسيكون هامشي.
وفي سياق تأثيرات الاضطراب الصهيوني الداخلي على مؤسسة الجيش، يضيف: الجيش يعكس كل مكامن القوة والضعف في أي مجتمع، ولدى الاحتلال خصوصية مختلفة في العلاقة بين الجيش والمجتمع، ولا ينطبق عليها ما نعرفه في العلوم الاجتماعية عن العلاقات العسكرية - المدنية، من المؤكد أن الجيش سيتأثر بهذا الاضطراب، وقد يكون التأثير كابحاً على الجيش من خلال التخوفات من أن تمرير خطة التعديلات القضائية قد تجعل قادة الجيش معرضين للملاحقة في المحاكم الدولية.
عودة الله يؤكد أن قراءة الموقف في المجتمع الصهيوني يجب أن تقود إلى التأثير في الموقف وليس الاكتفاء بانتظار النتائج.
ويضيف: معظم القراءات العربية والفلسطينية لما يجري في مجتع المستوطنين وكانها تنتظر نتائج، دون أي بحث لدور لنا في هذه الازمة والاستفادة منها.