القدس المحتلة - خاص قدس الإخبارية: أعادت عمليات القدس المحتلة الأخيرتين تسليط الضوء على السلوك الإسرائيلي في المدينة وما يجري معها من سياسات سواء كانت خشنة أو ناعمة تستهدف صبغها بالصبغة الإسرائيلية كعاصمة للاحتلال.
وفي كل هبة أو مواجهة مع الإسرائيليين تتعزز العقد الأزلية للاحتلال بشأن هذه المدينة التي يحاول الاحتلال التعامل معها كعاصمة موحدة لدولته المزعومة غير أن صمود الفلسطينيين هناك وتصديهم المتواصل يعكس التحدي لكل المحاولات الإسرائيلية.
وعلى مدار عقود وتحديدًا من العام 1967 استخدم الإسرائيليون وسائل خشنة مثل هدم البيوت وسلب الأراضي والاعتقال والترحيل عن المدينة ومصادرة العقارات بهدف إجبار السكان على ترك أراضيهم والفرار من المدينة وهو ما فشل تمامًا.
أمام على صعيد الوسائل الناعمة فلجأ الاحتلال لأساليب الإغراءات المالية والتسهيلات الاقتصادية والتجارية إلى محاولات التدجين والأسرلة بطرق غير مباشرة، وهو ما تصده له المقدسيون على نطاق واسع وهو ما اتضح مؤخراً في تصديهم للمناهج الإسرائيلية ومحاولة فرضها.
واقع القدس منذ انتفاضة الأقصى
سعى الاحتلال منذ بداية الانتفاضة الثانية "انتفاضة الأقصى" التي انطلقت من المسجد الأقصى في سبتمبر/أيلول من عام 2000، إلى عزل مدينة القدس جغرافيًّا عن محيطها عبر سلسلة من الإجراءات الاستيطانية والعسكرية بدأت بنصب الحواجز وأبراج المراقبة وشق الطرق الالتفافية وتقطيع أواصر المناطق المحيطة، مرورًا ببناء جدار الضم والتوسع الاستيطاني حول القدس الذي اكتمل بحلول عام 2008 وبلغ طوله 168 كم، وخلَّف جملة من الآثار على أصعدة مختلفة طالت السكان الفلسطينيين أعمقها الجانب الجيوسياسي.
وحول الاحتلال الإسرائيلي القدس من محافظة كاملة بمساحة 345 كم إلى أجزاء معزولة عن بعضها، منها القدس الشرقية المكونة من البلدة القديمة والأحياء المحيطة وتبلغ مساحتها 123كم، وتجاوز ذلك التقسيم السابق للقدس إلى شطرين: شرقي وغربي، حسب مراحل احتلال المدينة.
وعُزلت مدينة القدس عن ضواحيها بالجدار مع تثبيت الحواجز العسكرية نقاطًا حدودية دائمة، وأبرزها حاجز قلنديا الذي بات يشكِّل نقطة عبور حدودية بين القدس والضفة الغربية، يمنع عبور الحواجز إلا لحملة هوية القدس والتصاريح، وحولت إسرائيل صفته من حاجز إلى معبر، فصلت به مدينة القدس أيضًا عن شمالها وشمال غربها، وضمَّت التجمعات الاستيطانية المحيطة بالقدس داخل الجدار وربطتها بالمدينة، فيما عزلت الأحياء والبلدات الفلسطينية.
وطبَّق الاحتلال على هذه الأخيرة سياسات الإهمال الاستعماري لخلق أزمات مستمرة على أصعد اجتماعية واقتصادية لتحويلها إلى مجتمع غير مستقر يبحث سكانه من الفلسطينيين عن احتياجاتهم المعيشية وحلول لأزماتهم المستمرة، وجعلت لكل منها خصوصية مختلفة في إجراءات الفصل والعزل عن بقية المناطق وعن شريانها الحيوي المرتبط بمدينة القدس.
وفي ظل هذا التفرد، أمعنت إسرائيل بسياساتها الاستعمارية لتكريس واقع مغاير داخل أحياء القدس، حوَّلت السكان فيها إلى مجموعة اجتماعية منفصلة عن محيطها الفلسطيني في ظل الحكم العسكري البوليسي، وطبقت عليهم سياسات المحو والاقتلاع المستمرة.
واستمرت سلطات الاحتلال بفرض الضرائب المالية مثل ضريبة "الأرنونا" (ضريبة المسقفات) التي تُفرض على العقارات شهريًّا، وتقييد المشاريع الاقتصادية والتجارية عبر ضرب قطاع السياحة بتشديد الإجراءات العسكرية في البلدة القديمة وتقييد السياحة الدينية؛ مما قلَّل من عدد الزوار في محيط البلدة القديمة التي باتت محالها التجارية تعاني ضعف القوة الشرائية وتتعرض لخسارات كبيرة ووصل الأمر إلى إغلاق مئات المحال التجارية في المدينة، فيما ينافسها تجار الاحتلال الذين يتلقون دعمًا وإعفاءات ضريبية من حكومتهم.
أشكال المواجهة والتحولات
في أعقاب الانقسام السياسي بين حركتي فتح وحماس بعد عام 2007، وتراجع العمل الفصائلي في الضفة على إثر ملاحقات الاحتلال والتنسيق الأمني، اتجه أهالي القدس إلى الهبَّات الشعبية التي تبدأ من القدس وتتوسع رقعتها جغرافيًّا إلى الضفة مرورًا بالداخل المحتل وقطاع غزة في بعض الأحيان.
ومن هذه الهبات، هبَّة الاحتجاج على حرق الطفل محمد أبو خضير من قبل المستوطنين اليهود عام 2014، وهبة الأقصى 2015-2016 التي أُطلق عليها "هبة السكاكين"، وحراك البوابات الإلكترونية، عام 2017، من خلال الاعتصام المفتوح في منطقة باب الأسباط احتجاجًا على نصب بوابات إلكترونية وأنظمة تفتيش على بوابات المسجد الأقصى، واستمر لمدة 14 يومًا، وهَبَّة مصلى باب الرحمة عام 2019، التي انتهت بإعادة فتح المصلى بعد سنوات طويلة من الإغلاق التعسفي، وشهدت مدينة القدس عام 2021، هبَّة شعبية كانت الأوسع ردًّا على تصاعد موجة الانتهاكات الإسرائيلية ومنها تزايد اقتحامات المستوطنين اليهود للمسجد الأقصى بحماية شرطة الاحتلال بالتزامن مع شهر رمضان، وفي إطار المساعي لتمرير مشروع التقسيم الزماني والمكاني.
التعامل اليومي.. تحدٍ ومواجهة
في السياق، يرى الكاتب والباحث وسام رفيدي أن المساعي الإسرائيلية التي بذلت على مدار عقود لأسرلة المدينة المقدسة فشلت وتفشل عند كل مواجهة نتيجة للمواجهة والتحدي الفلسطيني في المدينة من قبل أهلها وأصحابها الأصليين.
ويقول رفيدي لـ "شبكة قدس" إن التعامل اليومي لسكان القدس مع سلطات الاحتلال بحكم الواقع المفروض يجعلهم أكثر معرفة به وبسلوكه وتصرفاته وهو ما يجعل وتيرة الهبات تبقى حاضرة بين فترة وأخرى بناءً على السلوك الإسرائيلي.
وبحسب الكاتب والباحث فإن المتوقع أن تعزز السلوكيات الإسرائيلية في المدينة العمل المقاوم أكثر فأكثر خلال الفترة المقبلة إلى جانب المقاومة العاملة في الضفة المحتلة كحالة طبيعية معبرة عن تداعيات الانتهاكات والإجراءات العنصرية التي يرتكبها الاحتلال.
ويشير رفيدي إلى أن أهل القدس يعانون بشكلٍ أساسي من العنصرية الإسرائيلية الحاضرة في مختلف تعاملهم اليومي مع سلطات الاحتلال، وهو ما يعزز من التحدي والرغبة في المواجهة مع الاحتلال في ظل التنغيص الذي يقوم به بطرق مباشرة وغير مباشرة.
ووفقاً للكاتب والباحث فإن السلطات الإسرائيلية تتبع أدوات خشنة وناعمة في سلوكها مع الأهالي بهدف السعي لفرض الهيمنة على المدينة ككل في ظل استمرار الشعور الإسرائيلي بـ "عقدة النقص" تجاه القدس بشكلٍ عام على المستوى الرسمي والاستيطاني.
ويؤكد على أن جميع السياسات الإسرائيلية المتبعة تجاه المقدسيين قد فشلت ولم تحقق أهدافها أمام ارتباطهم الوطني بقضيتهم، إضافة إلى ما تعززه الهبات المتعلقة بالمسجد الأقصى وأحيائه القريبة والتي نجح الفلسطينيون هناك في تحقيق انتصارات عديدة.
حالة فلسطينية عامة
من جانبه، يرى الكاتب والمحلل السياسي ساري عرابي أن ما يحصل في القدس المحتلة هو امتداد لحالة فلسطينية عامة متمثلة في المواجهة ومقاومة الاحتلال الإسرائيلي والتي باتت لا تنحصر على نطاق جغرافي بعينه، وتنتقل من مكان لآخر وفقاً لسير الأحداث.
ويقول عرابي لـ "شبكة قدس" إن العمليات الأخيرة التي جرت في القدس تعكس حضور المدينة في حالة المقاومة الفلسطينية المتصاعدة في الضفة الغربية المحتلة، إلى جانب أنها تأتي في سياق المواجهة مع سلوك الاحتلال الإسرائيلي وإجراءاته في المدينة.
وبحسب الكاتب والمحلل السياسي فإن القدس المحتلة جزء من النسيج الفلسطيني ولا تنفصل سلوكيًا عن الحالة القائمة في بقية المدن الفلسطينية بالرغم من كل السياسات والإجراءات التي حاول الاحتلال الإسرائيلي أن يفرضها عليها على مدار السنوات الماضية.
ويرجح عرابي أن تشهد الفترة المقبلة مزيدًا من الاتساع فيما يخص تنفيذ عمليات المقاومة في مدينة القدس أو غيرها من المدن الفلسطينية كما حصل بعد مجزرة جنين الأخيرة والتي جاء الرد عليها من قبل مقاومين فلسطينيين من مدينة القدس المحتلة خلافاً لتوقعات الاحتلال.
ويردف: "في الوقت الذي كانت "إسرائيل" تعلن أنها أحبطت عملية كبيرة من جنين جاءت العملية الفردية التي نفذها خيري علقم من القدس، لتثبت أن المقاومة حاضرة في مختلف المدن الفلسطينية ".