رام الله - قدس الإخبارية: بلهفةٍ طفولية وببريق عينين متوهجتين، انتظرت الطفلة فلة المسالمة بفارغ الصبر قدوم يوم 16 نوفمبر/ تشرين الثاني لتوقد شمعة ميلادها السادسة عشرة، تُذكِّر والدتها به قبل يومين من الموعد المنتظر: "يما، ديري بالك، اعمليلي عيد ميلاد!".
"شو ما بدك بنسويلك".. كلمات غادرت قلب الأم وهبطت على وجه طفلتها المصابة بـ"طيف التوحد" لتنبعث منه ضحكة تشابه براءة طفولتها وصفاء ملامحها، ثم طلبت من شقيقاتها العاملات بالعودة للمنزل لمشاركتها احتفال يوم ميلادها.
غفت فلة على حلمها الجميل؛ تخيلت نفسها أمام "قالب جاتوه" في وسطه شمعة مضاءة تحمل رقم عدد سنين عمرها، لتنفث عليها وتطفئها في جوًّ عائلي مبهج، في أول عيد ميلاد تُصر على عائلتها بتنظيمه لها، إذ لم يسبق أن طلبت مثل ذلك. بمجرد خروج الطفلة من المنزل دون أن يشعر بها أحد من أفراد عائلتها، ووصولها إلى مسافة ضلّت معها طريق العودة، توقف أمامها شاب يقود سيارة انتبه لبكائها، فأقلّها وحاول مساعدتها لكنه تفاجأ كما أظهرت كاميرات مراقبة وروايات شهود عيان، بحاجز عسكري لجنود الاحتلال في أثناء اقتحامهم بلدة بيتونيا في محافظة رام الله والبيرة وسط الضفة الغربية المحتلة.
حاول السائق الالتفاف والعودة من الطريق ذاته "ربما استجاب لطلب فلة التي ترتعب عندما ترى جنود الاحتلال"، هكذا تعتقد والدتها، لكن رصاصات الجنود كانت أسرع في اختراق نوافذ السيارة ووصول إحداها إلى رأسها، لينطفئ وهج روحها قبل إيقاد شمعة ذكرى ميلادها.
يختنق صوت والدتها بدموعٍ بللت صوتها، من أول لحظة استهلت حديثها مع صحيفة "فلسطين" وهي تقول: "فلة مصابة بطيف التوحد، دائمًا تخرج من البيت في أي وقتٍ، لا تعرف الصباح من المساء، تفكيرها بعمر طفل لا يتجاوز ثلاثة أعوام، نذهب لإحضارها ونبحث عنها لساعات، أو تعود بمفردها". مساء الأحد الماضي، أغلقت والدة فلة باب بيتها وخبأت المفتاح في جيبها، وغفت بجوار طفلتها التي لا تفارقها لحظةً واحدةً، هي واثنان من أولادها (ولد وبنت) مصابان أيضًا بـ"طيف التوحد"، لكنها أفاقت ووجدت مكان طفلتها فارغًا: "اعتقدتُ كما كل مرةٍ، أنها ستعود، انتظرتها ولكن عندما تأخر الوقت خرجت حافية القدمين مع أولادي وشقيقاتها نبحث عنها حتى يئسنا من البحث بين منازل الجيران والشوارع القريبة، إلى أن أخبرني الشباب باستشهادها ظهر الاثنين الماضي".
تحشرج صوتها وتعثرت بقية التفاصيل المتناثرة بين حزنٍ ووجع استوطن قلبها: "عندما غادرت البيت ولم تستطع العودة، وجدها الشاب الذي حاول إعادتها للبيت، لكن جنود الاحتلال أطلقوا النار عليهما بلا رحمة، سمعت الصوت لكنني عدت للنوم، إذ لم أنتبه لخروجها حينها، عدا عن أننا دائمًا ما نسمع صوت رصاص كوننا نعيش بجوار مستوطنة إسرائيلية". تتخيل والدتها مشهد خوف ابنتها لحظة مشاهدتها جنود الاحتلال، مستذكرة: "عندما تراهم ترتجف من الخوف أو ترتمي في حضني أو تختبئ خلفي، وإذا سمعت صوت إطلاق نار تبدأ بإغلاق النوافذ، والانكماش في إحدى زوايا الغرفة".
تستحضر طلب ابنتها "لم تطلب مني طوال عمرها الاحتفال بعيد ميلادها، لكنها منذ أسبوع تطلب مني ذلك، اتصلت على شقيقاتها العاملات لمشاركتها الاحتفال، ولم أتوقع أن تأتيني على نعش". انتزع جنود الاحتلال "روحًا مني"، يرخي الحزن أوتاده على صوت الأم: "ما زالت طفلة صغيرة، لا تستطيع الكتابة ولا القراءة، مريضة، عشت حياتي أتنقل فيها بين الأطباء والعيادات، تلعب مع أطفال بعمر عامين وثلاثة وليس مع أطفال في عمرها، فنموها العقلي لم يكتمل، لقد حرموها الحياة. تتساءل بقهر وألم: "ما ذنب طفلة مريضة لتُحرم الحياة؟".
لم يكتفِ الجنود بإعدام الطفلة، خالها إبراهيم المسالمة يمتلك تفاصيل "مروعة" ينقلها عن شهود عيان لـ"فلسطين" بغضبٍ: "هؤلاء الجنود عديمو أخلاق، لا يفهمون إلا لغة الإعدام والقتل، مزّقوا ملابسها عن جسدها وسحلوها عاريةً"، مطالبًا بتشكيل لجنة تحقيق دولية لأن ما حدث "جريمة إعدام مركبة" لطفلة مصابة بالتوحد بدم بارد. يقرب خالها المجهر أكثر على بقية التفاصيل: "حسب ما روي لنا رمى الجنود جثتها في الجيب العسكري الأول، لكنه كان مليئًا بالمعتقلين، ثم تنقلت بين مركبتين وهي تسحل مجردة من ملابسها، وهناك علامات وجدناها على ملابسها من آثار السحل والتنكيل".
خالها الذي يسكن في مسقط رأسها ببلدة "بيت عوا" جنوب غرب الخليل، استضاف ابنة شقيقته التي تسكن منذ خمس سنوات في بلدة بيتونيا، قبل عدة أيام من استشهادها، إذ مكثت عنده ثلاثة أيام: "كانت سعيدة جدا، لعبت مع أولادي، حتى أنها قالت لزوجتي إنها تحب بلدتنا أكثر من مكان سكنهم في بيتونيا، وتمنت لو تعيش هنا".
تمنت الطفلة أن تعيش حفلا بهيجا مع عائلتها، لكنها حملت على الأكتاف من أبناء شعبها في مسقط رأسها في بلدة "بيت عوا" الثلاثاء الماضي، في نفس تاريخ ولادتها، احتضنتها والدتها وبللت دموعها وجه "فلة" "الزهرة التي ذبلت، وانطفأت شمعة ميلادها قبل أن توقدها".
المصدر: فلسطين أون لاين