تراودني فكرة هذا المقال منذ بضع سنوات، وكلما هممتُ تدوينها أجلتها رغم أهميّتها، لقناعتي أنّها إشكالية عميقة وخطيرة في واقعنا الإسلامي، وتأثيرها على مستقبلنا الثقافي والسياسي، وكونها مسألة تتطلب البحث والدراسة. وتخوفت من طرحها تواضعاً، واعتبرتها أكبر من مجرد مقال أو نزهة فكرية. ولكنّها إشكالية طالما أرقتني وأثارت قلقي على مستقبلنا ومصير الأمّة، خاصة مع تأزم الثورة السورية بكل تداعياتها، وكشفها لأزمة العقل السُنيّ كمركب مهم وأساسي في عقل الأمّة.
إنّ الثورة السورية كشفت عقولاً كثيرة وفضحت أيديولوجياتٍ ومواقف عديدة، وذلك لإنّها - أيّ الثورة- استحضرت إشكاليات وأزمات كبرى على مستوى الأمّة من بينها: الحرية والعدالة، نُظُم الحكم، الدكتاتورية، الطائفية والمذهبية، القيادة السياسية والثقافية، الفكر والثقافة، الاستقلال والتبعية، المقاومة وفلسطين، مسألة الأقليات، الإسلام والعلمانية وقضايا كثيرة تثير الاستقطاب، بل حتى الصراع الدموي والقتل على الهويّة.
ما هو العقل؟
لا بدّ بداية، من تعريف أولي لما نعني بالعقل في سياق هذا المقال: هو منظومة الأفكار التي تحكم مواقف وسلوكيات جماعة من الناس، تتجلى بشكل متكرر رغم اختلاف الأشخاص فكرياً ونفسياً، وتعدد الأحداث رغم تباعدها زمانياً ومكانياً وتنوع أشكالها ظاهرياً.
ونقصد بالعقل السنيّ: العقل الذي يتحرك في مجاله علماء ومشايخ ومثقفون يصنفون أنفسهم أنّهم من أهل السنة والجماعة. وهؤلاء رغم تعدد مشاربهم الفقهية والفكرية يُحكَمون لمنظومة العقل السنيّ، الذي يحكُم ويتحكم بمواقفهم وسلوكياتهم السياسيّة والفكريّة. والمقالة هنا تتطرق لطبيعة هذا العقل من جانب، فتحاول تفكيك مركباته ونقده فكرياً، ومن جانب آخر ترصد تأثيراته الواقعية على المستوى السياسي والثقافي وتحاول كشف تناقضاته وأزماته ودوره في إعاقة نهوض الأمّة سياسيّاً واقتصاديّاً، ودوره في تعقيد الإشكاليات الكبرى التي ذكرت أعلاه:
١. عقل أسير الثنائيات: ما زال هذا العقل يتحرك بين ثنائيات فُرضت عليه أو فرضها على نفسه، ولم يزل يتردد في حسمها، مثل ثنائية الأصالة والمعاصرة، الشورى والديمقراطية، الشرع والقانون الوضعي وغيرها كثير. من ناحية، لم ينجح هذا العقل بطرح نموذج متكامل لنظام الشورى بل يستلذ في خطاب إنشائي تراثي، بعيداً عن هموم الناس وتحديات الواقع، ومن ناحية أخرى، يرُدّ الديمقراطية ويرفضها جملة وتفصيلاً، ومنهم من يأخذ بها على استحياء بحيث يظهر التلعثمُ على لسانه حين يتحدث فيها، مما يكشف عن تردده وعدم حسم موقفه اتجاه الديمقراطية وغيرها من المفاهيم.
وحين سُنح للعقل السني ممارسة السياسة بعد الثورات، خاصة في مصر وتونس، بدأنا نشهد تقبلاً عملياً للنهج الديمقراطي، حتى من قبل التيار السلفي، وأصبح هذا التيار إخوانيّاً أكثر من الأخوان أنفسهم في الممارسة الديمقراطية.
ملخص القول في هذا الباب: إنّ العقل السني في مجمله لم يحسم موقفه في هذه الثنائيات لا من الناحية النظرية ولا من الناحية العملية، فهو ما زال يتخبط ويفتقد لخارطة طريق تعيد إنتاج مفاهيم معاصرة لهويته وغير قادر على استيعاب مفاهيم إنسانية وتأطيرها في منظومته الفكرية والسياسية واستعمالها واقعياً بما ينفع الناس.
والمراقب للتغيرات الطفيفة التي تطرأ على العقل السنيّ حين يمارس الديمقراطية أنّه يسلك طريقاً طالما نادى بكفر منهجها، ولكنّه اليوم يعمل بها ووفقها. من المؤكد لديّ أنّ التجربة الحالية غير نهائية وقابلة للتطور إيجابياً والتأطر في هويتنا وواقعنا وما ينفع الناس، ولكنّ الإشكال في أنّ هذا العقل السنيّ يستجيب للواقع مضطراً، حيث الواقع يغيره ويبدل قناعاته، وعادةً ما تكون قناعات ومسلمات اعتبرها بالأمس عقائد نهائية، فتبين له اليوم خطأها بعدما بذل طاقاته الفكرية والسياسيّة في الدفاع عنها وضيّع وقته، وأعاق تقدم الأمّة بسبب عدم نضجه وقدرته على تجاوز اجتهاداته القاصرة المؤقتة، مع العلم أنّه لو رفع رأسه ونظر للتاريخ والمستقبل لعلم أنها اجتهادات قاصرة ومؤقتة حتماً لا يمكن للتاريخ والواقع إلا أن يتجاوزها.
والسؤال النقدي في هذا السياق: لماذا يعجز العقل السنيّ عن اختزال المراحل وتجاوز زمانه وعصره وسباق الزمن؟ خاصة أنّ الأمر لا يتعدى سوى التحرر من منظومة أفكار ومنهجية تفكير لا تصمد أمام عقل نقدي بسيط. كيف يتجاوز العقل زمانه؟ مثال صارخ لذلك هو عقل ابن خلدون، حيث سبق علم الاجتماع الغربي في مقدمته، ولكنّ البيئة العربيّة الإسلاميّة لم تستوعب أفكاره كي تطورها. في النقيض من ابن خلدون، نجد الآف الكتب والمؤلفين في عصرنا ذهبت أفكارهم أدراج الرياح لإنّها رجعت في الماضي قرون ولم تواكب عصرها ولم تقدم الجديد النافع لزمانها.
٢. عقل إقصائي: العقل السني يخلق له أعداءً في الداخل كما في الخارج، والأهم أنّه غير قادر على استيعاب الآخر الداخلي من أقليات دينية ومذاهب وطوائف إسلامية آخرى. فرغم خطابه الفقهي والفكري بأنّه يُمثل الأمّة، إلا أنه يمارس سلوك الطائفة والمذهب، ويجعل من "أهل السنة والجماعة" طائفة مثل غيرها من الطوائف، فهو يجيد بامتياز إخراج كل من لا يدور في فلكه المذهبي الفقهي من إطار الأمّة، مع العلم أنّ تاريخ الإسلام تميز عن غيره أنّ الطوائف هي من أخرجت نفسها من التيار المركزي للأمّة، بينما في التاريخ الغربي كانت الكنيسة الكاثوليكية هي من تصنف الناس وتحدد من هو المذهب الحق ومن هي المذاهب المارقة والمتهرطقة فتخرجها من الإيمان وتقوم بتصفيتها إن استطاعت إلى ذلك سبيلاً.
والعقل السني عاجز عن مخاطبة أقرب المذاهب إليه عقائدياً وفقهياً مثل الشيعة الجعفرية- إثني عشرية-، بل يهيمن عليه خطاب التكفير والإقصاء والتهميش، ويفتقد خطاباً علمياً واستراتيجياً يحدد كيف يمكن تقريب المذهب الشيعي وتصحيح مساره الذي دخل عليه انحرافات لا يمكن ارجاعها إلا لسياسة التهميش والإقصاء والقمع التي مارسها خلفاء وسلاطين منذ الحكم الأموي.
وهذا العقل لم يدرك بعد- على الأقل براغماتياً- أنّه لا يمكن تصفية مذاهب لها اتباع بالملايين وأنّ السبيل الوحيد لاستيعابها أو التعايش معها هو الحوار والمناظرة العلمية دون بث الكراهية والخطاب العصبي المتأزم. التشيّع السياسي ليس بكفر، بمعنى أن يتبنى المسلم رأي بعض الصحابة أنّ علي أولى بالخلافة من أبي بكر وعمر رضي الله عنهم أجمعين. والتشيّع السياسيّ غير التشيع العقائدي، فالثاني يقود اتباعه لنظرية الإمامة حتماً، أي إمامة آل البيت. وحتى في التشيع الثاني لا مفر من الحوار العلمي، فإن استطاع عالم دحض نظرية الإمامة علمياً وتاريخياً فقد حصر التشيع في السياسة فقط وليس في العقيدة، وهناك قلة من الشيعة نفت نظرية الإمامة واعتبرتها أسطورة، ومن ثمّ انتهت فكرة العصمة. في هذه الحالة لا يبقى للشيعيّ إلا أن يكون سنيّ، والسني يصبح شيعي بدوره، لأنّه لا يبقى خلاف إلا في الموقف السياسي.
والتحريض ضد الشيعة كشيعة هو حقد أعمى وقصور ذهني وتطرف لا عقل له. الشيعة جزء من الأمّة والعلاقة يجب أن يحكمها الحوار الفقهي والفكري والسياسي. موقف إيران وحزب الله من الثورة السورية موقف مخزي وطائفية سياسية تختبىءُ وراء المقاومة والممانعة، ووصلت لمستوى جرائم ضد الأمّة، ولكن لا يمكن السير في هذا الطريق إلى الأبد، ويجب على الأطراف تغليب العقل والقيم والحوار لنبني مستقبلاً أفضل، يمكننا من تجاوز التاريخ والواقع. إنّ البديل هو حروب أهلية وطائفية تباعد أطراف الأمة وتكرس الشعبوية والدول القطرية.
٣. عقل عاجز: العقل السنيّ عاجز حتى عن استيعاب من يحسبون على "أهل السنة" على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم الفكريّة والسياسيّة. بل إنّ الإسلاميين أنفسهم عاجزون ليس فقط على توحيد خطابهم الفكري والسياسي وفق رؤية استراتيجية لمشروعهم، بل لا يوجد بينهم برنامج مشترك لتحقيق أهداف محدودة سياسيّاً واقتصاديّاً، بل حتى يصل الأمر مع بعضهم لتكفير البعض الآخر.
وخير مثال على ذلك هم الإسلاميون في مصر، حيث يتوحدون في حالة الاستقطاب السياسي وحين يشعرون بخطر التيار العلماني والليبرالي وفي وقت الأزمات، ولا يوحدهم رؤية وبرنامج مشترك. وليس بعيداً عنّا، الحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني، رغم المشترك الجامع بينهما في المذهب والمنشأ والواقع. هذا العجز الممتد على مستوى الأمّة يمثل أزمة العقل السنيّ، أزمة أصلها في بنية العقل الذي يبحث عن الفروع والاختلافات وتضخيمها، ويعجز عن رؤيّة المشترك والبحث عن الأهداف الإستراتيجية لتحقيقها سويةً وفق فقه أولوياتي يقدم الأصول على الفروع، ويدرك أنّ سيرورة التغيير تراكمية وتاريخيّة وليست نُظُم فكرية وسياسيّة جاهزة تستخرج من كتب التراث. وأحد مميزات هذا العقل، في هذا السياق، أنّه بنى قناعات ومسلمات بناءً على قراءة مجردة في النص المقدس فقط، وتجاهل حيثيات ومتغيرات الواقع، بل ينظر للواقع بشكل تسطيحي يعجز عن رؤية تعقيداته وتراكيبه وإشكالياته الإجتماعية والثقافية والسياسيّة.
٤. عقل يدفع إلى الإلحاد: نتيجة لبنية العقل كما ذكرنا للتو، فإنّ هذا العقل يؤدي إلى نتائج سلبية ليس فقط سياسيّاً بل دينياً، فمن حيث لا يعلم يدفع بشكل عفوي وطبيعي إلى علمنة المجتمع بل إلى الإلحاد تدريجيّاً. هذا العقل الذي لا يدرك أنّ المجتمع بشكل واعٍ وغير واعٍ يراقب تناقضاته الفكرية والسياسيّة، ويحكم على سلوكياته الإجتماعية، ممّا يفقد المجتمع ثقته بهذا الخطاب، بل يكفر بأصوله في حالة تطرفه، فكلما كان متطرفاً ومنغلقاً كلما كانت ردة فعل المجتمع متطرفاً ونقيضاً له.
وفي أحسن الأحوال يدفع المجتمعَ لقناعة تاريخيّة أنّ الأفضل فصل الدين ليس فقط عن الدولة بل عن الحيز العام الإجتماعي والثقافي. وأحد أسباب أزمة هذا العقل، أنّه لا يؤمن بالتدرج في التغيير المجتمعي والثقافي، وينغمس في التفاصيل التي تضيّع الأصول، فلا هو حقق الأصول ولا هو حقق الفروع، إن كان في قضايا أخلاقية أو اجتماعية أو ثقافية. وهذا العقل لا ينظر إلا إلى اللحظة الآنية ويعجز عن رؤية الأمّة بعد عقد أو أقل من الزمن. ونتيجة لعجزه فغالبًا ما يلجأ للمواقف المتطرفة والتكفير والتفسيق لأبسط الأشياء، بل إلى الشتيمة والسب خلال حوار في قضية لا تحتمل ذلك، حتى من قِبل علماء ومشايخ. وبدوره يعجز عن ترتيب القضايا وفق أهميتها، وبأيّها يبدأ في الإصلاح والتغيير، فيريد أنّ يمسك بكافة القضايا الصغيرة قبل الكبرى، فلا يحقق منها شيئاً لأنّها معركة خاسرة حتماً.
٥. عقل بياني إنشائي: العقل السنّي يُحكم بخطاب عاطفي إنشائي لم يعد يصلح لمخاطبة الجماهير، فكم بالحريّ نخبة ثقافيّة وسياسيّة واعية. حتى في قضية معقدة ومركبة يقوم العقل السنيّ بتبسيطها خطابياً لأنّه عاجز عن مواجهتها واستيعابها ومن ثم عرضها في خطاب منطقيّ يحترم عقل المتلقي ولا يدع له مجالاً إلا التسليم لمقتضيات العقل المنطق. أزمة هذا العقل أنّه لا يستوعب المعارف المختلفة، ويكتفي بحفظ كتب التراث دون تحقيقها واستيعابها ونقدها وبث الحياة في أفكارها الصالحة، وكذلك لم يستوعب بشكل عميق وناقد التراث الإنساني ومعارف الأمم الآخرى، كي يعوّد نفسه الخروج من الأطر التقليدية في التفكير والمعرفة.
هذه الحقيقة تجعل من الهُوية التي يريد العقل السنيّ تكريسها في الأمّة في مهب الريح، لأنّ المجتمع يتقدم في الانفتاح على ثقافات وأفكار عالمية ويكتسب المعارف وهذا العقل ما زال قابعاً في الأطر الفكرية القديمة التي تعتمد البيان والإنشاء والخطب العاطفية التعبويّة وقوالب أيديولوجية نهائية.
٦. عقل خائف: العقل السني ينطلق في خطابه للأمة من حالة خوف على الإسلام، فهو يقاتل كل شيء حوله حتى في قضايا صغيرة هامشية خوفاً منه على الدين والعقيدة. وحالة الخوف لا تختلف كثيراً عن عقلية المؤامرة، وهي عقلية تربط جميع الخيوط بشكل مبالغ فيه لتصور العالم أنّه مؤامرة واحدة كبيرة، تهدف لهدم الإسلام. وهذا عقل مأزوم خائف يظهر جلياً في ردات الفعل لأفكار هامشية لأحد المثقفين علمانيّاً كان أو حتى عالم إسلامي سنيّ يفكر بطريقة مختلفة. ضحالة العقل وسطحيته تؤدي لحالة الخوف من أبسط الاختلافات والاجتهادات، والتفاعل العصبيّ والشتم والإقصاء هو نتيجة طبيعية لهذا الخوف الأميّ.
أخيراً، هذه قضايا أرقتني منذ سنوات ومن خلال مراقبتي للخطاب الديني وسلوك الجماعات الإسلاميّة ومشايخ وعلماء. والخطورة اليوم أنّ التيار الإسلامي أخذ فرصته للظهور علنيّاً وفي بعض الدول تصدر المشهد وفي آخرى وصل الحكم. ومن هنا خطورة هذا العقل على مستقبل الأمّة.
وحين نقول العقل السنيّ، نقصد إبراز الإشكاليات المشتركة فيه وليس تعميماً مطلقاً، فهناك من العلماء والمشايخ من تجاوز هذا العقل وهذه الإشكاليات، وللآسف هم قلة وخاصة في ظل الخطاب الإسلامي الذي استسلم للطائفية والمذهبية والسلفيّة السلطويّة أو المنغلقة. ولا نقصد أنّ هذا العقل خاص بمذهب دون غيره، فحين يتجاوز هذا العقل إشكالياته وأزماته يمكن أنّ يكون عقل الأمّة، بمعنى إذا تصرف على أنه عقل أمّة وليس عقل مذهب أو طائفة. ولعلها تكون مساهمة في فتح باب المراجعات، والنقد البناء الذي ينطلق من القلق على مستقبلنا، مع قناعتي العميقة أنّ في هذا العقل الطاقات والإمكانيات لتغيير واقعنا بل العالم أجمع.