فلسطين المحتلة - قُدس الإخبارية: طوال عقود المواجهة بين المجتمع الفلسطيني ودولة الاحتلال، حضرت نماذج "البطولة" كقوة دفع هائلة على المستويات النفسية والتعبوية.
سابقت الأجهزة الإسرائيلية بمختلف مستوياتها الزمن لمحو "صورة البطولة"، من الوعي الجماعي للشعب الفلسطيني، خاصة بين الأجيال الشابة التي تشكل النسبة الأكبر من التكوين المجتمعي الفلسطيني، في محاولة لمنع خلق استمرارية في العمل المقاوم ضد وجود الاحتلال.
مفاهيم الزمن والمكان في فلسطين لها أبعادها النفسية والفكرية التي لا تتشابه مع مكان آخر في العالم. يحاول الاحتلال السيطرة على الزمن الفلسطيني، بتحويله إلى مسار مستقيم من التطويع وقتل "التمرد"، على مشاريعه الاستيطانية، بينما ينشغل المقاوم في خلق زمن آخر يمحو الزمن الاستعماري، وفي هذه المعركة المستمرة تحضر نماذج من البطولة التي تخلق تجربتها الخاصة، لكنها لا تنتزع نفسها من المكان الذي يحمل تراثاً ممتدداً من المقاومة.
منذ سنوات أخذت المواجهة مع الاحتلال في الضفة، أشكالاً وأبعاداً مختلفة تداخل فيها النشاط الفردي مع الجهود الفصائلية لبناء تنظيمي مقاوم، هذا النشاط الدائم لخلق بنى مقاومة أخذ شكلاً جديداً أو متجدداً بناء على الإرث النضالي المرتكز أساساً على تجربة انتفاضة الأقصى، من خلال بناء مجموعات للمقاومة تأخذ شكل خلايا كبيرة، تتعاون فيما بينها في مقاومة جيش الاحتلال وضرب قواته التي تتوغل في المدن والبلدات الفلسطينية.
وضع الاحتلال سياسة متعددة الأبعاد لمواجهة تمدد المقاومة من جنين بداية ثم إلى مناطق مختلفة في شمال الضفة ولاحقاً إلى مناطق في الوسط والجنوب، ترتكز أساساً على منع تحول المواجهة إلى استراتيجية شاملة تستمر وتتوسع، كما حصل في الانتفاضات والهبات السابقة.
تقوم سياسة الاحتلال النفسية في قمع المقاومة، على محاولة قتل صورة "البطولة" من ذهنية المجتمع الفلسطيني، من خلال حرمان المقاوم من كتابة نهاية بطولية لمسيرته النضالية. في ذهن كل فلسطيني حين يذكر أي شهيد أو أسير مشهد اعتقاله، في الذاكرة الفلسطينية مئات القصص عن مقاومين فلسطينيين قاوموا حتى النهاية أو نفاذ ذخيرتهم، كان لهذه الصور حضورها الدائم في إشعال الذاكرة الفلسطينية للأجيال المتعاقبة ودفعها إلى المقاومة في سياقها النخبوي الذي يرى في نفسه "فدائياً" عن مجتمعه.
في 24 تموز/ يوليو الماضي، حاصرت قوات خاصة من جيش الاحتلال مدعومة من أجهزة الاستخبارات والمنظومات التكنولوجية المتقدمة، منزلاً في البلدة القديمة بمدينة نابلس. ادعى الاحتلال أن العملية استهدفت مجموعة للمقاومة من مختلف الفصائل.
ما نعرفه أن مقاومين هما محمد العزيزي وعبد الرحمن صبح خاضا معركة استمرت لعدة ساعات، مع قوات كبيرة مجهزة بمختلف أنواع العتاد، رفض محمد وعبد الرحمن الاستسلام لجنود الاحتلال وقاتلا حتى الشهادة.
بعد أيام على شهادة العزيزي وصبح، كررت قوات الاحتلال الخاصة غارتها على البلدة القديمة في نابلس. كان الهدف القائد إبراهيم النابلسي الذي تحصن مع رفيقه إسلام صبوح داخل منزل في المنطقة.
اشتبك إبراهيم وإسلام مع القوات الخاصة حتى الشهادة، وقبل استشهادهما كانت وصيتهما لرفاقهما من بعدهما: "بحياة عرضكم ما تتركوا البارودة".
كانت هذه الوصايا الصغيرة "عميقة التأثير" حضر واضحاً على مواقع التواصل الاجتماعي، وفي الشارع الفلسطيني، خاصة بين الأجيال الشابة والفتية، التي بات ملاحظاً تأثرها بالجيل الجديد من المقاومين، من خلال سلوكيات اجتماعية تحمل إشارات واضحة (ارتداء صورهم على الملابس، وإطلاق أسمائهم على المواليد، والنشر المكثف عنهم في مواقع التواصل الاجتماعي".
المسار المتجدد من مقاومة الاعتقال، ظهر في تجربة القائد في سرايا القدس علاء زكارنة الذي اشتبك مع جيش الاحتلال داخل منزل في بلدة قباطية جنوب جنين، حتى نفذت ذخيرته.
بعد ساعات من المواجهة في قباطية، خاض المقاومين نبيل الصوالحي ونهاد عويص اشتباكاً مع قوات خاصة من جيش الاحتلال حاصرتهما في منزل، ببلدة روجيب شرق نابلس. صمد نبيل ونهاد لعدة ساعات وسط قصف عنيف للمنزل بقذائف "الانيرحا"، حتى نفذت ذخيرتهما.
قبل شهور من هذه الأحداث، كان للأسير محمود الدبعي تجربة مماثلة في الصمود. واجه محمود قوات كبيرة من جيش الاحتلال لعدة ساعات، تعرض فيها المنزل الذي تحصن فيه لقصف عنيف بصواريخ "الانيرجا"، ورغم إصابته بقي مصمما على المواجهة.
أبعاد صمود المقاومين لا تتوقف على الجانب التعبوي للمجتمع الفلسطيني، بل يضرب أساساً استراتيجية "طنجرة الضغط" في بعدها النفسي القائم على محاصرة المقاوم، من خلال حصاره ودفعه إلى مكان ضيق لا يملك فيه سبيلاً للمقاومة، وتصبح القوات الخاصة في جيش الاحتلال كأداة في عملية "كي الوعي".
بعد انتهاء معركة قلعة شقيف خلال اجتياح لبنان عام 1982، سأل رئيس حكومة الاحتلال حينها ضابطاً شارك في المواجهة: "هل استسلم أحد منهم؟" فرد عليه الضابط الذي ذاق مرارة خسارة عشرات الجنود في الموقع: "لا سيدي لقد قاتلوا بشراسة، لم يستسلم منهم أحد، قتلوا جميعاً"، هذا الإرث من الصمود نراه مع الشهيد عصام براهمة الذي قاتل من تحت ركام منزل في عنزة، ومراد القواسمي الذي قاتل حتى دمر الاحتلال المنزل عليه، ونايف أبو شرخ ورفاقه في البلدة القديمة الذين صمدوا في نفق حتى الشهادة التي اختاروها بديلاً عن التسليم، ومحمد الفقيه ومحمد سعدات ومئات من الشهداء الذين بقي إرثهم حاضراً في معركة الوعي مع دولة الاحتلال.